اشتهر الأميركيون بوضع السيناريوهات الخاصة بالأفلام وبالحروب. واليوم قبل ان تصل الحرب على العراق الى نتائج حاسمة على الأرض، وفي حين لا تزال قوى التحالف تواجه مقاومة ضارية في أكثر من مكان، لا سيما داخل بغداد، شرعت مخيلات مخططي الحروب في البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في وضع السيناريوهات لعراق ما بعد صدام. وعادة ما تتأثر هذه التطورات في كثير او قليل بالأحداث والمستجدات وتحاول ان تقتنص الفرص وأن تطرح تصوراتها للوضع العراقي باعتبار ذلك جزءاً من الحرب النفسية. فما الذي يمكن قوله حول سيناريو السلطة العراقية "الجديدة"؟ 1- يدرك الأميركيون ان امكانية السيطرة على العاصمة بغداد ليست، ولن تكون، مجرد عملية سريعة، فالعاصمة ربما تقاوم لفترة غير محسوبة. وعليهم أخذ هذا الأمر بالحسبان لأربعة أسباب: الأول: أنهم سيدفعون ثمناً غالياً في أرواح الجنود إذا قاموا بحرب شوارع في العاصمة العراقية. الثاني: ان القيادة العراقية قد تجد نفسها "عند الحشرة" مضطرة لاستعمال أسلحة لم تستعملها حتى الآن، وربما تكون أسلحة محظورة اذا توفرت لديها! الثالث: انه، حتى ولو ارتد هذا الاستعمال عليها سلباً من الناحية السياسية فإنها ستكون في وضع لم يعد لديها شيء تخسره. ولم يعد يعني لها شيئاً المعسكر المناهض للتحالف، كما لا تعود تعني لها شيئاً مفردات "الشرعية الدولية". انها ازاء معركة اثبات وجود، معركة حياة او موت! الرابع: ان القوى الدولية، حتى المعارضة، عادة ما تلتحق بالقوة التي تفرض نفسها على الأرض وقد يكون ذلك ينطبق على فرنسا وروسيا وموقفهما من الحرب على العراق. فهي ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع الأمر الواقع. 2- وإذا كان الهدف المعلن للولايات المتحدة هو إسقاط نظام صدام حسين، فمن الطبيعي ان يتناسب السيناريو مع هذا الهدف، في حال تحقيقه. لكن التعديل الذي أدخل على خطة الهجوم الأساسية بعد الموقف التركي جعل الثقل الأكبر للحرب في جهة الجنوب العراقي أي من الكويت باتجاه بغداد وبالتالي ومن دون اسقاط أهمية جبهة الشمال التي تتعثر لأسباب سياسية وعسكرية ولوجستية، لذلك فإن مصير الحرب وأهدافها ترتبط بنتائج الزحف الأميركي على بغداد وقوة البريطانيين في السيطرة على البصرة ومحيطها. 3- ان العلامة على اسقاط نظام صدام حسين هي في قيام نظام بديل، اي سلطة بديلة على الأقسام المحتلة من العراق. وهذا يعني بصريح العبارة اعلان حكومة عراقية موقتة ربما تكون قاعدتها الموقتة مدينة البصرة. ان سعي التحالف الى قيام مثل هذه الحكومة يحقق له جملة أمور هو في حاجة ماسة اليها: الأول: اعلان سقوط نظام بغداد بشكل "قانوني وشرعي" وذلك بقيام سلطة دستورية بديلة على قسم كبير من أرض العراق يمارسها عراقيون "مدعومون". الثاني: تأكيد أميركي سريع للعراقيين وللعالم، بأن أميركا تفي بوعودها والتزاماتها من أنها جاءت "لتحرير الشعب العراقي" فجعلت عنوان حملتها "الحرية للعراق" وها هي، عبر الحكومة الموقتة، تحترم ارادة الشعب العراقي وحقه في تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه، ولكن ضمن أية مدة زمنية؟! الثالث: ان جعل البصرة مركزاً موقتاً لهذه الحكومة، لا يرتبط فقط بعدم السيطرة النهائية على بغداد، وهو أمر قد يتأخر، ولكنه