قبل ثلاثة أشهر ونصف الشهر، وبالتحديد في 15 تموز يوليو الماضي، كشف النقاب عن وثيقة سرية إسرائيلية تحدد توقعات الدولة العبرية وتوجهاتها في حال غياب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. الوثيقة، التي وضعتها وزارة الخارجية ووقعت في خمس صفحات، توقعّت إنهيار السلطة الفلسطينية، وتحركّ الاسلاميين الفلسطينيين لمحاولة ملء الفراغ، واندلاع اضطرابات في "أجزاء أخرى من الشرق الاوسط"، على حد تعبيرها. وهي أوصت بشن عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق في قطاع غزة "إذا ما خرجت المجموعات الاسلامية، بقيادة "حماس" من معاقلها في مخيمات اللاجئين، لمحاولة السيطرة على مؤسسات السلطة الفلسطينية". كما شددتّ على ضرورة رفض دفن الرئيس عرفات في القدس في حال وفاته. هل توقعات "يوم الآخرة" الاسرائيلية هذه في محلها؟ لنقل، أولاً، ان احتمال غياب عرفات سيخلق بالفعل فراغاً لن يستطيع أحد ملؤه بسهولة. فالرجل ليس فقط قائداً سياسياً لشعبه، بل هو أيضاً رمزه الوطني. إضافة إلى أن عرفات كان طيلة 50 عاماً "السيد فلسطين"، على حد تعبير صحافي اميركي، الذي تركزّت في شخصه كل السياسات والاستراتيجيات، ومعها كل المؤسسات الفلسطينية. عرفات كان القائد الأوحد للحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها العام 1959، خصوصاً بعد اغتيال رفيقيه أبو جهاد وأبو اياد ووفاة الشخصية البارزة فيصل الحسيني. وهو إعتمر فوق ذلك أربع قبعات دفعة واحدة بكونه: الرئيس المنتخب للسلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة "فتح"، وأيضاً رئيس دولة فلسطين التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988. ولا يجب ان ننسى، بالطبع، أنه أمسك دوماً، وشخصياً، بكل صنابير الأموال في المؤسسات الفلسطينية كافة. ولنقل، ثانياً، ان القادة الفلسطينيين سيجهدون الآن لمحاولة ملء هذا الفراغ، قبل أن تدب الفوضى والاضطرابات الى كل انحاء غزة والضفة، وحتى في منافي الدياسبورا الفلسطينية أيضاً. وهكذا يمكن للقادة، مثلاً، الاتفاق على أن يكون الرئيس الجديد هو محمود عباس أبو مازن، الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية والرجل الثاني فيها بعد عرفات، الذي يحظى بتأييد العديد من النواب في البرلمان الفلسطيني، وبدعم الاميركيين والاوروبيين. كما يمكن أيضاً، وفق الدستور غير المقر، أن يكون رئيس البرلمان هو الرئيس الموقت، على أن تجري إنتخابات رئاسية بعد 60 يوماً. بيد أن هذا البديل الديموقراطي الوردي، قد يثبت أنه بديل وردي وهمي. فعرفات لم يترك وراءه آلية مؤسساتية لنقل السلطة. وحتى قبل سقوط الرئيس الفلسطيني بين براثن المرض كان الوضع الفلسطيني الذي يقود أشبه بسفينة فقد ربانها السيطرة عليها، فضيّعت اتجاهها وانقسم بحارتها الى فرق مستقلة لا رابط بينها. الرئيس... ضمان الدولة والشعب فالنظام السياسي الفلسطيني الذي أنتجته اتفاقات أوسلو، تهاوى بسبب الحصار من خارج والانقسامات من داخل. وهو لم يعد قادراً على توفير المتطلبات الاساسية المطلوبة من أي سلطة سياسية، وهي ضمان الأمن والقانون وتأمين الحاجات المعيشية الاساسية والامساك بناصية القرارات والمبادرات، إضافة الى بلورة البرامج السياسية. يقول روبرت مالي، مدير دائرة الشرق الاوسط في "انترناشنال كرايسيس غروب": "السلطة الوطنية الفلسطينية لم تعد وطنية وبالكاد تمارس سلطة. فقوات أمنها، التي تعرضّت الى الجزء الأكبر من الهجمات الاسرائيلية، جردتّ الى حد كبير من سلاحها وهي لا تمتلك حرية الحركة، ونشاطاتها أصبحت في أحسن الاحوال عشوائية". والأخطر ان حركة "فتح"، التي تعتبر العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، تفككت سياسياً وتحللّت جغرافياً، ووضع أنشط قادتها خلف القضبان الاسرائيلية. وهي قد لا تبقى على قيد الحياة كتنظيم موّحد خلال الصراع على السلطة الذي سينشأ بعد رحيل عرفات. هناك الآن قوى مختلفة ومتباينة تحاول ملء هذا الفراغ الخطر: القوى التقليدية المتكونة من رؤساء البلديات والمحافظين وروابط الأسر والعشائر، التي تعمل على وراثة مؤسسات السلطة الوطنية المطروحة أرضاً. أجهزة الامن المختلفة والميليشيات المسلحة، خصوصاً تلك التي تعمل تحت مظلة الاطار الفضفاض ل"كتائب شهداء الاقصى". الكتائب كانت في الاساس مولوداً فتحاوياً هدفه قيادة الكفاح