انها قضية قد لا تثير اهتمام السواد الأعظم من سكان العالم. لكنها بدأت جدياً تشغل بال القيمين على التراث العالمي في منظمة اليونسكو، وكذلك اخصائيي الألسنية العالميين، ما حدا بالمنظمة المذكورة الى دق جرس الانذار، خوفاً من اختفاء 90 في المئة من الثروات اللغوية العالمية مع نهاية القرن الحالي. فهل يقتصر مجال الألسنية، مع نهاية القرن، على دراسة اللغات الميتة؟ وفي الواقع فإن عدداً كبيراً من هذه اللغات يختفي سنوياً - بين 20 و30 لغة، محكية في أكثرها - ما دفع وكالة الأممالمتحدة للعلوم والثقافة والتربية الى الطلب من خبراء الألسنية واللغات المهددة بالانقراض، وضع دراسة تتضمن نصائح ومشاريع حلول للحؤول دون اختفاء هذه اللغات شيئاً فشيئاً. وتتركز خطة اليونسكو، بداية، على ايجاد الحلول الأولية للأمور المستعجلة، وذلك بإيجاد بنى تحتية تمويلية وادارية لجمع وأرشفة الوثائق عن اللغات التي لم يبق الا قلة من الذين يتقنونها. وهذه ضرورة أساسية، لأن هذه اللغات المهددة، في حال اختفائها، لن تترك وراءها أي أثر يذكّر بها. ويشير الاخصائيون الى ان المطلوب من المنظمة الدولية الا تصبح فقط متحفاً او مجمعاً للغات مختفية، بل ان تعمل على وضع سياسات لتعليم هذه اللغات، وتشجيع انتقالها عبر الأجيال، وهو شرط أساسي لبقائها قيد التداول واحيائها. كيف تموت اللغات؟ ويعتقد الخبراء ان رفض الأهل الدفاع عن استمرارية اللغة عبر تعليمها لأولادهم، ناتج عن عوامل خارجية. ذلك انهم مقتنعون من تجاربهم في المجتمع الدولي، ان توريث أولادهم هذه الثروات القيمة قد يعيق انخراطهم في مجتمعاتهم. فتكون النتيجة تعلم الأولاد للغة الحية المسيطرة من دون التمكن من الانخراط كلياً، فيبقون مهمشين. ويكون الحل، حسب الخبراء، في التعددية اللغوية. اذ من الضروري ان يكوّن الأولاد لأنفسهم هوية لغوية من لغة أهلهم، ويتقنونها جيداً، ثم ينكبون بعدها على درس اللغة السائدة في مكان اقامتهم. فلا يضيعون بين هوية أصلية باتت ضائعة مع ضياع الصلة الأساس في انتمائهم الى حضارة ما، أي اللغة، وعدم قبولهم في المجتمعات الجديدة قبولاً تاماً لاعتبارهم، بشكل عام، غرباء دائمين. وهذا ما يحصل عادة مع كثيرين من سكان العالم الثالث المهاجرين الى الغرب. فقد أظهرت بعض الدراسات ان عدداً كبيراً من مهاجري الجيل الثاني او الثالث لا يتقن اللغة الأم، كما انه لا ينصهر كلياً - أو يُدفع الى ذلك - في مجتمعه الجديد، ما يؤثر سلباً على نجاحه. بالطبع، ليست اللغات الكبرى معنية بالأمر، فهي لغات عالمية أمّنت استمراريتها. لكن الخوف الأساسي يتعلق باللغات غير الرسمية التي تتكلمها الأقليات في كثير من بلدان العالم، والتي تتراوح، حسب رأي الاخصائيين، بين 5 آلاف و7 آلاف لغة، أكثرها محكي. وهي مقسمة الى فصائل او عائلات، تتوزع بدورها على مجموعات. فعلى سبيل المثال، تشكل المجموعة الهندو - أوروبية الفرنسية، الانكليزية، الاسبانية والهندية... وغيرها لغات نصف سكان العالم