ثلاثة أعوام مضت على استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي اغتالته رصاصات جنود الاحتلال الاسرائيلي أمام كاميرات الفضائيات العالمية، وهو يتلوى في حضن والده المستغيث. لقد اصبح محمد أشهر الشهداء، وانتشر اسم والده الجريح المقعد. واهتز الضمير العالمي للحادث، وتنادت لهما حملات التضامن، واطلقت الخطابات العربية والاجنبية كالنيران. وبدا ان العالم كله يحتضن ذلك الطفل الصريع ويتبنى عائلته المنكوبة. عندما شاهدنا الوالد يتنقل من مستشفى الى آخر في العالم، حسبنا انه سيحظى بسلامة الجسم فعلاً، فهو بين الايدي الطبية الرحيمة لخيرة الاطباء. ... لكن، عندما اطلعت "الوسط" على احوال هذه العائلة اليوم، وجدناها في مأساة اكبر. فهي تعيش حالي فاقة وغضب عارمين. اما الجوع، فكون المعيل بات معوقاً والمساعدات شحيحة. واما الغضب، فكون النسيان بات يطوي قضية الشهيد، ولم تطرح حتى في محكمة جرائم الحرب الدولية. فلماذا؟ "الوسط" زارت عائلة الدرة وكان هذا التحقيق. في مخيم البريج للاجئين الفلسطينيين بغزة، كانت عائلة جمال الدرة تجلس داخل بيتها والهدوء المخيف يلف زاوياه. جمال الدرة الذي أصيب بشلل في يده ورجله بعد مواجهة النيران الاسرائيلية مع ابنه الشهيد محمد، غادر لتوه الى ايران لتلقي العلاج. أما الوالدة التي بات همها مضاعفاً في رعاية اطفالها السبعة، فتقاوم المصاعب لضمان متطلباتهم، وتحسين مستقبلهم. وعلى رغم جرحها الكبير تحاول تهيئة الاجواء لابنائها لمتابعة دراستهم خصوصاً لبكرها اياد البالغ من العمر 16 عاماً. اياد هو امل ومستقبل العائلة. هكذا تشعر الام وهكذا يتصرف هو ايضا. فهو لا يفكر الا بسعادة والديه واشقائه. ومنذ استشهاد شقيقه محمد واعاقة والده بات يشعر بتحمل مسؤولية كبيرة: "سنصبر حتى أنهي تعليمي. أهم شيء ان أتعلم وبعدها سأعمل كل شيء لضمان حياة هادئة ومريحة لعائلتي"، راح يحدثنا بكل هدوء وخجل. وهاتان الصفتان تميزانه لكنهما تقلقان امه أحياناً فهي تعي أنه يحمل عبئاً كبيراً يفوق قدرات رجل كبير، وتجعله صامتاً طوال الوقت يفكر منفرداً ولا يرغب في أن يشاركه همومه هذه أي فرد من عائلته. وقبل ان يغادر الوالد المخيم ببضع ساعات تمكنا من الحديث معه. فوجدنا في داخله بركاناً يغلي. كيف لا، وهو الذي كان يعمل ليل نهار ليحصل على راتب يضمن به متطلبات عائلته، اما اليوم فانقلب كل شيء على عقب، ولم تعد هذه العائلة كما كانت قبل استشهاد محمد، واعاقة الوالد. فالظروف القاسية تجعلها احيانا غير قادرة على ضمان الطعام والشراب للجميع. ولكن ليس هذا لوحده ما يزعج جمال الدرة. فعلى رغم كل الردود التي توالت في اعقاب استشهاد ابنه والتضامن العالمي معه والعائلة، الا انه يجد اليوم قضية ابنه يطويها النسيان، يقول: "لا يكفي قول الشعر والرثاء والكلمات التي ابكتنا، فاليوم هناك حاجة لأن تتحول قضية ابني محمد وقتلي انا مع انني ما زلت حيا، واحدة من اهم الملفات القضائية الفلسطينية". 