لعبت المياه دوراً أساسياً في تكوين التجمعات الإنسانية التي تطورت إلى مُدن وقرى مأهولة بعدما كانت مقفرة، لذلك جذبت ضفاف الأنهار الإنسان والحيوان في الأراضي الخصبة التي ازدانت بالنباتات المتنوعة، وامتدت التجمعات السكانية ما بين المنابع والمصبّات، وهكذا امتدت المدنية من الجبال إلى السواحل، وشكلت مياه الأنهار طرق مواصلات مائية كما هي الحال في نهري دجلة والفرات اللذين ارتبطت بهما تسمية بلاد الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين، حيث نشأت حضارات إنسانية سادت ثم بادت، وما زالت آثارها تدل على ذلك الماضي المجيد. تعد محافظة صلاح الدين من المحافظاتالعراقية العريقة، وتوجد فيها آثار قديمة تعود إلى بدايات الحضارة الإنسانية قبل ثمانية آلاف سنة تقريباً، واستمرّ تاريخها عبر العصور التي عرفها العراق القديم، وعصر ما قبل الإسلام، وبعد الفتح الإسلامي ضمَّتْ المحافظة عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية سامراء، وسميت المحافظة باسمها الجديد نسبةً إلى القائد صلاح الدين الأيوبي الذي وُلِدَ في قلعة مدينة تكريت التي تبعد عن بغداد 175 كلم، واشتهر بتوحيده بلاد الشام ومصر تحت ظل الخلافة العباسية في العراق، وبتحرير بيت المقدس من أيدي الغزاة الفرنْجَة. لكل مدينة هويتها المدنية التي تتضمن العمران والدين واللغة والْعُرفَ والتقاليد والفولكلور وما فيه من فنون، ولكل مدينة شهادة ميلاد معلومة أو مجهولة، ولبعض المدن شهادات وفيات معلومة أو مجهولة أيضاً، ومن المدن التي نعرف شهادة ميلادها كعاصمة إسلامية عباسية مدينة سامراء العراقية التي ما زالت حية، وتحدثنا عن أمجادها الغابرة بواسطة ما بقي فيها من تراث يضم العُمران ومنتجاته الحضارية إضافة إلى المخطوطات. وعندما يتم الحديث عن العواصم الإسلامية يتألق اسم سامراء بين أسماء العواصم، حيث كانت المدينةالمنورة عاصمة النبوّة، وثلاثة خلفاء راشدين: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ثم نقل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه العاصمة إلى الكوفة، وبعد العهد الراشدي اتخذ الخلفاء الأمويون دمشق عاصمة للخلافة الإسلامية. ولما آلت الخلافة إلى العباسيين تألقت بغداد في العهد الأول منذ أيام أبي جعفر المنصور إلى أيام هارون الرشيد، وبعد ذلك وقعت الفتنة بين أولاد الرشيد. ويُستفادُ من كتُب البُلدان الجغرافية أن البلاد التي تبعت للخلافة العباسية تكوّنت من 13 إقليماً، وتكون كلُّ إقليم من عدّة كُوَرٍ، وشملت أقاليمها وكورها مساحات واسعة من قارتي آسيا وإفريقيا. ومرّت التقسيمات الإدارية في محافظة صلاح الدين بتطورات منذ القديم، فقد صارت سامراء قضاءً يتألف من ثلاث نواح هي: ناحية تكريت ، وناحية بلد ، وناحية الدجيل "مركز قرية سميكة"، ثم تطورت النواحي إلى أقضية، ونشأت نواح جديدة، فضمت المحافظ المراكز الإدارية الآتية: * سامراء هي عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية، وفيها قصر الخلافة العباسية، وجامع الجمعة العباسي ومئذنته "الملوية"، وجامع ومئذنة "أبو دلف". ومرقدا الإمامين علي الهادي بن محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر، وابنه الإمام الحسن العسكري. وعلى مسافة 12 كلم جنوب سامراء يقع تل صوان الأثري على ضفة نهر دجلة. وإلى الشمال من محطة سامراء يقع قصر العاشق والمعشوق على الضفة الغربية لنهر دجلة، وقُرب القصر تقع القبة الصليبية. وكان للمدينة سور