من استراليا التي زارها الرئيس جورج بوش أخيراً أعلن بوضوح أن القوات الأميركية باقية في العراق. ومن قاعدة عسكرية أميركية حصينة في العراق زارها جورج بوش خطفا في الطريق إلى استراليا ألمح إلى احتمال سحب جزء من القوات الأميركية. لكنه في اللحظة نفسها شدد على أن الانسحاب لن يتم بضغوط من"سياسيين متوترين"في واشنطن، في إشارة واضحة لانتقادات الديموقراطيين للحرب والمطالبات المتكررة بالانسحاب. في الواقع إن الرئيس جورج بوش يعول كثيرا على تقرير عسكري - سياسي مشترك سيقدمه خلال أيام كل من الجنرال ديفيد بترايوس القائد الأميركي في العراق وريان كروكر السفير الأميركي هناك. تقرير من المفترض أن يوضح المدى الذي تقدمت إليه الأوضاع في العراق على ضوء زيادة القوات العسكرية الأميركية إلى 160 ألفا. بالطبع لن يستطيع التقرير تجاهل المأزق الأميركي في العراق، لكنه بالتأكيد سيقول إن تقدما جرى في أرض الواقع بما يبرر فكرة الرئيس بوش الأساسية بالمطالبة بالمزيد والمزيد من الوقت والصبر. لقد تحدث أنصار الرئيس جورج بوش في الحزب الجمهوري الحاكم أخيراً عن أن القرارات المستقبلية بشأن"التمثيل العسكري"للولايات المتحدة في العراق يجب أن تأخذ في الاعتبار ضرورة ضمان الانتشار الدائم للقوات الأميركية في الشرق الأوسط"للمساعدة في تعقب قيادات تنظيم القاعدة وردع إيران"على حد تعبير السيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل. أما بالنسبة للرئيس جورج بوش نفسه فقد أصبح ملفتا أنه كرر خلال الأسابيع الأخيرة الإشارة إلى دروس حرب فيتنام كمبرر وسبب أساسي لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق. جاءت تلك الإشارات المتكررة خصوصا حينما قال الرئيس بوش الشهر الماضي مثلا أمام رابطة المحاربين القدامى:"إن من ضمن التركة التي خلفتها حرب فيتنام أن ثمن انسحاب الولاياتالمتحدة دفعه ملايين المواطنين الأبرياء الذين أضافت آلامهم ومعاناتهم مفردات وعبارات مثل لاجئي القوارب ومعسكرات إعادة التأهيل التي أقامتها الحكومة الفيتنامية عند انسحاب الولاياتالمتحدة". أما كارل روف مستشار جورج بوش والذي جرت التضحية به أخيراً فقد كتب يقول:"إذا جاءت المحصلة النهائية - في العراق - مشابهة لما حدث في فيتنام بعد أن تخلت الولاياتالمتحدة عن حلفائنا وسادت الفوضى وأعمال العنف في المنطقة، فإن حكم التاريخ سيكون قاسيا. التاريخ سيعتبر الرئيس جورج بوش على صواب، ومعارضي سياسته على خطأ". عند هذا الحد يحتار المرء. فلا يمكن لرئيس دولة عظمى، ولمستشاريه المقربين، أن يتعاملوا مع الجانب الخطأ من التاريخ على أنه الجانب الصحيح، خصوصا أن حرب فيتنام مثلت جرحاً غائراً في الشخصية الأميركية ما زال مستمراً حتى الآن. وبعد مئات الكتب وآلاف الوثائق أصبح الدرس الكبير هو أن تلك الحرب كانت باهظة الثمن 58 ألف قتيل أميركي ومليونا فيتنامي. وقامت من البداية على كل المبررات الخطأ والتصورات الأكثر خطأ. أول المبررات كان أن السماح لفيتنام الشمالية بتحقيق الوحدة مع فيتنام الجنوبية يعني سقوط الجنوب الرأسمالي في براثن الشمال الشيوعي، بما سيبدأ تفعيل نظرية"الدومينو"، فيتنقل التأثر إلى كل دول آسيا المجاورة. أميركا اضطرت إلى الانسحاب المهين من فيتنام الجنوبية في سنة 1975، التي توحدت فورياً مع فيتنام الشمالية. والشعب الفيتنامي - جنوباً وشمالاً - اعتبر هذا التطور انتصاراً تاريخياً غير مسبوق وتتويجاً لنضاله التاريخي ضد قوى الغزو الأجنبي. لكن الأيام والسنوات مضت بغير أن تعمل نظرية"الدومينو"إياها أو أن تتحول دولة واحدة في الجوار الآسيوي إلى الشيوعية. بالطبع ساعدت في ذلك تطورات جذرية لاحقة في مقدمها نهضة اقتصادية غير مسبوقة في المنطقة، لم تكن الولاياتالمتحدة بعيدة عنها. إنما المهم هو أن الأخطار