كان ياسر عرفات على بساطته وانفتاحه وشعبويته شخصية اشكالية شديدة التعقيد، ويمكن القول ان هذه الشخصية الاستثنائية لخّصت في مكنوناتها وفي رمزيتها التعقيدات والمداخلات المتضمنة في القضية الفلسطينية، والصراع العربي - الاسرائيلي. ولم يدرك معارضو ياسر عرفات، لا سيما من المحسوبين على المعارضة الفصائلية النمطية، طبيعة تلك الشخصية، فذهبوا بعيداً برميها بالكبائر، غير مدركين ابعاد هذه الشخصية الوطنية - التاريخية، التي ظلت تحاول التحايل على موازين القوى المختل بشكل فظيع لصالح اسرائيل، والتي ظلت تتنسّم صنع ثورة فلسطينية مستحيلة، في واقع عربي صعب ومشتت وعاجز، وفي ظل معطيات دولية غير مواتية على الاطلاق. بديهي ان هذا ليس وقتاً للمحاسبة، لكن اعادة ترميم الساحة الفلسطينية تتطلب في ما تتطلب، مراجعة المعارضة الفلسطينية لخطابها الذي اسست عليها معارضتها، والتي دفع الشعب الفلسطيني اثمانها، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، هذا الخطاب الذي شل المعارضة الفلسطينية ذاتها، وأضعف صدقيتها، وأدخل الفلسطينيين في تجاذبات مجانية فائضة لم تستفد منها إلا اسرائيل. لذا ليس المطلوب، في هذا المقام، الاعتذار فقط للراحل الكبير الذي كان زعيماً وقائداً ومناضلاً، والذي لم يقطع حبل الود والوصل مع معارضيه، على تبايناتهم، وانما المطلوب من الاساس الاعتذار للشعب الفلسطيني، لأن هذا الاعتذار/ المراجعة هي التي يمكن ان تمهد لاعادة اللحمة للطبقة السياسية الفلسطينية، والتأسيس لاعادة تأهيل منظمة التحرير وتفعيل دورها، وتحرير لخطاب النقدي الفلسطيني من التبعات التي كبل بها، في ثنائية ضدية ساذجة ومضرة مع أو ضد/ موافق أو معارض/ وطني أو خائن، نتيجة ضيق أفق المعارضة الفصائلية، وحساباتها السياسية المتضاربة. كان البعض في المعارضة الفلسطينية الفصائلية يأخذ على عرفات انه هيمن على منظمة التحرير، في حين ان الرئيس الراحل كان يحاول حماية استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، على طريقته، من الرياح والعواصف الاقليمية والدولية. واللافت هنا ان هذه المعارضة لم تذهب في خطابها الى حد المطالبة باعادة بناء منظمة التحرير على أسس جديدة، تضمن الديموقراطية والمأسسة والقيادة الجماعية، ولا سيما الأخذ بالحسبان الواقع الجديد في الساحة الفلسطينية، المتمثل بنهوض قوى سياسية جديدة وأفول قوى سابقة، لأنها كانت في الواقع تفضل الحفاظ على "الستاتيكو" السائد القائم على نظام "الكوتا" الفصائلية. والاهم مما سبق ان الفصائل المعارضة لم تتمكن من تقديم النموذج المحتذى للقيادة الجماعية وللديموقراطية المتوخاة وللمراجعة النقدية المطلوبة، في خطاباتها وبناها وعلاقاتها الداخلية، والتي ينبغي على الرئيس عرفات الأخذ بها، في ادارته للساحة الفلسطينية! اضافة الى انها عجزت عن توحيد ذاتها، كما عن تشكيل اي حالة بديلة تحظى بالحد الادنى من القبول من الشعب الفلسطيني! واذا تجاوزنا الحديث عن الشأن الداخلي فإن المعارضة السياسية الفصائلية لياسر عرفات، والتي استمرت طوال اكثر من عقدين، ومنذ ما بعد الخروج من بيروت، ولا سيما منذ توقيع اتفاق اوسلو 1993، تأسست على اعتبارات، او ادعاءات، عدة ملخصها ان الرئيس الفلسطيني فرط بالقضية الوطنية، وتخلى عن خيار الكفاح المسلح، وشق الشعب الفلسطيني. لكن مسيرة ياسر عرفات خيّبت هذه الادعاءات السطحية والمتسرعة، التي غالباً ما انطوت على شخصنة النقد السياسي والمبالغة فيه مثلما تضمنت مراعاة حسابات اقليمية معينة. وكما بات معلوماً فإن عرفات لم يذهب الى حد التفريط بالثوابت الفلسطينية، المتعلقة بالبرنامج المرحلي حل على اساس دولتين. وعلى رغم انه واجه ضغوطاً ثقيلة جداً اسرائيلية وأميركية ودولية واقليمية في مفاوضات كامب ديفيد، رفض التنازل عن الحل الوسط التاريخي، من دون ان نذهب بعيداً الى تحميله المسؤولية عن انهيار مفاوضات أرادت اسرائيل ان تنصب فيها فخاً