تقريباً. وليس موت اللغات ظاهرة جديدة، ذلك ان الكثير منها انقرض في العصور القديمة، كالسومرية مثلاً التي كانت محكية قبل حوالى 6 آلاف سنة في منطقة العراق حالياً. او اللغة العبرية مثلاً، التي كانت شبه منقرضة - الا في طقوس اليهود الدينية - لولا الهجمة الشرسة في القرن العشرين لإعادة احيائها لتصبح اللغة الرسمية للدولة العبرية القائمة على أرض فلسطين. فالظاهرة قديمة، وليس لها اطار تاريخي، وقد تصعب معالجتها من دون مشروع دولي مدروس، ينخرط فيه الأفراد، كما الدول، حتى لا تصبح هذه الثروات الضائعة مجرد ذكرى من التاريخ. وبلغت هذه الظاهرة ذروتها في بداية التسعينات، مع انتشار العولمة في التبادل ونشوء مجتمع اعلامي لا يولي التعدد اللغوي الأهمية المطلوبة، ما ساهم في تسارع ظاهرة اختفاء اللغات. ويعتقد الاخصائيون ان 96 في المئة من سكان العالم تتكلم 4 في المئة فقط من اللغات الموجودة. بينما يتقاسم 240 مليون شخص فقط أكثرية اللغات القومية. كما ان واحدة على اثنتين من لغات الأقليات يتراجع عدد متكلميها تدريجياً وبشكل سريع. ويخشى العارفون الأكثر تشاؤماً اختفاء 90 في المئة من هذه اللغات مع نهاية القرن الحالي. في بداية التسعينات، ومع وضوح الصورة أكثر، بدأت بعض المنظمات غير الحكومية تدق ناقوس الخطر. وكذلك فعلت منظمة اليونسكو، التي حددت يوم 21 شباط فبراير من كل سنة، للاحتفال بيوم اللغة الأم في اطار اعلان التنوع الثقافي. كما ان المنظمة العالمية في صدد التحضير لاتفاقية دولية حول الارث غير المادي للشعوب، بحيث يحظى التعدد اللغوي ضمنه باهتمام كبير. وهو رهان صعب، ذلك ان منظمة اليونسكو المنخرطة كلياً في هذا الرهان، تعتبر ان الدول المعنية تتحمل مسؤولية كبرى في الوضع الحالي للغات المهددة بالانقراض. ففي البلدان التي تحررت من الاستعمار، تركز بناء الهوية الوطنية، على لغة واحدة فقط هي اللغة الرسمية، ولم تؤخذ في الاعتبار الأخطار التي يرتبها ذلك على الإرث اللغوي والثقافي، فالكثير من اللغات المحلية أهملت لمصلحة اللغة الرسمية في الكثير من البلدان. ففي الجزائر مثلاً، أهملت سياسة التعريب المعتمدة بعد الاستقلال، اللغتين التقليديتين في البلاد، المغربية والأمازيغية، ما جعل المغربي يبدو وكأنه لهجة عربية شفهية في معظمها، بينما هي تتحدر من اللغة البونية التي كانت لغة قرطاجة، المتأصلة في التاريخ، والغنية بأدب عمره آلاف السنين. لكن المشكلة لا تنحصر فقط في بلدان الجنوب، التي انتقصت من أهمية اللهجات المحلية بهدف التلاحم الوطني. بل هي تتعداها الى بلدان كثيرة أخرى. فالمرض نفسه أصاب أوروبا أيضاً، حيث تهددت لغات محلية كثيرة بسبب الاهتمامات الوطنية وبناء البلدان، والتي بدأ العمل بها قبل بلدان الجنوب بكثير. وتذكر اليونسكو بخطر انقراض لغات كالباسك مثلاً، والبريتانية، والكورسيكية والغائيلية واللومباردية، فالغائيلية مثلاً هي فرع من اللغة السلتية التي تضم الاسكوتلندية والايرلندية. وهي لغة محكية خصوصاً