"أخشى أن ترى ادارة بوش في الانتخابات الأميركية تصديقاً وتبريراً لسياساتها في الشرق الاوسط، خصوصاً وان الرئيس بوش لم ينتهج خلال السنوات الاربع سوى سياسة الحرب في المنطقة". هذه الكلمات التي أدلت بها ليلى شهيد، مفوضة فلسطين في باريس، كانت أبلغ تعبير عما يجيش هذه الايام في صدور "الشرق أوسطيين" من خشية وقلق وتوتر. وهم على حق تماماً في قلقهم. فبوش - 2، الذي حقق ما يمكن ان يكون نصراً تاريخياً للجمهوريين المحافظين والانجيليين في أميركا، سيواصل على الارجح سياسات بوش- 1 في الشرق الاوسط والعالم، ولكن هذه المرة بنزعة هجومية "عدوانية" أقوى وأعنف. قال كولن باول ل"فايننشال تايمز": "الرئيس بوش فاز بتفويض من الشعب الأميركي لمواصلة انتهاج سياسة خارجية نشطة وقوية. انه لن يطوي أشرعته أو يتراجع. ما سيجري سيكون استمراراً لمبادئه وسياساته ومعتقداته". استمرار للمبادئ والمعتقدات؟ ألا تعني هذه مبادئ معتقدات الحرب الاستباقية، والمعركة "النهائية" بين "الخير والشر"، وتغيير لوحة الشرق الاوسط الكبير كمدخل لاحكام القبضة الاستراتيجية الأميركية على جغرافيا قارة أوراسيا، ومعها 70 في المئة من موارد العالم النفطية؟ أجل. تعني كل ذلك، وما هو أكثر أيضاً. فمن الآن فصاعداً، لن يكون الرئيس الاميركي مقيداً بأي شيء يمكن أن يفرمل اندفاعته الكبيرة في الشرق الاوسط الكبير، الذي سيخوض على أرضه معركة تحويل القرن الحادي والعشرين الى قرن أميركي جديد. ومن الآن فصاعداً لن يكون الرئيس الأميركي خاضعاً لسلطة "تأثيرات السي أن أن" الاعلامية، التي تكبل أيدي الآلة العسكرية الاميركية، ولا لمخاطر تعداد الكونغرس لأكياس البلاستيك التي تحمل جثث الجنود الأميركيين. فالناخبون الذين اقترعوا له من أجل القيم الاخلاقية والدينية في سياساته الداخلية، كانوا يقترعون له أيضاً من أجل مواصلة الحروب في سياساته الخارجية. والأرجح ان بوش ينوي تجرّع كأس حرية الحركة هذه حتى الثمالة. لكن كيف؟ جدول أعمال ادارة بوش - 2 الشرق اوسطي يتضمن الآتي: 1- حرب العراق، ومعها الحرب ضد الارهاب. 2- الحرب ضد التسلح النووي الإيراني. 3- "ادارة" حرب الصراع العربي- الاسرائيلي. 4- مشروع تغيير خريطة الشرق الاوسط الكبير. من بين هذه الأهداف الاربعة، يبرز العراق كأولوية قصوى. ففيه سيتقرر مصير موقع بوش في التاريخ. ومنه سيتحدد مدى قدرة الولاياتالمتحدة على حكم العالم بالشكل الانفرادي الذي يريده بوش. كتب وولتر رسل ميد، أحد أبرز المحللين الاستراتيجيين في مركز هنري كيسنجر للأبحاث: "بوش سيحاول في ولايته الثانية حجز موقع له في كتاب التاريخ. بيد ان نجاحه او فشله في ذلك، سيعتمد على نجاحه او فشله في العراق". وأضاف: "لم تعد لدى بوش الان مبررات للتردد. فهو يمتلك تفويضاً، ويسيطر على مجلسي الكونغرس، ويهمين بشكل كامل على آلة السياسة الخارجية. الحرب في العراق هي من اختياره، ومن تخطيطه، وتحت قيادته، وهو سيكون في وضع جيد مع التاريخ إذا تمكّن ولو بعد سنتين من تهدئة العراق". الترجمة العملية لحقيقة أولوية العراق في جدول الاعمال، تمت فور اعلان فوز بوش في الانتخابات. فبعد ساعات قليلة من اقفال أقلام الاقتراع في أميركا، كانت تفتح أبواب جهنم في بلاد ما بين الرافدين، وبالتحديد في الفلوجة التي يطلق عليها الاميركيون اسم "عاصمة التمرد والعصيان". الهدف المعلن كان تقليص حجم الانفلات