يرتبط بحسابات عراقية داخلية ذات مغزى. انه رسالة الى الشيعة العراقيين تؤكد التوازن السياسي الجديد داخل التركيبة العراقية وهو توازن يحرص الأميركيون على اعطاء الجناح الشيعي فيه دوراً أكبر من ذي قبل مستغلين بذلك الجراح التاريخية للممارسات السابقة بحق الشيعة العراقيين على يد نظام الرئيس العراقي! الرابع: سيكون بالامكان، عبر الحكومة الموقتة، اعطاء صورة ولو أولية عن نوعية السلطة الجديدة "المطلوبة" أميركياً للعراق بحيث تعكس هذه الصورة دور الأميركيين والتحالف في السلطة من جانب، ودور المعارضة العراقية بكل أجنحتها من جانب آخر. وسيكون هناك حرص بالتأكيد على توسيع التمثيل داخل الحكومة الموقتة على الطريقة الأفغانية كي تشعر جميع الفئات المهمشة سابقاً انها ممثلة في السلطة، والى حد معين في القرار، لأن القرار في المرحلة الانتقالية سيظل أميركياً. 4- يقوم جدل داخل أميركا وداخل التحالف، خصوصاً عبر رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير حول طبيعة هذه السلطة العراقية الجديدة المفترضة. فتيار بلير يتقاطع أميركياً مع تيار وزير الخارجية الاميركي كولن باول وهو يدعو الى قيام حكومة عراقية برعاية الأممالمتحدة ودعمها ومساعدتها ما يعطيها شرعية دولية ويسبغ على الحرب ذاتها الشرعية التي افتقدتها لدى إعلانها خارج مقررات الأممالمتحدة. أما التيار الآخر، تيار صقور الادارة الأميركية رامسفيلد وتشيني فهو يتمسك بضرورة قيام سلطة فعلية أميركية بمساعدة عراقية لفترة محددة. وعنده ان هذا الخيار له مبرراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي فهو أقرب الى فكرة انتداب دولي على العراق يمارسه حاكم عسكري أميركي وتشاركه مجموعات سياسية واقتصادية عراقية جرى تدريبها على يد الأميركيين منذ فترة! من هذه المجموعات مثلاً، تلك التي اجتمعت اخيراً في لندن لدرس مستقبل قطاع النفط في العراق. 5- إذا فرض الصقور الأميركيون وجهة نظرهم في شكل الحكومة الجديدة في العراق فإن ذلك سيخلق لهم مشاكل جديدة، بالاضافة الى المشاكل الكثيرة، مع جهتين أساسيتين في هذه الحرب: بريطانيا والمعارضة العراقية. فبلير أعلن في مجلس العموم مستبقاً ذلك بالقول: سنسلّم السلطة الى شعب العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. فهو ضد مبدأ: "وزراء أميركيون يعاونهم مستشارون عراقيون". أما المعارض العراقي البارز السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق فقد أكد معارضته لأي حكومة يفرضها الاحتلال على العراق بعد اسقاط نظام صدام حسين. وقال: "سنقبل الحكومة اذا كانت منتخبة من الشعب العراقي. لكن اذا كانت الحكومة معينة سنقاوم بالوسائل السياسية واذا فرض علينا القتال سنخوض هذه الحرب". ولكنه أكد "أن مباحثاتنا مع الأميركيين مستمرة". من جهته، يشعر المعارض العراقي الآخر أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي المعارض بخيبة أمل من الموقف الأميركي. فهو من جهة أولى مرشح محتمل لرئاسة الوزارة العراقية يتمتع بدعم وزارة الدفاع الأميركية وغير مرغوب فيه لدى الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية. وليس في وارد القبول بدور "المستشارية". وهو من جهة ثانية يدعو الى قيام حكومة موقتة في العراق وليس الى قيام سلطة انتقالية! 