في شمال اسكوتلندا، وما زال السكان متعلقين بها، على رغم فرض اللغة الانكليزية على هذه المنطقة لأسباب بريطانية سياسية وطنية. أما اللغات الأخرى، فهي لغات منتشرة في مناطق فرنسية سميت باسمها. وما انتشار الحركات التحررية في فرنسا، خصوصاً المشكلة الكورسيكية، سوى دليل واضح على تعلق الشعوب بتراثها الثقافي، وانتفاضها على اللغة المفروضة واعتبارها لغة ثانية. وقد أدخلت اللغة الكورسيكية أخيراً على البرامج المدرسية للحد من هذه المحاولات التحررية، وكذلك لغة منطقة "بريتاني" الفرنسية، حيث الحركات التحررية أقل نشاطاً. وتبقى القارة الأميركية، حيث يوجد حوالي ألف لغة والقارة الافريقية 2000 لغة، أهم مراكز الثروات اللغوية، والأكثر تهديداً بالانقراض. والسبب في ذلك الاهتمام باللحمة الوطنية، وكذلك الاستثمارات الاقتصادية للمناطق التراثية، بحسب رأي الخبراء، بهدف الكسب المادي، واهمال أهميتها في التراث. ومن المهم ايضاً التذكير باللغات الطاعنة في القدم، والتي كان مركزها الأساس بلاد ما بين النهرين، والتي هي أيضاً مهددة بالانقراض او انقرضت كلياً، للأسباب المذكورة وغيرها، لكن بعضها لا يزال يستعمل في ممارسة بعض الطقوس الدينية. لقد شهدت السنوات الأخيرة يقظة قوية ودعوة الى التعلق مجدداً باللغات التقليدية، كما في المناطق الفرنسية التي ذكرناها. وفي غواتيمالا، تشهد البلاد تحركاً لبعث لغات "المايا" مجدداً، وهي لغات الهنود سكان البلاد الأصليين، كما تشهد أيضاً أعمالاً متقدمة، بدأت منذ 1990، لتوثيق وتحديث هذه اللغات التقليدية المحكية. لكن هذه العمليات، التي تعتمد المعلوماتية كوسيلة أساسية للتحديث والتوثيق، ما زالت تصطدم بعوائق تقنية، لأن غالبية هذه اللغات غير مكتوبة وتفتقر الى "ألفباء" أساسية او نظم وعلامات يشكل كل منها لفظة هجائية ما يفرض زيادات طباعية على الألفباءات الموجودة لنقل "الفونيمات" او اللفظات النادرة. لكن هذه المحاولات تتعثر بسبب عدم اهتمام الصناعيين بإدخالها على أنظمتهم المعلوماتية نظراً الى كلفتها قياساً بالأرباح المنتظرة منها. فاللغة الايسلندية مثلاً، وهي لغة رسمية يعتمدها حوالي 300 ألف شخص، لم تصبح الا قبل فترة قصيرة، مكتوبة بالشكل الصحيح اللازم على الأنظمة المعلوماتية، وذلك بعد مباحثات ومداولات معقدة وطويلة، وافق بعدها عمالقة المعلوماتية على زيادة الأحرف الناقصة على أنظمتهم لتصبح هذه اللغة مكتوبة بشكل صحيح. ان مشروعاً كهذا لا يخلو من العوائق، أقلها المتعلق منها بالأمور التقنية. والطريق صعب وطويل، ومكلف، لكن النتيجة، اذا تحققت، هي أهم من التضحيات المتوقعة. فالحفاظ على هذه الثروات الحضارية التراثية لا يقدر بثمن مراكز التنوع اللغوي الدول والمناطق عدد اللغات الفصائل والعائلات أوروبا 209 6 أميركا الوسطى 300 14 أميركا الجنوبية 419 93 أميركا الشمالية 230 50 استراليا 234 15 آسيا الجنوبية 400 10 آسيا الشمالية 380 12 المحيط الهادىء 250 04 غينيا الجديدة 1109 27