هل هي الصين، المنتفضة من سباتها العميق، أم هي حرب العراق، أم هو الارهاب الدولي ام تراجع الانتاج العالمي، وراء ارتفاع أسعار النفط الى هذا المستوى التاريخي؟ الاجابة عن هذه التساؤلات ليست بهذه السهولة، خصوصاً أن الأزمة ما زالت في بداياتها. لكن الخبراء يعتقدون بأن هذه الأسباب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً في ما بينها. ناهيك عن ارتفاع أسعار السلع الأخرى في الأسواق العالمية. فلماذا لا تجاريها أسعار النفط؟ وهم يعتقدون بأن نمو الصين الضخم والمفاجئ حوالى 9 في المئة في كل من عامي 2003 و2004، والذي كان منتظراً، انما بوتيرة أضعف وعلى امتداد سنوات عدة، فاجأ الجميع، وجاء في وقت تشهد الهند ايضاً نمواً ملحوظاً، خصوصاً ان الدولتين تشكلان وحدهما نصف سكان الكرة الأرضية. كما انه كان من المتوقع ان يستمر هذا النمو المتسارع لسنوات عدة، من دون ان يؤثر في أسعار موارد الطاقة. لكنه يحصل في وقت يشهد العالم انطلاقة اقتصادية جديدة، مما يزيد في الاستهلاك، ونقصاً في الانتاج بسبب ما يحصل في فنزويلا ونيجيريا وروسيا والعراق، كما ان الوضع السياسي العالمي المتأزم واحتمال وقوع هجمات ارهابية على المنشآت النفطية، يرعب السوق العالمية ويدفع بأسعار النفط الى الارتفاع. لكن هل هذه وحدها الأسباب التي دفعت بأسعار الذهب الأسود الى الارتفاع، في هذا الوقت بالذات؟ وهل هي مرتفعة فعلاً بالنسبة الى ما كانت عليه في السبعينات؟ يؤكد رئيس اقتصاديي صندوق النقد الدولي، راغو راجان، ان لا شيء ينبئ بكارثة في الوقت الحاضر، خصوصاً أن السعر الحالي لبرميل النفط، أي حوالي 52 دولاراً، ما زال، نسبياً وواقعياً، أدنى من مستواه في السبعينات، اذا أخذنا في الاعتبار كل العوامل الاقتصادية التي طرأت خلال ثلاثين عاماً، وأهمها النمو المتواصل، وأسعار السلع الأخرى على أنواعها، والوضع الدولي المتأزم. لكن الارتفاع في أسعار النفط يخيف أكثر من ارتفاع اي سلعة اخرى لأنه عصب الحياة الاقتصادية والصناعية الأوحد اليوم، بانتظار أنواع جديدة من الوقود، ستظل حتى وقت طويل، غير قادرة على الحلول مكانه. الا ان الأمور قد تسوء أكثر خلال عام 2005 حيث يبدأ الارتفاع في أسعار النفط بالتأثير في الوضع العالمي. ذلك ان الأسعار في أسواق النفط لأجل قد تم الاتفاق عليه في أيلول سبتمبر الماضي لتبقى بحدود 37 دولاراً للبرميل الواحد، أي بزيادة 8 دولارات، أو 30 في المئة، عن سعره عام 2003. وهي زيادة قد تؤخر معدل النمو بحوالى نصف نقطة على المستوى العالمي. لكن من هو المستفيد من هذا الارتفاع المتسارع لأسعار النفط العالمية؟ من الطبيعي ان تكون الدول المنتجة هي المستفيدة الأولى من ذلك، خصوصاً أن اكثريتها تعتمد على النفط كمورد اقتصادي أساسي. وعلى رغم ذلك، قامت بعض دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بمجهود كبير للجم ارتفاع الأسعار، وذلك بزيادة انتاجها بحدود قصوى، تجاوباً مع التمنيات الدولية، لتصبح بحدود 11 مليون برميل يومياً. والمعروف ان النفط السعودي هو الأكثر غزارة، والأفضل نوعية العربي الخفيف. ارباح الشركات في المقابل، تهلل كبريات شركات النفط فرحاً بارتفاع الأسعار، فهي بذلك تجني أرباحاً لم تعرفها من قبل. وهذا ما يحصل حالياً مع أضخم هذه الشركات، أي الأميركية "إكسون موبيل"، ذلك ان أرباحها بلغت، في الفصل الثاني من السنة الحالية حوالي 6 بلايين دولار، أي بارتفاع 39 في المئة تقريباً، حيث بلغت أسعار أسهمها في