انتهت الحرب الأميركية في العراق لينتقل العمل الإعلامي الأميركي في ما يخص المنطقة العربية، من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام القديمة من دمشق إلى غزة مروراً ببيروت. ويبدو الأمر لأي مراقب وكأن الانتقال من نقطة إلى أخرى يتم بإيقاع متزامن وكأنه انتقال طبيعي حان وقته. ويجد كل متابع للدفق الإعلامي المتعلق بالمنطقة العربية أنه كان يتوقع هذا الانتقال وتدخله سعادة داخلية لاشعورية من تحقق ما كان يتوقعه. لكنه لا يدري بأن هذا الانتقال من نقطة التماس إعلامية إلى نقطة أخرى هو جزء من العملية الإعلامية السابقة، وتشكل عاملاً أساسياً في هيكليتها، وهو ما يميز العمليات التواصلية الناجحة. فهي تحضر للعملية التالية التي من المقرر إطلاقها عند وصول العملية التواصلية الأولى إلى نهايتها، وتكون أدت مهمتها. وحده عامل توقيت نهاية العملية الأولى يظل "عاملاً حراً"، بمعنى أنه عامل لا يمكن ضبطه مسبقاً بأي شكل من الأشكال، لأنه متعلق بنتائج العمليات العسكرية على الأرض، وهي من العوامل المتغيرة مهما كان التخطيط العسكري جيداً. ولكن عاملاً جديداً متحركاً يدخل في العملية التواصلية هو عامل الزمن، أي لحظة قرار الانتقال من عملية إعلامية معينة ذات أهداف محددة إلى عملية تالية ذات أهداف مختلفة، بشكل يجعل المتلقي يحس بأن الانتقال هذا كان منتظراً، مما يؤسس نسبة كبيرة من نجاح العملية الجديدة. من هنا نرى أن قوة وضعف أي حملة إعلام تكمن في عملية ضبط توقيتها. فواضع أي عملية يحاول تطويع مختلف العوامل المفروض أخذها في الاعتبار، ولكنه يبقى عاجزاً عن تطويع عامل الزمن، فقط يستطيع تخفيف قوة هذا العامل أو تجاوزه. ومن الطبيعي أن تكاثر العوامل وترابطها يجعلان من عامل الزمن، أي من تزامن وتدخل مختلف العوامل وتأثيرها على مجمل العملية، أحد أهم مرتكزات نجاح أو فشل العملية بمجملها. وفي المقابل فإن تعدد العمليات يسهل عملية ضبط عامل الزمن من خلال تسلسل مختلف العمليات الإعلامية التي يمكن اعتبارها عملية شاملة "غلوبال كومينيكشين" في خدمة أهداف بعيدة المدى. لكن مهما كانت إمكانات واضع العملية كبيرة ومهما كان التخطيط جيداً، فإن العمليات تبقى معقدة وقد تنزلق في اتجاه لا يخدم الأهداف البعيدة وفي بعض الأحيان يمكن أن تنقلب لتعود لتأتي بمفعول عكسي. الآن وقد غابت تقريباً أخبار العراق عن الصفحات الأولى في وسائل الإعلام وانتقلت إلى الصفحات الداخلية، وفي عودة إلى بداية ما اتفق على تسميته بالقضية العراقية، يمكن الملاحظة بوضوح التخطيط الذي وضعته السلطات الإعلامية الأميركية لتشابك العمليتين وتزامنها ولتحضير عملية الانتقال من الأولى إلى الثانية. كما يمكن ملاحظة العقبات التي صادفت تدرج الحملة الإعلامية بسبب عوامل عدة، منها العامل الأهم عامل الزمن. مما لا شك هو أنه منذ أن صعّدت واشنطن لهجتها حيال النظام العراقي السابق، كانت هيكلية العملية الحالية الثانية المتعلقة ب"خريطة الطريق"، موضوعة بشكل يسمح بادخالها كعنصر من عناصر الحملة الإعلامية على العراق. والبرهان على ذلك الطريقة التي تم فيها تجميد العودة إلى الملف الفلسطيني، تحت شعار "إعلان خريطة الطريق". ودأبت الوسائل الإعلامية على نقل تصريحات المسؤولين الأميركيين حول "شروط إعلان الوثيقة". وإذا عدنا بالذاكرة إلى ظروف وضع "خريطة الطريق"، يتبين أن هذه الشروط تغيرت مرات عدة. وقد اعتقد بعضهم أنها من نوع الشروط التعجيزية بهدف عدم إعلان الخريطة. وقد ارتاح عدد من المراقبين الاسرائيليين المعارضين أساساً لكل عملية تفاوضية، من تعدد الشروط التي كانت تبعد كل يوم عملية النشر وتجعل من تاريخ إعلان دولة فلسطينية بحلول عام 2005، ضرباً من المستحيل. وكذلك زادت الشروط المتواصلة من قناعة الفلسطينيين، بعدم جدية الإدارة الأميركية في حل القضية الفلسطينية. وفي الواقع فإن إعلان "خريطة الطريق" كان ينتظر حلول عامل الزمن المرتبط بالعملية الإعلامية المتعلقة بالقضية العراقية. وإلا لكان أمكن الإعلان عن الخريطة ووضع الشروط المطلوب توافرها لإقلاع العملية التفاوضية، خصوصاً أن النقاط الأساسية في الخريطة كانت معروفة من الجميع. وأفضل برهان على ذلك أن إسرائيل والسلطات الفلسطينية كانت تعلن من حين إلى آخر رفضها نقطة من النقاط أو رفضها ما يطالب الفريق الآخر بإضافته على الخارطة أو بإجراء تعديل عليه. ووصل الأمر بأن تحدثت الوسائل الإعلامية عن بعض مطالب تعديل إسرائيلية بلغ عددها "مئة تعديل"، قبل أن تعود وتتحدث عن دمجها بخمسة عشر تعديلاً! إذا فالخارطة أي النقاط التفاوضية كانت معروفة من الأطراف المعنية وغير المعنية، فما الذي أخَّر نشرها إن لم تكن الخطة تقضي بإعلانها بشكل يتوافق مع العملية الإعلامية الأميركية المتعلقة بالعراق؟ لقد أصبح من الواضح أن "خريطة الطريق" كانت تنتظر إشارة معينة، لأنها تشكل عاملاً من عوامل الخطة الإعلامية الأميركية الموضوعة للمرحلة التالية. كما بات واضحاً أن الشروط التي وضعت لإعلان الخريطة، لم تكن تهدف إلا إلى ضبط إيقاع العملية الإعلامية فقط . فقبل أسابيع، وقبل الحديث عن "أبو مازن" وصلاحيات منصب رئيس الوزراء، كانت شروط "القضاء على الإرهاب والتحريض ووقف تام للعمليات لمدة معينة" يرافقها "إجراء إصلاحات جذرية في السلطة الفلسطينية" تتصدر شروط إعلان الخريطة. وقبل ذلك بشهور كان يرافق القسم الأول المتعلق بالعمليات العسكرية والمقاومة "نزع السلاح المالي من يد منظمة التحرير الفلسطينية"، فتم تعيين وزير مال فلسطيني قبلت به واشنطن، وقبل ذلك ظهر شرط اقصاء ياسر عرفات، وهكذا دواليك. وكان كلما وفى الفريق الفلسطيني بشرط يظهر شرط جديد، وحتى عقب تعيين أبو مازن رئيساً للحكومة، بدأ الحديث عن الصلاحيات المعطاة له، وتطرقت تصريحات أميركية وإسرائيلية إلى تعديلات في الدستور الفلسطيني اليانع، ما أبقى عملية نشر الخريطة "عاملاً حراً" غير مرتبط بتوقيت يتعلق بتحقيق الشروط المطلوبة، بل بإرادة الإدارة الأميركية فقط. وفجأة وما أن انتهت الحرب العراقية حتى "اختفت" المعوقات التي كانت تؤخر نشر الخريطة. وسقطت من التصريحات الأميركية الشروط السابقة، حتى أن الإعلان عن مضمون الخريطة جاء على وقع العنف والمقاومة والهجمات المتبادلة التي لم تتوقف. ويسمح تداخل العمليات الإعلامية باستعمال ارتكازات متبادلة بين العمليات السابقة والتالية. كأن ترتكز العملية الثانية على بعض مقومات العملية التي سبقتها. أو أن تحضر العملية الأولى ركائز للعملية التي تليها. وهو ما يحصل في ما يتعلق بتواصل السلطات الأميركية حول العراق وفلسطين وما بينهما أي سورية. فقد شددت العملية الإعلامية خلال الحرب على العراق على أمن المنطقة الشامل، بما فيها أمن إسرائيل، وانتقلت تدريجاً نحو سورية مع التلويح الدائم بحل للقضية الفلسطينية بعد الانتهاء من نظام صدام، ما شكل ارتكازاً إعلامياً للعملية التالية، وفتح مجالاً للمراهنات حول المحطة التالية للحملة الأميريكة التي لم يستبعد بعضهم أن تكون دمشق. ولم تكذّب الإدارة الأميركية الأمر، بل استعملته ركيزة لعملية الخريطة. والآن وقد انطلقت هذه الأخيرة، فالعملية الإعلامية المتعلقة بها، تستعمل رموزاً إعلامية كثيرة من العملية العراقية، وهي ارتكازات مفيدة جداً لتثبيت الرسالة القائمة، وتحضيراً للرسالة التالية. إن العملية الإعلامية المتعلقة بالشق الفلسطيني لم تعد مستقلة بالنسبة إلى المخططين في واشنطن، كما كان الوضع قبل الحرب العراقية. فالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بدأ يظهر وكأنه جزء من قضية أوسع تشمل الشرق الأوسط والإرهاب والديموقراطية والشفافية المالية والإصلاحات السياسية المطلوبة، وحتى الأمن الداخلي الأميركي. وهذا ما يمكن اعتباره التغيير الكبير في الحديث الإعلامي الأميركي الموجه إلى المنطقة العربية. وهو بخلاف ما كان معمولاً به سابقاً لا يقسم القضايا تقسيماً جغرافياً شرق أوسط أو جنوب شرقي آسيا أو أميركا اللاتينية أو حسب نوعيتها نفط أو أسلحة دمار شامل أو حقوق الإنسان أو فتح الأسواق، بل هو شمولي، من خلال تطرقه إلى مجمل القضايا العالمية. إن العملية الأميركية موجهة دائماً للرأي العام الأميركي قبل أن تكون موجهة للرأي العام العالمي، وتضع المصالح الأميركية في مقدم اهتماماتها. ومن فوائد التعامل بهذا الشكل حشر الإعلام الأميركي بشكل أساسي ليصبح أمام مفاضلة بين التشديد على المصالح الأميركية وبالتالي التعامي عما تقوم به الحكومة، أو الالتفات إلى تفاصيل القضايا التائهة ضمن شمولية التعاطي، ما يعرقل عمل السلطات التنفيذية. ومن الطبيعي أن الوسائل الإعلامية الأميركية تختار الطريق الأولى