كم مرة يمكن أن يقتل الانسان؟ مرة، مرتين، ثلاثاً؟! وربما أكثر. فإذا كان القتيل فلسطينياً والقاتل جندي الاحتلال الاسرائيلي، هناك احتمال أن يكون القتل الاول بالسكين ثم يطلق الرصاص عليه حتى يموت، ثم تداس جثته بالدبابة فتطحن طحناً. وكل ذلك لا يكفي. فيقتلونه مرة رابعة بطريقة اخرى، طريقة محرمة بسرقة علنية يخلون جسده من الأعضاء. أجل هذا ما يفعله الجيش الاسرائيلي بموافقة سلطات عليا بجثث شهداء فلسطينيين، فلا يكفيهم القتل، بل يسرقون الاعضاء الداخلية، الكبد، الرئتين، العينين، القلب، وبكل بساطة يحاولون اخفاء الجريمة، ثم وببساطة أكبر ينكرون. حدث هذا للشبان الفلسطينيين الغزيين الثلاثة، أحمد محمد بنات 15 عاماً ومحمد المدهون 16 عاماً ومحمد لبد 17 عاماً وهم نموذج واحد لما يحدث لغيرهم من الفلسطينيين. كان ذلك في 30 كانون الاول ديسمبر 2001، عندما أنهى الثلاثة عملهم وقرروا التوجه لزيارة صديقهم، روى لنا والد الفتى الشهيد أحمد بنات: "في حوالي الساعة الخامسة والنصف من بعد الظهر أبلغنا احمد انه سيذهب وزميلاه محمد المدهون ومحمد لبد لزيارة صديق لهم في بيت لاهيا. وحتى ساعة متأخرة من الليل لم يعد الثلاثة، فحسبنا انهم تأخروا وقرروا المبيت عند صديقهم، ولعدم وجود جهاز تليفون لم يبلغونا. وفي الليلة نفسها أعلن الجيش الاسرائيلي انه تمكن من قتل ثلاثة فلسطينيين، وكما يقولون عنا "مخربين"، واضافوا انهم كانوا في طريقهم لتنفيذ عملية. ولم يفصحوا عن التفاصيل ومنطقة قتلهم بالضبط الأمر الذي لم يثر القلق الخاص عندنا. في اليوم التالي عندما لم يعد الثلاثة بدأت الشكوك تراودنا، خصوصاً أن الجيش عاد وأعلن انه قتل ثلاثة اخرين، عندها توجهنا الى الشرطة الفلسطينية وبدأت هي الاخرى بالاتصالات. وفقط بعد أربعة أيام احضروا لنا الجثث. كان المشهد فظيعاً، رؤوسهم مهشمة، خصوصاً المدهون ولبد، كان من الصعب علينا التمييز بين الاثنين لأنهم لم يتركوا أية معالم لوجوههما. حتى الدماغ كانت مستأصله من مكانها. وأطرافهم مهشمة ومبتورة. صور لا يمكن لأي كائن طبيعي ان ينظر اليها". حدثنا الوالد الذي يعاني من مشاكل صحية كثيرة فاضطر ابنه احمد إلى ترك المدرسة لمساعدة والده في اعالة البيت. "لا ادري اي قلب بشري يوجد عند هؤلاء الجنود. كيف يمكن لهم ان يضربوهم بهذه البشاعة ثم يقتلوهم بصورة ابشع، اتتخيلين انهم داسوهم بالدبابات، لا أدري، ربما كان احمد وزميلاه على قيد الحياة. من منا يعرف. أي عذاب مروا به، لا أحد منا يمكنه ان يتخيل، لا أحد منا يستطيع النوم منذ وقوع الحادث ومشاهدة الجثث. تصوري حتى العين اليسرى لابني سرقوها لم يتركوا من جسده شيئاً، هل وصلوا الى درجة الخوف حتى من الفلسطيني الميت؟"