البورصة المستويات الأعلى منذ سنوات. فارتفاع الأسعار يفيد منه العملاق الأميركي المتمركز في هوستن، والذي يجني القسم الأكبر من أرباحه الهائلة من عمليات التنقيب والانتاج. وعندما نعرف ان كلفة انتاج البرميل الواحد لهذه الشركة هو بحدود 7 دولارات، يظهر مدى رضى القائمين عليها من ارتفاع أسعار النفط. من هنا تعتمد "اكسون موبيل" الحذر حالياً بسبب الوضع السياسي المتأزم، على عكس ما قامت به عام 1981، حيث عملت في البحث عن آبار جديدة. اما اليوم فهي تفضل ادارة ممتلكاتها الخاصة، وشراء الأسهم، مبتعدة عن التنقيب. والمعروف ان أي مشروع تنقيبي ضخم، منذ الدراسات الأولى وحتى بدء الانتاج، يتطلب نحو 10 سنوات. من هنا فضّلت الشركة، كغيرها من عمالقة البترول، سلوك طريق الحذر، واعتبار ارتفاع أسعار النفط حدثاً قد يطول، فتُجنى الأرباح بعيداً عن المخاطرة، بانتظار أوقات أنسب. ومن المعروف في الأوساط النفطية ان ارتفاع العرض يرتبط باستغلال أفضل للآبار الموجودة حالياً، أكثر من ارتباطه باكتشاف آبار جديدة. وهذا ما تشدد عليه حالياً شركات الخدمات النفطية الضخمة مثل "شلومبرغر" و"هاليبورتون". وقد خفضت كبريات شركات الخدمات موازناتها التنقيبية بمعدل الثلث، لتصبح أولوياتها الأساسية زيادة الضخ من الآبار العاملة حالياً وتطوير طرق استخراج النفط منها. من هنا كان تشديد هذه الشركات على تحسين طرق معالجة المعطيات. ومن هنا أيضاً تأتي أهمية الاعتماد على نوع جديد من أدوات السبر، وهو أنبوب ضخم أفعواني الشكل، مجهز بكاشفات الكترونية، وكذلك تطوير برنامج جديد الكتروني لمعرفة نوعية الهيدروكاربورات المخزنة وطبيعة الصخور. وكلها برامج مكلفة تهدف الى رفع معدل استخراج النفط. وتتبع هذه الشركات اليوم الخطة الأكثر مردوداً، أي تطوير طرق الانتاج بدلاً من التنقيب المكلف، فتجني، مع الارتفاع المتواصل لأسعار النفط، أرباحاً هائلة. يبقى الطرف الثالث، البعيد كل البعد عن العمل على الأرض، أي مضاربو بورصات النفط، خصوصاً في بورصتي لندن ونيويورك. فهناك تجرى عمليات صاخبة لشراء براميل النفط "على الورق" كما يسميها الاخصائيون، في سباق رهيب للحصول عليها والافادة من أسعارها الحالية لجني الأرباح لاحقاً. وكثيراً ما يقوم هؤلاء بشراء كميات ضخمة من النفط بواسطة الهاتف أو الكومبيوتر، ثم يبيعونها لاحقاً بسعر أعلى وهم لم يحصلوا عليها الا "نظرياً". وقد يجني هؤلاء أرباحاً هائلة في وقت قصير، بحيث تؤثر هذه الأسواق في شكل مباشر في الأسعار العالمية ارتفاعاً. وتمثل هذه المضاربة في سوق لندن وحدها، وهي الأكبر، ربع المبادلات في مجال الطاقة الضخم، حيث تمر، عبر الأوراق وخطوط الهاتف، بلايين الدولارات يومياً. من هنا، يعتبر الخبراء ان هذه العمليات البورصية ذات تأثير كبير في ارتفاع ألاسعار بهدف تحقيق الأرباح السريعة فقط. وان منع هذا النوع من المضاربات في بورصة لندن انترناشيونال بتروليوم ايكستشانج قد يخفض السعر في السوق بنحو 20 في المئة. الاموال العربية هل يؤثر هذا الوضع في قوة الدولار، الذي لا يزال حتى اليوم العملة المتداولة في سوق النفط؟ يعتقد الاقتصاديون ان الدولار الأميركي أظهر ضعفاً واضحاً تجاه اليورو، قبل الفورة النفطية الحالية، وبالتحديد بعد 11 أيلول سبتمبر 2001 ثم حرب العراق. ويؤكدون ان أموالاً عربية ضخمة سحبت من الولاياتالمتحدة لتستثمر في أوروبا، خصوصاً حيال شعور العداء الواضح من قبل المحافظين الجدد تجاه بعض الدول العربية. وقد تفاقم هذا الوضع حالياً، مع الانفتاح الواضح في الأسواق العربية، بحيث بدأت الدول العربية المنتجة تستثمر الأموال في أسواقها المحلية، كما تستثمر قسماً كبيراً منها في أسواق اليورو. وشجعها محلياً الارتفاع الجنوني في بورصات دول الخليج وبعض الدول العربية في الشرق الأوسط. وشهدت المراكز المالية في بيروت ودبي خصوصاً طفرة مالية كبيرة، وكذلك الأسواق الخليجية والمصرية، التي أصبح بإمكانها، بسبب النمو الملحوظ فيها، ان تستوعب قسماً كبيراً من هذه الأموال. في هذا المجال، يعتبر أخصائيو أسواق لندن، ان هذه العمليات المالية ساهمت مباشرة بإضعاف الدولار في مقابل العملات الأخرى، خصوصاً اليورو. وهو أمر يؤثر بطريقة غير مباشرة على النمو العالمي، خصوصاً أن العملة الأميركية أصبحت عملة عالمية. لكنهم يعتبرون أيضاً ان قسماً كبيراً من المستثمرين العرب سيتابعون الاستثمار في الولاياتالمتحدة التي يعتقدون، ربما عن حق، انها ستبقى، ولوقت طويل، حصن التبادل الحر المنيع، خصوصاً أن الاستقرار السياسي فيها، يجعلها في منأى عن الهزات الاقتصادية المرعبة. كما بدأ هؤلاء العمل جدياً على الاستثمار في الصين النامية في شكل فاق كل التوقعات. ويعتبر اخصائيو صندوق النقد الدولي ان النمو الصيني هذا ساهم في ارتفاع أسعار النفط في شكل كبير، أي بين 30 و40 في المئة. كيف يتأثر المستهلك مباشرة بارتفاع أسعار النفط؟ وهل يدفع به هذا الارتفاع الى تغيير عاداته اليومية؟ يؤكد الخبراء ان أسعار النفط في السنوات المقبلة ستتراوح بين 30 و50 دولاراً للبرميل الواحد، بينما تنقلت بين 10 و30 دولاراً للبرميل في التسعينات. ويبنون تأكيدهم هذا على الوسائل الحديثة التي تحصي المخزون العالمي بشكل شبه دقيق. من هذا المنطلق، شدد بيان الدول الصناعية الكبرى على حث المستهلك على الاقتصاد في الطاقة، طالباً من الدول وضع خططها الخاصة في هذا المجال. وظهر من خلال هذه التوجيهات ان الأمر يتعلق بالاستعمال اليومي للطاقة، خصوصاً في مجالي التدفئة والنقل. وبما ان ارتفاع أسعار النفط يؤثر سلباً في النمو، فقد تبين ان الفاتورة الجديدة ستدفع مباشرة من جيب المستهلك، خصوصاً في الدول التي تحرر الأسعار أو التي تتقلب فيها هذه الأخيرة طبقاً للسعر العالمي. لقد ظهر هذا الأمر جلياً في الكثير من الدول، خصوصاً الأوروبية منها، حيث لوحظ اتجاه أكيد الى العمل على التقليل من استهلاك الوقود مثلاً في العمل اليومي، والذي يتمثل في شكل واضح في مجال السيارات. ذلك ان السائق الأوروبي أخذ يتحضر لاستبدال الفخامة بالعملانية. وهو، بسبب حاجته الماسة لوسيلة النقل هذه، أصبح يفضل حسم المتوجب عليه من ارتفاع سعر الوقود من ثمن سيارته، بدل سحبه من حسابه المصرفي. وقد ظهر هذا الاتجاه في الانخفاض الملحوظ في أسعار السيارات الفخمة والضخمة والمستهلكة الكبيرة للوقود. كما ظهر الأمر في اعتماد شركات صناعة السيارات على ابتكار طرازات جديدة مبسطة، بأسعار متهاودة. وكذلك في الجهود الجبارة التي تبذلها هذه الشركات لاعتماد مصادر طاقة أخرى كالكهرباء والهيدروجين والغاز، وهي في الوقت نفسه تقلل من التلوث. لقد دخلت الحضارة الصناعية، من دون شك، عصر الطاقة المكلفة الذي لا رجوع عنه ولا حل له الا بأمرين: الانهيار الشامل، وهو المستبعد حالياً، أو إيجاد الطاقة البديلة، وهو الحل الأنسب والأقرب ولو بعد عقود، يبقى خلالها النفط الوقود الأساسي اذ تبين الدراسات المعمقة ان المخزون النفطي كافٍ للعقود الأربعة المقبلة