يحيط بها، وهو مضلع على شكل يميل إلى الاستدارة، ويبلغ طول محيطه 2 كلم، ولايتجاوز قطره 680م، وهو مبني بالجص والآجر، ويبلغ ارتفاعه 7 م ، وكان له 19 برجاً وأربعة أبواب، وظل هذا السور ماثلا للعيان حتى سنة 1356ه/ 1936م، وفي سامراء متحف فيه المخطوطات والمصورات التي تخلد آثارها، وعلى مدخل المدينة يقع مشروع الثرثار المائي الذي يجنبُ بغداد الغرق. وقصر بلكوارا شيده المعتز سنة 247ه وقصر العاشق والمعشوق شيده المعتمد العباسي سنة 264ه وقصر المختار والقصر الوزيري وقصر العروس والقصر الجعفري ومدينة المتوكلية على بعد 10 كم شمال مدينة سامراء وقصر الجص وبركة السباع. لقد كتب العلماء والخطاطون الكثير من المخطوطات في سامراء، ولكن مخطوطات سامراء توزعت في الآفاق بعد نقل مركز الخلافة منها إلى بغداد، ولم تتوقف عمليات النقل بل استمرت حتى العصر الحديث، فمن المخطوطات التي نقلت من سامراء إلى "دار صدام" للمخطوطات 258 مخطوطة كانت في مكتبة مهدي محمد العسكري، وقد حرقت دار صدام وما فيها من مخطوطات بنيران الحرب الأميركية، وما زالت في سامراء مكتبة الشيخ أحمد الراوي في المدرسة العلمية الدينية، وتضم 35 مخطوطة، ومكتبة سامراء العامة، وتتبع الإدارة المحلية، وقد أنشئت سنة 1956م، وتضم نحو عشرة آلاف كتاب مطبوع، وستة مخطوطات. عاصمة المعتصم واتخذ محمد بن الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر سنة179ه/ 795م سامراء عاصمة وكان في عهد أخيه المأمون والياً على الشام ومصر، وكان المأمون يميل إليه لشجاعته فولاه عهدَه وترك ابنه، ولما مات المأمون بُويع محمد بالخلافة ولُقِّب بالمعتصم باللَّه، فبقي خليفة إلى أن توفي في سامرّاء في 18 ربيع الأول سنة 227ه الموافق ل 4 شباط/ فبراير سنة842م، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وكانت أظهر صفات المعتصم بالله الشجاعة والإقدام وشدة البأس، وكان يحب العمارة، ويقول: "إن فيها أموراً محمودة، فأولها: عُمران الأرض التي يحياها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش"، وكان يقول لوزيره محمد بن عبدالملك الزيات: "إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة عشرة دراهم فلا تؤامرني فيه". ومن آثار المعتصم بالله اختطاط مدينة سامراء، ففي سنة 219 للهجرة الموافقة لسنة 834 للميلاد ضربت الزلازل بلاد العراق، ودمرت الكثير من المباني في بغداد، وكثرت الفِتن في البلاد الإسلامية، واحتاج الخليفة المعتصم بالله إلى موقع آمنٍ يُتيح له السيطرة على قلب دولة الخلافة وأطرافها، فقرر الخروج من بغداد المزدحمة بالسكان والمؤامرات، والخارجة من تحت الزلازل. وخرج المعتصم بالله ووزيره وبطانته من مدينة بغداد، واتجهوا شمالاً على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وراحوا يبحثون عن مكان مناسب لبناء عاصمة جديدة للخلافة العباسية، فقطعوا نحوَ 118 كلم، ووقع الاختيار على مكان يقع على خط طول: 43 درجة و45 دقيقة، وعلى خط عرض: 34 درجة و35 دقيقة، وحدود ذلك الموقع من الشمال تكريت ومن الجنوببغداد ومن الغرب الرمادي ومن الشمال الغربي الموصل ومن الجنوب الشرقي ديالى. ووجد الخليفة وحاشيته ديراً للنصارى في ذلك الموقع، وحوله آثار قديمة خلفتها الحضارات البائدة، منذ أقدم العصور، ولما استقر الرأي على بناء المدينة في ذلك الموقع أقام الخليفة وحاشيته ثلاثة أيام في الدير ليتأكد من ملاءمة المحل، وطيب هوائه، وعذوبة مائه، وبعد ذلك تبين أن المكان