له لاستدراجه الى تنازلات نوعية اضافية، في الارض والحقوق والسيادة. وهكذا فإن ياسر عرفات، بمسؤوليته الوطنية التاريخية، دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ودفع ثمناً باهظاً لذلك، مثله مثل كل القادة الوطنيين. معنى ذلك انك يمكن ان تختلف مع الرئيس الراحل على هذا التكتيك وعلى هذه الاستراتيجية، على شكل ادارة الصراع وعلى الشعارات، فهذه الامور تبقى ضرورية ومطلوبة، ولكن بعيداً من اجتراح الاتهامات الظالمة والطنانة والفارغة. وبالنسبة الى اتهام عرفات بأنه تخلى عن خيار الكفاح المسلح، فقد اكدت مسارات الانتفاضة بأن هذا الادعاء ليس له صلة بالواقع، فقد كان ابو عمار ملهم الانتفاضة، مراهنة منه على معادلة المزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة. وكان هو تحديداً حاضن الظاهرة العسكرية المسلحة، التي اطلقتها "كتائب الاقصى" و"العودة" التابعتين ل"فتح" منذ الاشهر الاولى للانتفاضة. وبحسب الاحصاءات فإن اسرائيل تكبدت في السنوات الاربع الماضية اربعة اضعاف ما تكبدته من الاصابات البشرية قتلى وجرحى على يد الفلسطينيين، خلال الفترة منذ قيامها الى اندلاع الانتفاضة 1948-2000. واللافت ان المعارضة نفسها باستثناء حركتي "حماس" و"الجهاد" لم تعمل على تغطية هذا الفراغ، في ترسيخها لخيار الكفاح المسلح. وبذلك دفع عرفات هنا ايضاً ثمناً باهظاً لتمسكه بخيار المقاومة المسلحة، الذي اتهم يوماً بأنه تخلى عنه الى الابد. اما بالنسبة الى الانشقاق في الشعب الفلسطيني، فهو زعم لم يثبت البتة، اذ ظل عرفات رمزاً وزعيماً للفلسطينيين، في كافة اماكن انتشارهم، في الداخل وفي مناطق اللجوء والشتات، على رغم اختلافهم في شأن ادارته للوضع الداخلي، ولبعض الملفات العربية. وعملياً فإن ياسر عرفات هو الزعيم الوحيد في العالم العربي، وربما في العالم، الذي لا يسيطر على شعبه وليس له اية سيادة اقليمية عليه، ومع ذلك فإن هذا الشعب يمحضه محبته وثقته ويجمع عليه. وما يسجل لعرفات في هذا المقام انه لم يفرط بالوحدة الوطنية الفلسطينية، وان نزوة السلطة والدولة لم تذهب به الى حد فرض اجندته بالقوة على معارضيه، على رغم الظروف الدولية والاقليمية التي بات يمر بها وتمر بها معه القضية الفلسطينية، لا سيما منذ ما بعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001. هكذا فإن بعض معارضي ياسر عرفات، من الفصائليين، لم يفهموه سياسياً، وهم اساساً لم يقدروا التعقيدات والاشكاليات والتداخلات المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، هذا الصراع الذي لا يحكم بالشعارات ولا بالبيانات ولا بالرغبات وانما بالتعامل مع واقع موازين القوى والمعطيات السياسية السائدة العربية والدولية. الأنكى ان معظم المعارضة الفصائلية لم تتخل عن اتهاماتها هذه لعرفات، خلال الاعوام الاربعة الماضية، على رغم الانتفاضة وعلى رغم كل الصمود الذي ابداه، وعلى رغم اضطلاع حركة "فتح" بعبء بحمل الظاهرة المسلحة، فظلت الاتهامات تكال له بدعوى انه سيفرط بالانتفاضة وبالمقاومة وبالحقوق الوطنية! لم يظلم ياسر عرفات، الظاهرة، من بعض معارضيه فقط، وانما هو ظلم من بعض الموالين له، ايضاً، من حيث ادركوا أم لم يدركوا، حين لم يستوعب هؤلاء جوهر هذا الرجل الاستثنائي، الذي ماهى القضية والوطن والشعب في شخصه، وحين اراده هؤلاء صنماً وحزباً لهم. وهؤلاء بدورهم لم يدركوا التنوع والتعددية والرمزية عند ياسر عرفات، فقد كانوا مع ابو عمار الشخص والسلطة والقائد اكثر بكثير مما كانوا مع ابو عمار الرمز والزعيم والقضية. رحل ياسر عرفات، بما له وما عليه، ولكنه سيظل ملهماً لكفاح شعبه من اجل التحرر، ومأثرته انه صنع ثورة المستحيل، وحقق حضور شعبه من الغياب، وساهم في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، ووضع القضية الفلسطينية في قلب المعادلات السياسية وأطلق اسم فلسطين في الفضاء العالمي. * كاتب فلسطيني.