الأمني، بهدف توسيع حجم العملية الانتخابية العراقية التي يفترض أن تجري في اواخر كانون الثاني يناير المقبل. بيد ان هناك هدفاً آخر وأخطر غير معلن: تدمير الفلوجة لجعلها عبرة لمن يعتبر من باقي مدن العراق، وكخطوة لكسب معركة حرب العصابات في البلاد. الأميركيون من أنصار بوش يشبهون معركة العراق بمعركة المكسيك التي خاضتها الولاياتالمتحدة في الفترة بين 1846 - 1848، والتي كبدتها خسائر كبيرة لكنها أكسبتها أيضاً مساحات كبيرة من الاراضي. أو بمعركة حرب العصابات الفليبين التي أعقبت الحرب الأميركية - الاسبانية، والتي ربحتها اميركا أيضاً بعدما دفعت ثمنها اربعة آلاف قتيل وآلافاً عدة اخرى من الجرحى. بيد ان التشبيه الاخطر كان مع فيتنام. فقبل بدء الهجوم الشامل على الفلوجة، ألقى القادة الميدانيون الاميركيون خطباً تعبوية أمام جنودهم، ركزّوا فيها على تشبيه الفلوجة بمدينة هيو الفيتنامية التي استعادتها قوات المارينز من الثوار الفيتناميين العام 1969 واعتبرت آنذاك انتصاراً عسكرياً كبيراً. هذه المقارنة لم تكن عفوية. اذ ان القيادة العسكرية الأميركية تشدّد منذ اشهر عدة على "ضرورة الانتقام من فيتنام في العراق". بيد ان هذا ليس فقط لمجرد الانتقام، بل أيضاً لأن هذه القيادة تعتقد بأن حروب القرن الحادي والعشرين ستخاض أساساً في المدن وضد منظمات لا دول. هذا التوجّه كان واضحاً في العراق حتى قبل اتضاح فوز بوش الحاسم في الانتخابات. فقد أكد أنطوني كوردسمان، رئيس دائرة الاستراتيجيا في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن، أن تعثّر الاحتلال الاميركي للعراق، لن يدفع واشنطن لا الى الانسحاب من العراق ولا الى التخلي عن فكرة السيطرة عليه. كل ما سيحدث، هو مجرد تغيير موقت في الاستراتيجية، ثم مواصلة العمل الدائم لتحقيق الهدف". وأضافت الى ذلك المحللة البريطانية أميتي شيلز الملاحظة المثيرة الآتية: "الاميركيون يقارنون الآن العراقبفيتنام. لكن هذا بالتأكيد ليس وفق النقاش الفيتنامي القديم. صعوبة السيطرة العسكرية الاميركية على العراق تثير بالفعل ذكريات فيتنام، لكنها لا تؤدي الى المطالبة بالانسحاب من بغداد كما من سايغون، بل تدفع على العكس الى مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر". هذه الانطباعات، كما قلنا، برزت قبل الانتخابات الاميركية، في خضم محاولات المرشح جون كيري للافادة من مأزق بوش في بلاد العباسيين. والآن، ومع غياب كيري والديموقراطيين عن الساحة، سيكون هدف الانتقام من فيتنام في العراق هو الطبق الأشهى، ليس فقط في البيت الابيض، بل حتى أيضاً لدى بعض الدوائر الليبرالية والديموقراطية الاميركية التي تحفظت في السابق عن حرب العراق. وهكذا، انبرت "نيويورك تايمز" فجأة للمطالبة بارسال فرقتين مقاتلتين جديدتين 40 ألف جندي الى العراق، بعدما كانت تدعو في السابق الى "استراتيجية خروج" اميركية بمساعدة الأممالمتحدة وأوروبا. وإذا لبّت ادارة بوش هذا الطلب، فإنه لن يعني شيئاً آخر سوى اعداد العدة ل"اعادة غزو العراق" مجدداً. والواقع ان هذا الاحتمال الاخير، بات أكثر من مجرد احتمال. فحكومة أياد علاوي أعلنت حال الطوارئ للمرة الاولى منذ سقوط نظام صدام حسين، وأغلقت المطار والحدود مع سورية وايران، وفرضت حظر التجوال في بغداد. وهذا كان مؤشراً واضحاً على أنها تتوقع مواجهات عسكرية شاملة تنطلق