مناسب. واشترى الخليفةُ أرض الدير من الرُّهبان، ودفع لهم أربعة آلاف دينار كي يتمكنوا من إنشاء دير مناسب لهم، وأمر بتخطيط المدينة سنة 220ه/ 835م، وبإحضار المهندسين لاختيار مواقع القصور، وصيّر إلى كل رجل من أصحابه بناء قصر، فصيّر إلى خاقان عطروج، أي الفتح بن خاقان، بناء الجوسق الخاقاني، وبدأت أعمال البناء فاكتملت سنة 221ه/ 836م. وكان الجوسق الخاقاني أكبر قصور "سر من رأى" وأعظمها، ويقع على شارع السريجة أو "الشارع الأعظم" الذي يضم دواوين الدولة قُرب المسجد الجامع الذي يتوسط قلب المدينة وتحيط به الأسواق الرئيسية، والجوسق الخاقاني هو دار الخلافة التي اشتهرت ببركتها الجميلة التي خلدها الشاعر البحتري في قصيدته المشهورة، ولم يبقَ من هذه الدار سوى البوابة التي كانت تدعى "باب العامة"، أو دار العامة التي عُرفت بهذا الاسم لأن الخليفة المعتصم بالله كان يجلس في إيوان المدخل ليستمع إلى شكاوى عامة الناس، وكان يخصص لهم يومين في الأسبوع، وما زالت تعرف باسم "الخليفة". وحينذاك انتشر مرض الطاعون في البصرة وغيرها مما عجَّل بنقل العاصمة إلى سامراء التي عرّبَ اسمها الخليفة المعتصم بالله، وسمَّاها باسم: "سُرَّ مَنْ رأى"، ولم يمض إلا زمن قليل حتى قصدها الناس من كل حدب وصوب، وشيدوا فيها المباني الشاهقة، وسميت بالعسكر، وصارت النسبة إليها العسكري، ثمّ اشتهرت باسم "سامُرّاء"، ولما تعرضت للخراب تحول اسمها إلى "ساء مَن رأى" ولكنها ما زالت مدينة حية تروي تاريخاً زاهراً، وتخزن حكايات الماضي، ومغامرات الحاضر والمستقبل. ومرت سامراء بتطورات عمرانية وسياسية، ففي سنة 245ه/ 859م حصلت زلازل في العراق ومصر والشام، بنى الخليفة المتوكل العباسي مدينة الماخورة، وسمّاها "الجعفرية" ثم سُميت المتوكلية، وشيد المسجد الجامع ومئذنته الشهيرة "الملوية" التي لا تشبهها سوى مئذنة جامع أحمد بن طولون في القاهرة، وقتل المتوكل سنة 247ه/ 861م في المتوكلية، وخلفه ابنه المنتصر محمد فمات بعد سنة تقريباً، وآلت الخلافة إلى المستعين بالله أحمد الذي غادر سامراء إلى بغداد مع القائدين وصيف وبُغا سنة 251ه/ 865م. وآلت الخلافة في سامراء إلى المعتز بالله بن المتوكل الذي وجه جيوش سامراء إلى بغداد فقضت على المستعين، وبعد ذلك تنازل المعتز عن الخلافة للمهتدي بالله محمد بن الواثق سنة 255ه/ 869م، ثم خُلعَ وقتل في سامراء بعدما حكم سنة واحدة، وآلت الخلافة إلى المعتمد بالله، وفي سنة 274ه/ 887م هجم صَديق الفرغاني على سامراء، ونهب أموالها، وبعد ذلك بسنة استطاع جيش الخلافة أسر الفرغاني وقتله، وأعاد الخليفة المعتمد عاصمة الخلافة جزئياً إلى بغداد سنة 260ه/ 873م، وبقيت لسامراء أهميتها السياسية والعسكرية، وتوفي المعتمد بالله سنة 279ه/ 892م بعدما حكم 23 سنة و3 أيام. وآلت الخلافة إلى المعتضد بالله فنقل العاصمة نهائياً من سامراء إلى بغداد، وتزوج قطر الندى بنت خُمارويه سنة 282ه/ 895م، وغنّت الجواري أغنية "قطر الندى" المشهورة في ذلك العرس الملوكي الذي امتد من مصر إلى العراق مروراً ببلاد الشام، وما زالت الأغنيةُ حيّةً تُردّدُ في الأفراح. أسماء سامراء واختلف الكتّاب في مُسمّى سامراء، ولخص المؤرخ الأديبُ ياقوت الحموي تلك الأسماء، فقال: "سامراء" لغةٌ في "سُرَّ مَن رأى"، وفيها لغات: "سامراء" ممدودٌ و"سامُرا" مقصور و"سُرَّ مَن رأى" و"سراء" مهموزُ الآخر و"سُر مَن راء" مقصورُ الآخر، وعدّد ياقوت الحمويّ أسباب التسمية، فقال: وهي على