التي جرى التحذير والتخويف منها طوال سنوات كمبرر لعدم انسحاب أميركا عسكريا من فيتنام الجنوبية ثبت أنها كانت تحذيرات كاذبة ومضللة من الأساس. والآن في 2007 يكرر الرئيس جورج بوش الإشارة إلى فيتنام من الباب الخطأ في التاريخ، سعياً إلى تبرير استمرار الاحتلال الأميركي للعراق، ولعقود طويلة مفتوحة مقبلة. ليس معروفاً عن الرئيس بوش سعة الاطلاع أو حب القراءة أصلا بما يتجاوز عناوين الصحف ومقدمات نشرات الأخبار. لكنه يستطيع على الاقل تكليف أحد مساعديه بأن يلخص له شهادة أكثر الأميركيين التصاقا بتلك الحرب وهو روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي في إدارتي جون كينيدي وليندون جونسون إلى أن أقيل أو استقال في سنة 1968 بعد أن وصل إلى قناعة كاملة بأن على أميركا أن تنسحب من فيتنام، وبأسرع ما يمكن، تاركة فيتنام للفيتناميين. شهادة روبرت ماكنمارا صدرت في مذكراته المطبوعة، وبصوته في فيلم وثائقي، وفي عشرات الندوات التي حضرها محذرا الأميركيين من أن يسمحوا لبلادهم بالتورط في أي فيتنام أخرى أو ما يشبهها، فغلطة واحدة يرتكبها جيل من السياسيين تكفي عشرة أجيال لاتخاذ الموعظة والعبرة. المفارقة هنا، ولا ينكرها ماكنمارا نفسه، هي أنه تولى منصب وزير الدفاع وهو من أشد المتحمسين لاستخدام القوة العسكرية الأميركية الضاربة والطاغية في فيتنام الجنوبية ضد فيتنام الشمالية والتوسع فيها. وفي مرحلة تالية اشتهر ماكنمارا بمؤتمراته الصحافية التي كان يعقدها يوميا في واشنطن ليتم تصديرها إلى أنحاء العالم في التو واللحظة، ليتحدث فيها بالأرقام والرسوم التوضيحية عن أعداد القتلى - من الفيتناميين طبعاً - كمؤشر مؤكد على انتصار أميركا زعيمة"العالم الحر"ضد الشيوعيين الفيتناميين"العملاء". بالطبع لم يشر روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي في أي من مؤتمراته الصحافية تلك إلى قنابل النابالم الحارقة، والمحرمة دولياً، التي استخدمتها القوات الأميركية ضد المدنيين الفيتناميين، ولا إلى القصف الشامل الذي مارسته عشوائيا، ولا إلى القرى الفيتنامية التي جرى تدميرها بالكامل. وبالطبع لم يعلق مطلقا على مشهد الأسير الفيتنامي المقيد اليدين الذي جرى قتله برصاصة في الرأس أمام الكاميرات، ولا على مشهد الطفلة الفيتنامية التي سجلت الكاميرات صورتها وهي تركض عارية تماما باكية صارخة هاربة من الآثار التي طالتها من قنابل النابالم الحارقة التي طالت جسدها النحيل. أيضا لم يعلق روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأميركي في حينه على مشهد المظاهرات الغاضبة ضده، وفي المقدمة ابنه شخصيا، الرافضة لكل ما تقترفه أميركا في فيتنام. كلها مشاهد وصور تابعها العالم كله في حينه. لكن روبرت ماكنمارا اختار في حينه الصمت والتجاهل مفضلا الالتزام بالولاء المطلق لما يعتبره"المؤسسة"الحاكمة الأميركية. هو اختار الصمت. لكنه، كما تبين في ما بعد، اختار أيضا أن يعود إلى اصل الموضوع وإلى الجانب الصحيح من التاريخ وينبش في الوثائق السرية لوزارة الدفاع الأميركية عن الأسباب والملابسات الحقيقية التي ذهبت بأميركا إلى فيتنام: كيف تطور التورط الأميركي في فيتنام الجنوبية من بعثة مستشارين إلى كتيبة مسلحة تحمي المستشارين إلى فرقة عسكرية تحمي الكتيبة حتى أصبحت الذروة هي وجود 550 ألف جندي أميركي مقاتل في فيتنام؟ روبرت ماكنمارا يسجل في مذكراته أن في مقدم الخطايا الكبرى لأميركا في فيتنام هو أنها ذهبت إلى هناك خوفا من شبح اسمه الشيوعية الدولية، وجهلا كاملا بشعب اسمه الشعب الفيتنامي، وبزعيم لهذا الشعب في الشمال اسمه هوشي منه. أميركا تصورت أن فيتنام الشمالية تعمل لحساب موسكو وبكين، ورفضت بالمطلق أن تصدق أن ما يمارسه الفيتناميون هو نضال وطني سعياً إلى الوحدة والاستقلال. ماكنمارا اكتشف كذلك أن أميركا تورطت في فيتنام جاهلة تماماً تاريخ وثقافة ذلك الشعب، وساعد على ذلك قيام البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية بالتخلص مبكرا من كل المتخصصين الأميركيين في شؤون فيتنام وتلك المنطقة من آسيا، وحدث ذلك قبل سنوات حينما اجتاحت أميركا حمى"المكارثية"التي وجهت الاتهام بالتعاطف مع الشيوعية لكل من لا تثق به"المؤسسة"الحاكمة بالكامل، ومن ثم جرى تطهير الحكومة الأميركية منهم عشوائيا بتهمة مسلطة هي النقص في الوطنية... إن لم تكن الخيانة. قصة أميركا في فيتنام تطول وتطول. لكن بعد محنته الشخصية أراد روبرت ماكنمارا في خريف عمره أن ينبه شعبه إلى الدروس الحقيقية من ورطة فيتنام، وأهمية التعامل الأميركي مع الشعوب الأخرى من الباب الصحيح وليس من الباب الخطأ. فبين العراقوفيتنام اختلافات جوهرية عديدة. لكن من بين أوجه التشابه أن أميركا في غزوها للعراق اعتمدت على مشورة حفنة من"المعارضين بالمراسلة"الذين صوروا للأجهزة الأميركية أن غزو العراق سيكون نزهة، وأن الشعب العراقي سيستقبل الغزاة الأميركيين بالورود والرياحين. ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي قال ذلك، وأيضا دونالد رامسفيلد وزير الدفاع. بل إن الأخير رفض تماما إعادة العمل بنظام التجنيد الإجباري الذي أوقف العمل به منذ سنة 1975، أولاً لأن ذلك قد يذكر الأميركيين بفيتنام، وثانياً لأن غزو العراق واحتلاله والبقاء فيه لن يستلزم قوات كبيرة. تكفي فقط صواريخ كروز وطائرات الشبح وقوات برية محدودة لكي تكتمل"النزهة"العراقية. هل كان الأمر يرجع إلى غرور القوة؟ أو ثقة في عملاء الاستخبارات الأميركية؟ أو جهل بالتاريخ؟ أو كل هذا معا؟ في تصريحات نشرت في لندن أخيراً تكلم الجنرال البريطاني تيم كروس الذي كان أعلى مسؤول في الجانب البريطاني الحليف لأميركا في غزو العراق ومعنيا بالتخطيط لما بعد الحرب إثر سقوط صدام حسين. قال الجنرال:"منذ البداية كنا قلقين جدا لنقص الدقة في خطة ما بعد الحرب، وليس لدي أدنى شك في أن رامسفيلد كان في صلب العملية". ويضيف الجنرال البريطاني:"تناولت الغداء مع رامسفيلد في واشنطن قبيل الاجتياح في 2003 وعبرت له عن قلقي لجهة ضرورة تدويل إعادة إعمار العراق والعمل في شكل وثيق مع الأممالمتحدة وكذلك لعدد القوات الضروري لحفظ الأمن والمساعدة على إعادة الإعمار". لكن"رامسفيلد لم يشأ الإصغاء لتلك الرسالة. فالأميركيون كانوا مقتنعين أصلا بأن العراق سيخرج بسرعة نسبيا من كل ذلك كديموقراطية مستقرة... أنا شخصيا وآخرين أكدنا أن الأمور لن تكون بهذه السهولة، ولكنه لم يأبه لتلك الملاحظات ورفضها". مرة أخرى: هل كان الأمر يرجع إلى غرور القوة؟ أو ثقة في عملاء الاستخبارات الأميركية؟ أو جهل بالتاريخ؟ أو كل هذا معا؟ ثم إن أميركا بعد احتلالها بغداد بدأت بارتكاب خطايا متلاحقة، في مقدمها حل الجيش العراقي، وهو ما اعتبره حتى حلفاء أميركا حماقة كبرى. وأخيراً، في مقابلة مع مؤلف كتاب جديد عن جورج بوش، تنصل الرئيس الأميركي من أي مسؤولية عن حل الجيش العراقي قائلا:"إن السياسة الأميركية في العراق كانت تهدف إلى الإبقاء على الجيش سليما، لكن هذا لم يحدث". وعلى الفور خرج بول بريمر مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق وقت حل الجيش العراقي، ليكذب رئيسه. ونشرت صحيفة"نيويورك تايمز"خطابات متبادلة بين الرئيس بوش وبول بريمر تشير إلى أن بريمر أبلغ الرئيس بوش في ايار مايو 2003 بخطته لحل الجيش العراقي والاستخبارات العراقية، وحصل مسبقا على موافقة الرئيس في حينه. مرة ثالثة: هل كان الأمر يرجع إلى غرور القوة؟ أو ثقة في عملاء الاستخبارات الأميركية؟ أو جهل بالتاريخ؟ أو كل هذا معا؟ أغلب الظن: كل هذا معاً. * كاتب مصري