25 عملية جراحية وقبل ان نعرف ما في جعبة الوالد "الشهيد الحي"، على حد تعبيره، لا بد من العودة الى تفاصيل هذه الجريمة التي شهدها العالم وهي تنقل في بث حي ومباشر. وفي الملف الذي اعده اياد لشقيقه محمد في موقعه الالكتروني دون مئات الصفحات عنه منذ لحظة استشهاده واصابة والده وردود الفعل المحلية والعالمية واشكال التضامن، من كتابات وصور البريد والقصائد. ومن بينها رواية والده عن الجريمة أثناء استشفائه في غزة وشرح فيها أدق التفاصيل مما رسخته ذاكرته لتلك الدقائق المريرة في حياته: "كنت ومحمد عائدين الى البيت بسيارة اجرة وتوقف السائق قبل مفترق الشهداء، وذكر ان الطريق مغلق بسبب المواجهات ويتوجب علينا قطع المسافة حتى الطرف الآخر أخذت محمد من يده وسرت بحذر لأن الاشتباكات كانت بدأت وتيرتها ترتفع وأزيز الرصاص يعلو، فبدأنا نعدوا الى الطرف الآخر وأدركت حينها أنني ومحمد في خطر لأن الإسرائيليين بدأوا يصوبون نيرانهم نحونا قصداً. فاحتميت بجدار الموت الذي رآه العالم ولم أكن أدري أننا اختبأنا أمام الموقع العسكري الإسرائيلي، فبدأت أصرخ على الجندي الذي يصوب نحوي بأنني رجل أعزل وهذا ابني الصغير فارحمونا، الا ان الرصاص بدأ ينهال علينا من كل صوب وأنا أصرخ ومحمد يصرخ ونقول لهم لماذا؟ ماذا فعلنا؟ أننا نريد ان نهرب ونعبر الطريق بسرعة لا نريد البقاء أرجوكم". الهم الكبير ويضيف جمال الذي كانت وجنتاه ترتجفان من هول الفاجعة، لقد أصابت الرصاصة ركبة محمد وعلا صراخه وفقدت حينها عقلي وصرخت بهم: إنقذوا الطفل. ولكن محمد تلفظ آخر كلماته: "لا تقلق يا أبي فأنا أتحمل وسأصبر"، لكنهم لم يصبروا عليه واستمروا بإطلاق النار، كأن الدنيا خلت من الناس وأن عليّ وحدي تسديد فاتورة الحقد الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني: ولم يرتح لهم بال حتى فتحوا قلب محمد الصغير برصاصهم ومات بين ذراعي". يتابع الوالد جمال: "ظننت انني أنا الذي مت عندما رأيت محمد بين ذراعي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكنهم بدأوا يمارسون ساديتهم في جسدي وأصابوني في ذراعي اليمنى ثلاث مرات ثم في فخذي الأيمن ثم في ساقي اليسرى ثم في ساقي اليمنى، ولم أشعر الا برصاصة الموت وهي تخترق جنبي الأيمن وتهتك عظام الحوض وتتركني كسيحاً قرب جثة ولدي، ليشهد العالم أنني حاولت لأكثر من نصف ساعة أن احمي، محمد الذي كنت ألفه بذراعي وصدري من الموت ولم أفلح". كان يوم استشهاد محمد في الثلاثين من أيلول سبتمبر 2000 بداية الانقلاب الحاد في حياه هذه العائلة، فالوالدة التي كانت تعمل في مطبخ البيت في اللحظة التي كان العالم يشاهد استشهاد ابنها، يقع على كاهلها هم كبير. لدى اي حديث معها عن وضعيتها تجدها تتحدث من دون سؤال عن تلك اللحظات، وانها لم تعرف ان الجثة التي التقطتها عدسات الكاميرات في المستشفى كانت لابنها محمد فتقول مكلومة: "عندما اقتربت من التلفاز كانت صور جثة محمد راقدة في المستشفى وكانت شقيقة زوجي تجلس عندنا وهي حزينة وتبكي، لكنني لم أعي انها تخفي عني الحقيقة. وبدأت أبكي على الطفل قائلة لها انه يشبه محمد ودعوت لعائلته بالصبر، حتى انني تساءلت ما الذي ستفعله امه ان شاهدت جثته امامها". يقول الوالد جمال على محنته وظروف