أقوال: القول الأول: انها كانت مدينة عتيقة تُحمل إليها الإشارة التي كانت موظفة للفرس على الروم، وقد استدلَّ على ذلك من اسم المدينة، لأن كلمة: "سا" اسم الإشارة، وكلمة "مرة" اسم العدد، والمعنى: أنه كان لقبض الجزية. القول الثاني: أنها مدينة بناها "سام بن نوح" أو أنها بُنيتْ له فنُسبت إليه، وقيل: "سام رآه". وهناك من يرجح أن اسم موضع "سامرا" مشتقٌّ من اسم مستوطن قديم عرفه الآشوريون والبابليون باسم "سومورم" sumurim أو باسم "سورمارتا" وكان موضعاً مُهما في العهد الذي سبق الفتوحات الإسلامية. ولكن المؤرخ الراحل الأب أنستاس الكرملي يقول: "أما اسم المدينة فليس من وضع المعتصم نفسه بل هو قديم في التاريخ، فقد ذكره المؤرخ الروماني الشهير "اميانوس مرسيلينوس" الذي وُلد سنة 320 م، ومات سنة 390م، وجاء بصورة: "سُومرا" sumera ونوّه به "زوسميس" المؤرخ اليوناني من أبناء المئة الخامسة للمسيح، صاحب التاريخ الروماني بصورة: "سوما" souma. أما المؤرخ مصطفى جواد فيقول: "سامرا" اسم آرامي وهو في أصله مقصور كسائر الأسماء الآرامية بالعراق مثل: "كربلا، وعُكبرا، وحرورا، وباعقوبا". وهذه الروايات تفيد أن موقع مدينة سامراء قديم عرفه الآشوريون والبابليون، ومن الطبيعي أن يتعرض اللفظ للتحوير والتعديل بمرور الزمن، وبمُقتضى اختلاف اللغات والترجمة، وهذا ما أدّى إلى استقرار اسم "سُرَّ مَن رأى" عند بناء المدينة في عهد الخليفة المعتصم بالله، ثم صار سامُراء، وهذا هو الرائج في العصر الراهن. ازدهرت سامراء بسرعة، فبلغ تعداد عسكر المعتصم فيها ما يقرب من عشرين ألفاً، ومنها توجهت جيوشه إلى بلاد الجبال، فقضت على بابك الخرمي الذي تعاون مع الروم ضد الخلافة الإسلامية، ولكن جيش الخلافة انتصر على الخرمية بقيادة الأفشين، وأسر بابك سنة 222ه/ 837م. وبعد ذلك بسنة انطلقت جيوش المعتصم نحو بلاد الروم فدمرت مدينة أنقرة عاصمة تركيا الحالية التي كانت تُسمّى: أنقورة، وسبب ذلك أنّ قيصر الروم توفيل بن ميخائيل استغل فُرصة انشغال الخلافة العباسية - منذ أيام المأمون - بحروبها مع الزنج والزطّ في الجنوب، ومع بابك الخرمي في الشمال الشرقي. وقام القيصر ومعه مئة ألف مقاتلٍ بالهجوم على زبطرة مسقط رأس الخليفة المعتصم، ودخل زبطرة وقتل مَن فيها من الرجال وسبى النساء والذرية وأحرق المدينة ومضى من فوره إلى مدينة ملطية وأغار على حصون المسلمين وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة ومثّل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم وقطع آذانهم وآنافهم. عمورية ونخوة المعتصم ويُروى أنَّ من ضمن النساء المسلمات السبايا امرأة اقتادها أحد جنود الروم، فصرخت المرأة: "وا مُعْتَصمَاه"، فاستهزأ العِلجُ بها وبالمعتصم، ووَصَل الخبر إلى المعتصم خليفة المسلمين فاستشاط غضبًا ونخوةً، وأخذته الحمية والغضب لله، وقال: "لبيك". وأخذ في الاستعداد، وجمع الجنود، وأعدّ العدة، وخرج على رأس جيش لنجدة المسلمين، وعسكر بهم في غرب نهر دجلة، وقرّر غزوَ مدينة عمورية مسقط رأس قيصر الروم الذي غزا زبطرة مسقط رأس المعتصم بالله. وجهز الخليفة جيشاً لم يتجهز خليفة قبله بمثله من حيث العَدَد والعُدَد، وسار على رأس الجيش عن طريق نهر سيحان، وقسم الجيش الى أقسام، وكان قسم بقيادة الأفشين الذي دخل بلاد الروم من درب الحدث وانتصر على ملك الروم، وقسم بقيادة أشناس الذي كان دخوله من درب طرسوس، ثم التقى بالقسم الذي يقوده الخليفة عند أنقرة، وبعد ذلك