6- إن نوعية السلطة التي ستقوم او ستقام في العراق سيكون لها تأثير كبير على نوعية التعاطي الدولي معها. فالدول المجاورة للعراق حذرت من انها لن تعترف بشرعية أية سلطة يقيمها الاحتلال في العراق من خارج ارادة الشعب العراقي ومن خارج المؤسسات الدولية لا سيما الأممالمتحدة. ومع ان مثل هذا الموقف تشارك فيه دول أوروبية، فإن نقطة الاغراء للقبول بسلطة الأمر الواقع ستكون "قالب الحلوى" الكبير وهو إعادة إعمار العراق. وهو قالب سيثير بالتأكيد شهية العديد من الشركات والدول ويشكل مدخلاً الى "دولنة" الوضعية العراقية اي ان يكون للأمم المتحدة والمجتمع الدولي دور في اعادة اعمار العراق وهو أمر يكسر الشرخ الذي سبق قيام الحرب على العراق، ويجعل الدول المناهضة للحرب تعيد حساباتها والأصح حسابات شركاتها! 7- لدى متابعة دقيقة لمسار هذه الحرب وللإعلام الأميركي حولها، العسكري والسياسي، كان التوكيد دائماً على فكرة "ان قبضة صدام حسين على السلطة في العراق تضعف وتخسر وتتلاشى". وحيث انه يستحيل عملياً استبدال هذه السلطة بسلطة كاملة تنطلق من العاصمة بغداد التي لم تستسلم، عمد الأميركيون والبريطانيون الى اقامة "سلطات" بديلة في المناطق التي أصبحت تحت سيطرتهم هي أقرب الى ادارات مدنية. إضافة الى ذلك تردد أوساط أميركية "بأن كل شيء معدّ سلفاً بالنسبة الى عراق ما بعد صدام" وتذهب هذه الأوساط بعيداً في ثلاثة مجالات: الأول: ان عراقاً "جديداً" سينهج سياسة مختلفة ازاء الدولة العبرية. "سياسة سلام ومصالحة". وهذا التأكيد أحد أهداف الحرب الأميركية على العراق. الثاني: انه، تأكيداً لهذا الأمر، وانطلاقاً من نظرية "خصخصة قطاع النفط العراقي" وجعله سلعة تجارية غير مرتبطة بالحكومة العراقية يمكن اعادة فتح خط النفط المعروف لمدينة حيفا في اسرائيل. وهي فرضية قائمة في أذهان المخططين. الثالث: ان أميركا التي اجتهد الرئيس صدام حسين على اضعاف دولارها باقتراحه استبداله باليورو الأوروبي ربما تشرع في استعمال الدولار في العراق او ان تطبع له عملة جديدة، ديناراً عراقياً جديداً تختفي عنه صورة صدام وتحل محلها صورة شخصية عراقية تاريخية قد تكون صورة حمورابي! وتقول هذه الأوساط ان أميركا لا تعمل على اختفاء الرئيس صدام عن السلطة فقط، بل عن أوراق العملة أيضاً كي تقطع كل صلة نفسية وسياسية بينه وبين الشعب العراقي! باختصار، وبعيداً عن السيناريوهات الأميركية الكثيرة، فإن ما سيواجهه العراق في المستقبل القريب هو عملية انتقال السلطة جزئياً في مناطق معينة أم كلياً في مختلف أنحاء البلاد. وسيكون من الصعب، بل من المستحيل قيام سلطة تمثيلية عراقية شرعية فورية. فهناك ثلاث مراحل تمر بها السلطة الجديدة في حال قيامها وهي: إدارة مدنية ثم سلطة انتقالية ثم حكومة تمثيلية منبثقة عن انتخابات ديموقراطية. وسيمر وقت غير قصير للوصول الى هذه الصيغة الأخيرة. ويبقى السؤال المطروح: هل ستفرض الولاياتالمتحدة حكمها المباشر على العراق ام ستشارك فيه فقط ام ستعمل على تسليمه الى العراقيين؟ لكل من هذه الخيارات حسناته وسيئاته بالنسبة الى الأميركيين. لكن المؤكد ان أميركا ستتخذ الخيارات المتناسبة مع أهدافها الحقيقية من هذه الحرب. وهي خيارات لا تخرج عن مفهوم الهيمنة على "الرافدين": النفط والمياه!