العصية منذ المأساة: "كنت أعمل في اسرائيل لدى مقاول في البناء. واستغل ساعات بعد الظهر للعمل في ساعات اضافية كي اضمن راتباً معتبراً يسد حاجيات عائلتي. كنت افكر دائما كيف اوفر لاولادي ما يتمنونه. وكنت أحصل على راتب يتعدى احياناً 7 آلاف شيكل 1550 دولارا ويعتبر من الرواتب الجيدة بالنسبة للعمال الفلسطينيين"، ويستطرد: "كل لحظة عشناها انا والعائلة قبل استشهاد محمد كانت سعيدة. اما اليوم، فقد باتت حلما مستحيل المنال، تصوري عائلة تعتمد على هذا الراتب تفقده في لحظة واحدة. بعد اصابتي لم أعد قادراً على العمل أو القيام بأي نشاط. فاصابع يدي اليمنى تعاني من شلل، وساقي هذا المصاب يمنعني من السير الطبيعي. ولا تسأليني ما الذي يؤلمني. فكل خلية في جسدي تؤلمني. الرصاص الذي اخترق جسدي لحظة استشهاد محمد لم يترك مكاناً الا واصابه، وأجريت اكثر من عملية. بلغت اليوم 25 عملية جراحية وتنقلت بين عشرات المستشفيات في غزةوالاردن ومصر وايران، لكنني ما زلت معاقاً. فماذا يمكن لرب عائلة من سبعة أولاد ان يفعل عندما يجد نفسه معاقاً امام اطفاله. ان يرى ويلمس ويشعر كيف انقلبت حياته خلال هذه السنوات الثلاث وكأن مأساة اغتيال ابني محمد لم تكن كافية لأن تحول حياتنا كلها الى جحيم". ... "اسمعي"، يقول: "سأكون صريحاً معك حتى النهاية لا أريد ان يشفق على عائلتي أحد ولا اريد ان يعتبر حديثي هذا دعوة لكي يدعمني ويساعدني احد. ولكنني أقول بصراحة ان كل ما اعلن عن صناديق التبرع والدعم باسم ابني محمد بقيت بالنسبة لنا ضمن السمع في الاذاعات او القراءة في الصحف او المشاهدة على التلفاز. لم يسأل عن وضعنا ولم يحاول اي طرف الاستفسار عن عمق مأساتنا، ليس لأن ابني استشهد بصورة بشعة، فغالبية العائلات الفلسطينية قدمت ابناً او اكثر شهداء لكنني كمعيل وحيد لعائلتي بت معاقاً وعاجزاً عن توفير الخبز لاولادي..."، مشيراً الى ان السلطة الفلسطينية تحول له كل شهر الف شيكل 220 دولاراً كدعم للعائلة: "هذا المبلغ لا يسد احياناً فاتورة التلفون. فبسبب وضعي الصحي اضطر للاتصال بمصر وايران واحياناً الاردن لمشاورة الاطباء، فوضعي ليس على ما يرام. فهناك عمليات عدة اجريتها لم تنجح ويبدو ان الطريق لانهاء علاجي وشفائي طويل... وطويل جداً". على رغم الاوضاع الصعبة والقاسية التي عاشتها عائلة الشهيد محمد الدرة، الا ان الام، وضمن محاولاتها في عدم الرضوخ للآلام التي رافقتها وعائلتها منذ استشهاد محمد، قررت ان تعيد الحياة الى البيت وأن تبعد الحزن عن حناياه فتقول: "شعرت انني بحاجة الى محمد في البيت. وعشت سنة كاملة في حالة قاسية كنت أنادي اسمه في كل لحظة. وصورته ترافقني يومياً ولم تغب عن نظري منذ 3 سنوات، كل زاوية في البيت تذكرني به. ومع سقوط أي شهيد فلسطيني ابكي محمد. لا يمكن لاي قوة في العالم ان تغيّب صورته عني. غير انني تمنيت انجاب ابن ليحمل اسمه وحصل هذا في يوم 29 تشرين الثاني نوفمبر 2002". لم تكن ولادة محمد الثاني عادية للعائلة خصوصاً للوالد الذي لم يتغلب على مشاعره الابوية والانسانية لحظة الولادة. فلم يعد يدري، وهو يسمع صرخات