بيوم واحد التحق بهما الأفشين بعد انتصاره على ملك الروم. ثم غادر الجيش أنقرة، ومدينة عمورية التي تبعد عن أنقرة مسافة سبع مراحل، وتمكن المعتصم بالله من فتحها عَنوةً، وحرر المسلمات السبايا والأسرى، واقتصّ من الروم جزاء ما فعلوه في زبطرة وملطية، وبعد انتهاء الواقعة عاد المعتصم إلى طرسوس، وكانت إناخته على عمورية في 6 رمضان سنة 223 للهجرة الموافقة لسنة 838 للميلاد، وقفل عنها راجعاً إلى سامراء بعد 55 يوماً، وضُربَ المثل بنخوة المعتصم. ولما ورد المعتصم بالله سامراء كان دخوله إليها يوماً مشهوداً، وقد حقق نصراً مؤزّراً على رغم ما تلقاه من تحذيرات المنجمين وتخويفهم له، ودعواهم أن ذلك الوقت ليس وقت فتح عمورية، إذ قال المنجمون: "رأينا في الكتب أن عمورية لا تُفتح في هذا الوقت، وإنما وقت نضج التين والعنب"، ولكن المعتصم لم يستجب لهم، وفتح عمورية، وامتدحه الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي المولود في قرية جاسم الحورانية، وفنّد دعوى المنجمين بقصيدته المشهورة التي جاء فيها: السيفُ أصدق أنباءً من الكتبِ في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ فَتْحُ الفُتوح تعالى أن يحيطَ به نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخُطَبِ فتحٌ تَفَتَّح أبوابُ السماء له وتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبِ يا يومَ وقعةِ عموريةَ انصرفتْ عنكِ المُنى حُفّلاً معسولةَ الحَلَبِ أبقيتِ جدَّ بني الإسلام في صَعَدٍ والمشركين ودارَ الشركِ في صبَبِ مركز الإشعاع العلمي كان عهدُ سامراء عهدَ القِمم العلمية حيث استوطنها ونُسبَ إليها عددٌ من أعلام الرجال في مختلف ميادين العلم والأدب، فقد وردَها وعاصرها الإمام أحمد بن حنبل الشيباني إمام المذهب الحنبلي، كما عاصرها إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، والمحدث مُسلم بن الحجاج القشيري، والمؤرخ الفقيه العالم محمد بن جرير الطبري. وأقام فيها وسكنها الإمام الحسن بن علي العسكري الذي سكنها أيام الخليفة المعتمد، وتوفى بداره فيها بجوار مدفن أبيه. وأقام في سامراء الإمام المحدث الكبير ابن معين وتوفي ودفن فيها، والمؤرخ البلداني أحمد بن إسحاق اليعقوبي، وعالما اللغة والنحو الْمُبرّد وثعلب، وعميد أدباء عصره عمرو بن بحر الجاحظ، ويعقوب ابن إسحق ابن يوسف المعروف بابن السكيت اللغوي الأحوازي الدورقي الذي تولى التدريس في مدارس عسكر مكرم الأحوازية ، ثم هاجر إلى بغداد ثم إلى سامراء، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين الذين تفتخر بهم سامراء. ومن مفاخر سامراء العلمية علم الميكانيك الذي نبغ فيه أبناء موسى: محمد وأحمد والحسن، الذين نبغ منهم محمد في علم الفلك، وأحمد في صناعة الميكانيك، والحسن في علم الهندسة، ومن مؤلفاتهم كتاب يعرف باسم "حيل بني موسى" الذي يضم مئة تركيب ميكانيكي. واشترك أحمد مع أخيه الحسن في صنع ساعة نحاسية كبيرة، وساعات مائية عديدة، وقد أنشأ لهم الخليفة المعتصم مرصداً فلكياً في سامراء، وزارَ المرصد الطبيب المعروف عبد الله بن سهل الطبري، ووصف آلة عجيبة فقال:"في مرصد سامراء رأينا آلة بناها الأخوان أحمد ومحمد ابنا موسى، وهي ذات شكل دائري يحمل صور النجوم، ورموز الحيوانات في وسطها، تديرها قوة مائية، وكان كلما غاب نجم في قبّة السماء اختفت صورة هذا النجم في اللحظة ذاتها في الآلة، وإذا ظهر نجم في قبة السماء ظهرت صورته في الخط الأفقي من الآلة".