من الفلوجة لتشمل كل انحاء البلاد. وفي الوقت نفسه، كان العديد من المسؤولين الاميركيين يلمحون الى أن الاولوية الحقيقية الآن باتت لكسب الحرب وليس لكسب قلوب العراقيين وعقولهم. وهذا سكب ماء مثلجة على رؤوس الذين اعتقدوا أن الانتخابات العراقية المقبلة، ستكون هي مخرج ادارة بوش من ورطتها العراقية. والآن، إذا استمرت وتائر العمليات العسكرية الراهنة، والتي تترافق مع وتائر "صدمنة" من صدام متزايدة لنظام أياد علاوي، فان انتخابات كانون الثاني يناير لن تكون أكثر من نسخة غير منقحة من انتخابات تشرين الاول اكتوبر في أفغانستان، التي كرّست تفتيت البلاد وتقاسمها بين أمراء حرب تديرهم وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. السيناريو لمثل هذه الافغنة الانتخابية جاهز: اجراء انتخابات غير تنافسية عبر تشكيل "وحش انتخابي ائتلافي" يضم الأحزاب والقوى السياسية الرئيسة العلمانية والدينية والكردية نفسها التي شكلّت مجلس الحكم السابق، والتي ستتفق في ما بينها مسبقاً على الحصص في البرلمان والحكومة. ماذا يمكن ان تعني هذه التطورات المحتملة اقليمياً، خصوصاً لايران وسورية ولبنان؟ الكثير. فبالنسبة الى طهران، يمكن ان تعني بعض الفرص والكثير من المخاطر. الفرص تتمثلّ في الافادة من أولوية العراق في واشنطن لمحاولة الوصول الى حلول وسط مع ادارة بوش- 2، يمكن ان تبعدها عن شاشة الرادار الاميركي. والمخاطر تتجسّد في امكان قفز ايران من المرتبة الثانية من الاولويات الاميركية الى المرتبة الأولى، في حال ارتكبت "أخطاء نووية" ما، أو اقليمية عراقية أو لبنانية أو سورية ما. أما بالنسبة الى سورية ولبنان فتبدو الصورة أخطر. فإدارة بوش-2 لن تقبل بعد الآن بأقل من دور سوري داعم لاحتلالها للعراق كما فعلت دمشق حين دعمت بوش الأب في الكويت. واحتمال تعزيز نفوذ المحافظين الجدد الاميركيين في الادارات الاميركية، مثلاً عبر تعيين بول ولفوفيتز مستشاراً للأمن القومي، سيجعل هذا الدمج بين الوضعين العراقي والسوري مزيجاً كيماوياً متفجّراً يمكن أن يشتعل في أي لحظة. وبالطبع، حين تعطس سورية، لن يستطيع لبنان الا ان يصاب بالزكام، خصوصاً إذا قررت المعارضات المسيحية والسنيةّ والدرزية ان الوقت حان اما لإعلان لا شرعية تمديد ولاية الرئيس اميل لحود في أواخر هذا الشهر، أو لتصفية الحسابات مع دمشق وبعبدا في الانتخابات المقبلة، من خلال استخدام الضغط الدولي لوضع قانون انتخابي يستند الى الدائرة الصغرى. هل يمتلك هذا المشروع الأميركي المتجدد مقومات النجاح؟ لا احد يجرؤ على التنبؤ، خصوصاً بالنسبة الى مشروع الغزو الثاني للعراق. فحسم حرب العصابات بنجاح، ليس أمراً محسوماً. وتدمير الفلوجة الذي يراد منه "ارهاب الارهابيين"، يمكن ان يؤدي على العكس الى انتشار المقاومة المسلحة في كل انحاء البلاد. ثم هناك أمر آخر: ما لم يحصل الشيعة السيستانيون من أنصار آية الله السيستاني على مبتغاهم بانتخابات تؤدي الى دستور من صنع أيديهم، فقد لا يطول الوقت قبل ان يفقدوا هم أيضاً ايمانهم بحل سلمي للاحتلال العسكري الأميركي لبلادهم. لكن هناك شيئاً يبدو مؤكداً: الشرق الاوسط مقبل على شهور، وربما سنين، عجاف. صحيح أن البؤرة الاساسية للتطورات الساخنة ستكون في العراق. لكن الصحيح أيضاً أن احداً في المنطقة لن يتمكن من القول بأنه سيكون بمنأى عن تأثيرات الانفجار العراقي