المسلح، لكنها اليوم تعمل بشكل لا مركزي وفوضوي. ففي بعض الاحيان، تعتمد مجموعات من الكتائب على مسؤول في "فتح" أو في السلطة الوطنية للحصول على التمويل والاسلحة، وفي أحيان أخرى تحصل على ذلك من مجموعات مثل "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله" اللبناني. ويعتقد المحللون بأن "كتائب الأقصى" بدأت تصبح رويداً رويداً أدوات لشن الصراعات الداخلية الفلسطينية والنزاعات الأقليمية الاوسع. حركة "حماس" التي تحاول جاهدة، على رغم الضربات الاسرائيلية المشّلة التي تتعرض لها مواردها المالية والقيادية، وراثة "فتح" كقائد للحركة الوطنية. وهي كانت تنوي تحدي عرفات ومنافسته في الانتخابات المقبلة. ثم هناك بالطبع ما يسمى ب"نخبة أوسلو"، التي تقاتل بشراسة الآن للحافظ على ما تبقى لها من سلطة وامتيازات. وعلى رغم ضرورة عدم التقليل من خطورة الخلافات بين "فتح" و"حماس"، إلا أن الصراع الحقيقي هو أساساً بين "نخبة اوسلو" الحرس القديم وبين "نخب الانتفاضة" "الحرس الجديد أو الشاب. تتشكل نخبة اوسلو من قادة منظمة التحرير الفلسطينية المتقدمين في السن وعلى رأسهم عرفات نفسه، إضافة الى محمود عباس وأحمد قريع ونبيل شعث. هؤلاء الرجال عاشوا القسم الأكبر من حياتهم في المنفى، خصوصاً في تونس حيث كان مقر قيادة السلطة الفلسطينية، لذا يطلق عليهم الفلسطينيون لقب "التوانسة". وكثيرون منهم من عاد الى فلسطين من المنفى نتيجة اتفاقات اوسلو. في المقابل، "نخبة الانتفاضة" ولدت ونشأت في غزة والضفة الغربية، ويختلف تاريخها تمام الاختلاف عن تاريخ "نخبة اوسلو". فهي تنزع أكثر باتجاه الفقر الاقتصادي والمستوى التعليمي الافضل. أصحابها مستعدون للتفاوض مع اسرائيل كما هم مستعدون لمحاربتها، إذ لا أوهام لديهم حولها. وقد كانوا من أكثر الناقدين العلنيين للتسلط الذي مارسته السلطة الفلسطينية. الحرس الشاب هو من حارب اسرائيل في الانتفاضة الأولى 1987 - 1993 وكانت انتفاضة غير مسلحة أساساً، وهو من قاد انتفاضة الأقصى الأكثر عنفاً. وتضم هذه الجماعة مؤسسات متعددة المشارب من المجتمع المدني الفلسطيني. التنافس ما بين مجموعتي النخب هاتين، سيحدد مصير عملية انتقال السلطة الى درجة كبيرة وسيحدد أيضاً مسار السياسات الفلسطينية. إنه في الواقع صراع بين جيلين، لكنه صراع سوسيولوجي أساساً بين نمطين مختلفين من الرؤى و"مجموعتين مختلفتين من قوانين اللعبة السياسية". ونظراً إلى ان "مشروع السلام" في السنوات الماضية كان مخيباً من حيث نتائجه إذ أدى الى قيام مستوطنات جديدة واستقطاع أراضٍ جديدة من قبل اسرائيل، فمن المرجح أن يكون خليفة عرفات من نخبة الانتفاضة المحلية. لماذا وصل الوضع الفلسطيني الى هذه المرحلة الفوضوية؟ لا ريب في أن العوامل الخارجية لعبت دوراً كبيراً. فإدارة بوش قصمت ظهر السلطة الفلسطينية حين سحبت عنها الغطاء وسمحت للقوات الاسرائيلية باجتياح مناطقها وتدمير مؤسساتها الأمنية والسياسية وبناها الاقتصادية. وحكومة شارون أكملت المهمة بشن حرب لا هوادة فيها عليها. بيد أن الدور الكبير للعوامل الخارجية لا يعني أن مسؤولية العوامل الداخلية ليست كبيرة أيضاً. فنخبة أوسلو فشلت في ادراك معنى التغييرات الكبيرة التي طرأت على البيئة الاقليمية - الدولية مع مجيء شارون والمحافظين الجدد الاميركيين الى السلطة. كما فشلت أيضاً في التحضير لمرحلة ما بعد اتفاقات أوسلو، على رغم إدراكها أن المحافظين القدماء في تل أبيب والمحافظين الجدد في واشنطن قرروا نسف هذه الاتفاقات من أساسها. و"حماس" بدورها لم تدرك طبيعة هذه المتغيرات، فواصلت عملياتها الاستشهادية بعد أحداث 11 أيلول 2001 في أميركا، الأمر الذي مكّن الأميركيين والاسرائيليين من استنفار جزء لا بأس به من الرأيين العامين الأوروبي والدولي ضد الفلسطينيين. والحصيلة: تخبط السفينة الفلسطينية وضياعها. والخوف الأكبر الآن هو ان يؤدي رحيل عرفات الى سقوط أحد أهم انجازاته، وهو تحصين الحركة الوطنية الفلسطينية من التدخلات الخارجية. إذ في هذه الحال سيتم "تدويل" أو "تعريب" أو "ايرنة" من إيران الصراع على السلطة. وهذا سيقود لا محالة الى "أفغنة" فلسطين. هل كان التقرير السري لوزارة الخارجية الاسرائيلية يشير ضمناً إلى هذه الاحتمال، حين توقّع اضطرابات تبدأ في فلسطين وتنتشر الى "أجزاء أخرى في الشرق الأوسط"؟ الأرجح أن الأمر كذلك!