، تساءل الوالد. هذه الفظاعة في عملية القتل يكشفها التقرير الذي اعده الدكتور معاوية حسنين، مدير قسم الطوارئ والاستقبال في مستشفى الشفاء في غزة والذي اشرف على تشريح جثث الشهداء الثلاثة بعد تسلمها من سلطات الجيش الاسرائيلي: "عندما وصلتنا الجثث بدت عليها علامات التشريح، الأمر الذي أثار شكوكنا وتساءلنا ما الحاجة لاجراء عملية تشريح في حالة واضحة للقتل وبعدم موافقة الاهل. عندها قررنا اجراء تشريح وفتحنا الجثث وكان أمامنا منظر مرعب. فالأجساد الثلاثة خالية تماماً من الاعضاء الداخلية، وعملية التشريح كانت واضحة الهدف: سرقة الاعضاء. فقد استأصلوا القلب والكبد والكلى والطحال وحتى الأوعية الدموية". وتبين من تقرير التشريح الذي اشرف عليه الدكتور معاوية استخدام آلات حادة في الضرب وأحدهم كانت عليه آثار ضربة "ساطورة"، وآخر بضع طعنات من "موس" صغير كان بحوزة أحد الشبان، وعلمنا في ما بعد انه كان يستعمله لتقشير الفواكه، خصوصاً البرتقال. كما ظهرت ضربات قاسية على اطرافهم مما ادى الى تحطيمها كلياً. وهناك اثار الكدمات واختراق شظايا من القذائف التي اطلقت باتجاههم. وتظهر في صور الجثث ونتائج التشريح ان الدبابات داست وسحقت الشهيدين لبد ومدهون، فيما لم تظهر على جثة بنات، علامات دوس الدبابات، إنما كان بارزاً التنكيل والتعذيب واستئصال عينه اليمنى. وهناك شكوك في ان لا يكون قد فارق الحياة مثل زميليه في موقع عملية القتل. وفي اثناء تشريحه نقلت اعضاؤه ليس فقط للتعليم الطبي كما يفعل الاطباء في معهد التشريح أبو كبير في اسرائيل، بل للاستفادة منها للزرع في أعضاء أخرى، من دون معرفة أي طرف من الاهل أو السلطة الفلسطينية أو قريب لهم. ويضيف الدكتور معاوية حسنين: "غير مستبعد على اسرائيل ان تقوم بسرقة الاعضاء للشهداء الفلسطينيين والشهداء من العالم العربي، الذين يسقطون بعد تنفيذ عملية فدائية. فهي بحاجة جداً لهذه الاعضاء لتشخيص أمراض والكشف الطبي الجنائي"، ويضيف: "عادة مثل عمليات التشريح هذه تجرى في حالة طلب خاص من جهات رسمية عليا لمعرفة سبب الوفاة، وسبق وأجريت لعدد من المعتقلين الفلسطينيين الذي توفوا في اثناء التحقيق وحاولت اسرائيل ان تخفي الجريمة، فادعت ان الوفاة كانت مفاجئة. عندها كان يجرى التشريح في معهد أبو كبير في اسرائيل بحضور اطباء من الخارج وأطباء فلسطينيين وتتبين في ما بعد حقيقة التعذيب الذي مر به السجين وأدى الى وفاته. ومعهد ابو كبير لا يجري مثل عمليات التشريح هذه قبل دفع مبلغ كبير من الدولارات. كما ان معلوماتنا تقول ان اسرائيل تفعل ذلك للشهداء من العالم العربي وتجري التشريح وهي مطمئنة ان العائلات بعيدة ولا يمكنها الكشف عن الجثة التي تتسلمها في وقت متأخر، واذا كشف أمرها تقول إنها فعلت ذلك لأنها استعملت مادة فورملين لحفظ الجثة، لكنها في الواقع تكون سرقت الأعضاء". "أهالي الشهداء لم يعرفوا بعد حقيقة ما حصل لهؤلاء الشبان، ولكن من دون شك هناك جريمة اقترفت بحقهم"، يقول الدكتور معاوية متسائلاً: "ما الذي يجعل الجيش يدوس بدباباته على جثث فتيان بهذا الشكل؟ وما الحاجة لاطلاق القذائف في وقت لم يشهر أحدهم أي سلاح، فهم لم يملكوا سوى السكين الصغير الموس. وما الحاجة لنقلهم الى معهد ابو كبير للتشريح، فالمتبع هو أن تقوم اسرائيل بتسليم الجثث للسلطة الفلسطينية، بعد تسجيل الوفاة ولماذا تم تسليم الجثث بعد أربعة أيام من القتل؟!". الجيش الاسرائيلي سارع بعد تنفيذ عملية القتل إلى الإعلان عن عمليته، وعندما وصل عدد من الصحافيين، حرص الجنود على "مشاعر" مراسلي بعض هذه الصحف العبرية واقترحوا عليهم عدم الدخول لالتقاط الصور: "الصور بشعة، فالدبابات داست على الجثث ومزقتها"، قال أحد الجنود لمصور جريدة، وقال زملاؤه إن "من ينظر إلى صور كهذه يحتاج الى طبيب نفسي". في عودة سريعة الى ذلك اليوم تبين ان الجيش الاسرائيلي أعلن عن قتل ثلاثة فلسطينيين، مضيفاً في بيانه انهم حاولوا التسلل الى منطقة دوغيت بقصد تنفيذ عملية ضد مستوطنين، مع العلم ان هذه المنطقة خالية أصلاً من الناس، ثم عند منتصف الليل أعلن الجيش ان لديه معلومات عن وجود ثلاثة فلسطينيين ينوون تنفيذ عملية ضد اسرائيليين، وكما يعتقد اهالي الشهداء الثلاثة والاطراف التي تتابع قضية قتلهم ان هذا البيان جاء كمحاولة للتستر على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي، الذي قتل في صباح اليوم التالي ثلاثة فلسطينيين اخرين، عندها أعلن عن القتلى الستة. وكانت السلطات الاسرائيلية اتصلت بدائرة التنسيق واعلنت للفلسطينيين انها ستسلمهم جثث الفتيان الثلاثة، ولكن بعد ثلاث ساعات فوجئ الفلسطينيون باتصال آخر يبلغ عن عدم النية لتسليم الجثث، والرد نفسه جاء في اليوم التالي أيضاً واستمر تأجيل تسليم الجثث لمدة أربعة أيام. مكتب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي قال: "إن جنود الجيش شاهدوا اقتراب الثلاثة من جدار يفصل بين بيت لاهيا ومناطق يسكنها يهود دوغيت وكانت الدنيا مظلمة وحركاتهم كانت غريبة، عندها اضطر الجيش لاطلاق النار عليهم". لكن آثار التعذيب ظاهرة على الجثث؟ رد الناطق: لم يكن هناك أي تعذيب، انها آثار الرصاص الذي اصابهم. واخفاء معالم الوجه تماماً نتيجة دوسهم بالدبابات؟ - التحقيقات لدينا دلت ان دوسهم بالدبابات كان خطأ، بسبب الظلمة الدامسة. الجيش لم يقصد التعذيب. وطعنات السكين والآلات الحادة، هل هي بخطأ؟ - لا نعلم عن طعنات كهذه. لكنها بارزة أمامنا على جثث الثلاثة؟ - لا نعرف. وما الحاجة لنقلهم إلى معهد أبو كبير؟ - بسبب وضعية الجثث لم نتمكن من تسليمها في اليوم نفسه. فنقلناها للحفظ في أبو كبير. المتبع في إسرائيل ان تحفظ الجثث في المستشفيات. - أحياناً في أبو كبير. ولماذا تشريح الجثث؟ - لا نعرف بتشريح الجثث. ولا استئصال الاعضاء. - ولا استئصال الاعضاء. هذا شأن معهد أبو كبير. فإذا أجرى عملية تشريح يكون على عاتقه الشخصي. في معهد أبو كبير يقولون: "نحن لسنا مخزناً للجثث. جثث الثلاثة وصلت الى المعهد بطلب من الجيش لتشريحها وتشخيصها. أما بالنسبة إلى استئصال الأعضاء، فلم يعترف أي طرف بذلك. أما الدكتور معاوية فيقول إن "كل حديث الجيش الإسرائيلي ومعهد أبو كبير لا أساس له من الصحة، لأن تشخيص الجثة يتم في اجراء فحص يكشف البصمات ونوعية الدم وفحص خاص للاسنان، والسلطات في إسرائيل معروف أنها لا تملك أي مستند لتفاصيل أي مواطن فلسطيني، فكيف لها ان تكشف تفاصيل الفلسطيني، كل هذا الحديث مجرد حجج لتغطية جريمة سرقة الاعضاء. أسئلة كثيرة تحوم حول ظروف مقتل الثلاثة، منظمات لحقوق الإنسان ومحامون متطوعون فلسطينيون يتابعون القضية، ويتحدثون عن عملية القتل التي تعرض لها الثلاثة بدم بارد، لكن أحداً لم يتطرق إلى سرقة الأعضاء. ولم يتساءل أحد: لماذا تاريخ توقيع تسليم الجثث سجل في تفاصيل الشهداء الثلاثة بعد شهر بالتمام من تسليم الجثث، وان أخطأوا في تسجيل تفاصيل واحد فلماذا الخطأ في تسجيل التاريخ في مستندات الثلاثة؟ هل يختبئ وراء هذا التسجيل أيضاً لغز آخر كان ينوي الجيش الاسرائيلي حفظه في ملفاته السرية لاخفاء الجريمة، مثل عدم الكشف عن الجثث وتسليمها وثم الإعلان عن اخفائها مثلاً؟ من تحقيقات جمعيتين إسرائيليتين لحقوق الإنسان: الجريمة التي تعرض لها الفتيان الفلسطينيون الثلاثة أثارت اهتمام "لجنة أطباء اسرائيليين وفلسطينيين من أجل حقوق الانسان" ومنظمة "بتسليم لحقوق الانسان الفلسطيني"، فتوجهتا الى الجيش الاسرائيلي بطلب الحصول على الوثائق الخاصة بقضيتهم وظروف قتلهم. في الجيش تجاوبوا مع المنظمتين، وقدموا لهما شريط فيديو يوثق ما جرى للفتيان. وهذا ما قالوه لنا بعد مشاهدة الشريط: يظهر الثلاثة يسيرون من بعيد جداً، لدرجة يصعب على المرء ان يحدد معالمهم. لكنهم لم يكونوا سائرين باتجاه الدبابة. بل بالعكس. هي التي تحركت باتجاههم. وفي مرحلة معينة يبدو انهم بدأوا يهربون منا ويركضون. ثم سقطوا أرضاً في آن واحد تقريباً. ولم تتوقف الدبابة، بل واصلت السير حتى دنت منهم. وهنا يقطع الشريط. المنظمتان طلبت من الجيش الرد على بعض الأسئلة. فاعترف بأن الدبابة داستهم. لكن المسؤولين وجدوا لذلك حجة يتذرعون بها: "خفنا ان يكون الثلاثة أو أحدهم يحمل في وسطه حزام متفجرات أو عبوة ناسفة من اي نوع. فقررنا عدم المخاطرة. وأرسلنا الدبابة لتدوسهم". كما قال المقدم في الجيش الاسرائيلي حمادة غانم. أما رد الجيش على سؤالنا فهو ان عملية الدوس تمت بالخطأ وبسبب الظلمة. وأصر غانم على أن الثلاثة كانوا متوجهين الى المستعمرة اليهودية سيناي، التي اقيمت على أراضي قطاع غزة في اقصى الشمال، وان هدفهم كان القيام بعملية عسكرية في المستعمرة، مع أنهم لم يكونوا مسلحين.