ابنه محمد الصغير تتعالى من داخل غرفة الولادة في مستشفى "الشفاء" في غزة، ان كان هذا الصراخ يبكيه ام يفرحه. وقف امام الغرفة ملتاعاً ينتظر لحظة مجيء ابنه محمد الوليد الى الحياة وصورة ابنه الشهيد لا تفارقه لحظة. وشرد تفكيره يستعيد ذكرياته المرة وهو يحتضن ابنه محمد محاولاً حمايته من الرصاص الغادر وصراخ الاستغاثة يتعالى منه، ليندمج مع الصراخ المتعالي للطفل الوليد فاندمجت مشاعر الحزن مع الفرح، مثلما اندمجت في ذهنه أصوات بكاء ابنه الوليد مع بكاء وصرخات ابنه الشهيد وهو يحتضر ويودع الحياة"، يقول: "كانت هذه هي اقسى لحظات في حياتي تأتي بعد لحظات استشهاد محمد في احضاني..."، ولم يتمالك الوالد نفسه وانهمرت دموعه: "حال السماح لي بالدخول أسرعت لرؤية محمد فحاولت احتضانه. ولم أتمكن وكاد يقع مني للعجز في يدي". المحكمة الدولية بدا الغضب واضحاً على الوالد جمال وهو يرى ان قضية ابنه محمد باتت في ارشيف النسيان: "قضية محمد ليست قضيتي انا أو عائلتي أو اي شخص. انها قضية شعب بأكمله. تفاصيل جريمة اغتياله، وأقول اغتيال وليس قتل، لأنه اغتيل بدم بارد، يشهد عليه الجميع. لكن احدا لا يحرك ساكنا لمعاقبة المجرم. تصوري ابني قتل وحرم من اجمل سنوات حياته بسبب سادية جندي اسرائيلي. وما زال هذا المجرم يتجول حراً طليقاً لا يحاسبه أحد، انا وانت والعالم كله يدرك ان اسرائيل لن تحاسبه، وان سكتنا فهذه جريمة بحق محمد"، وذكر انه سعى بواسطة اكثر من محام الى رفع دعوى ضد اسرائيل وجيشها لقتل ابنه لكنه لم يفلح: "لا أملك المال ولا يوجد اي محام يعمل من دون مقابل. فهل هذا يعني ان تموت قضية محمد الدرة؟ هل هذا يعني ان يبقى المجرم حراً طليقاً واسرائيل تخرج بالنتائج التي تريدها وتصيغها وتبرئ نفسها من اي جرم؟". ابو اياد غاضب لغياب المبادرة من اي طرف في شأن رفع دعوى في المحاكم الاسرائيلية، ويتدارك بالقول: "هذا لوحده لن يكفي. فجريمة قتل ابني يجب ان تكون من اول الملفات التي يجب أن تعد لتقديمها الى المحكمة الدولية بخصوص مجرمي الحرب. صور التي بثت عبر شاشات التلفزة العالمية تكفي لادانة اسرائيل كمجرمة حرب، فهل من مبادر؟ عملية تعذيب اخرى في اليوم نفسه الذي التقت فيه "الوسط" مع جمال الدرة، وهو يعد حقائبه للسفر الى ايران لاستكمال علاجه ويسجل العملية رقم 26 منذ اصابته. وصل مع شقيقه نائل الذي يرافقه في كل سفراته الى الحاجز الحدودي في رفح للانتقال الى مصر ومنها الى ايران. انتظر الشقيقان ساعات طويلة انتهت بدخول جمال ومنع شقيقه بحجة "الخطر الأمني". وما زال ابو اياد ينتظر في القاهرة، فيما يتنقل نائل من مكتب تابع لسلطات الاحتلال الى آخر، على أمل استصدار تصريح سفر له الى مصر لكي يتوجها الى ايران لاتمام العملية. تقول ام اياد: "ان لم يسمح لنائل بالسفر فسيعود ابو اياد لأنه لا يستطيع السفر بمفرده واجراء عملية جراحية من دون مرافق"، واضافت: "هذه هي المرة الثانية التي تؤجل فيها العملية بسبب عدم صدور تصاريح في الوقت الذي يحتاج ابو اياد بشكل عاجل هذه العملية، وان تأخير اجرائها سيعقد وضعية اصابعه التي يعجز عن تحريكها"