حين التقى المبعوث الروسي يفغيني بريماكوف صديقه الحميم الرئيس صدام حسين الشهر الماضي في بغداد، وسأله عن رأيه في التقارير التي تتحدث عن احتمال قبوله المنفى لتجنّب حرب أميركية، أجاب هذا الاخير بهدوء وحزم: "ولدت في العراق، وسأموت في العراق". وحين وجّه الرئيس الاميركي جورج بوش يوم الاثنين الماضي إنذاره الاخير الى صدام بضرورة رحيله عن العراق مع نجليه خلال 48 ساعة، جاءه الرد الاولّي من عدي صدام حسين: "زوجات وأمهات الاميركيين الذين سيقاتلوننا، سيبكين دماً لا دموعاً". وبعدما ظهر صدام باللباس العسكري للمرة الاولى منذ العام 1991 ليعلن أنه "سيقاتل حتى النهاية"، تذكّر العراقيون وباقي شعوب العالم أدولف هتلر الذي واجه العام 1945 ظروفاً مماثلة، فرفض الاستسلام ثم انتحر حين اقترب الجيش الاحمر السوفياتي من مخبئه السري في برلين. ويقول ديبلوماسي غربي أقام طويلا في بغداد قبل أن يغادرها الاسبوع الماضي بأمر من حكومته: "صدام ينظر الى نفسه على أنه بطل الامة، وهو يريد ان يكون آخر المدافعين عنها. أنه يريد أن تحفظ صورته البطولية في أذهان الناس ...". ويضيف ديبلوماسي غربي آخر: "صدام متأثر بشدة بالديكتاتور السوفياتي جوزف ستالين، وهو يعتقد بأن المشيئة الالهية ستدفعه الى تكرار تجربة ستالينغراد، محّولا بذلك بغداد الى "صدام غراد"". وكان الديبلوماسي يشير بذلك الى معركة ستالينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، التي صمد فيها ستالين في وجه قوات هتلر، على رغم أن ذلك أدى الى مصرع اكثر من مليون جندي والى تدمير المدينة بالكامل. لكن، هل سيكون في وسع صدام أن يكرر حقا هذه الملحمة الستالينية؟ العديد من المراقبين يستبعدون ذلك، للأسباب الآتية: - ستالينغراد كانت مدينة استراتيجية، لكنها لم تكن المدينة الاخيرة تحت سلطة ستالين. فهي كانت تتمتع بدعم قطاعات واسعة من الارض السوفياتية التي بقيت حرة، والتي كانت تمد المدينة بالغذاء وكميات هائلة من الاسلحة والذخائر. أما في الحالة العراقية فإن صدام لن يستطيع أن يخطو خطوة واحدة خارج مخابئه وسراديبه السرية في القصور. فالهجوم العسكري الاميركي سيتمكّن خلال الايام القليلة الاولى من الحرب من السيطرة على البصرة وكل منطقة الجنوب، وإحكام القبضة على الشمال، وتقليص الرقعة التي يحكمها صدام في الوسط الى مساحة لا تتعدى الاميال القليلة. - سكان ستالينغراد، وعلى رغم معارضة بعضهم لستالين، كانوا يكرهون هتلر أكثر من ديكتاتورهم المحلي. ولذا امتشقوا السلاح بلا تردد وغلَّبوا مشاعرهم القومية على شعائرهم السياسية المعارضة. وهذا هو العامل الحقيقي الذي جعل المدينة تحقق هذا الصمود التاريخي في وجه الجحافل النازية. أما سكان بغداد الكبرى نحو 6 ملايين نسمة من السنة والشيعة، فمعظمهم يكره صدام اكثر بكثير من بوش. وهم سيعتبرون الجيوش الاميركية قوات تحرير لا احتلال. - الارجح ان يكون لاحتلال الاميركيين البصرة صدمة قوية على القوات الصدامية التي ستبقى في بغداد. إذ أن معظم المؤشرات يشي بأن سكان البصرة مليون نسمة الذين سبق لهم أن انتفضوا على النظام البعثي العام 1991، سيستقبلون القوات الاميركية - البريطانية الزاحفة بالترحاب. وهذا التطور سيغّير الكثير من المعطيات على كل الجبهات. - وأخيراً، يجمع العديد من المحللين على ان قطاعات واسعة من الجيش النظامي العراقي، ستقف على الحياد في المعركة. وربما شمل ذلك أيضاً بعض وحدات الحرس الجمهوري. وهذا لن يبقي مع صدام سوى الحرس الجمهوري الخاص وجهاز الامن الخاص بالرئاسة، أي حوالى 25 ألف عسكري. وتوضح "نيوزويك" هنا أن الغارات الجوية والصاروخية الاميركية التي ستلقي نحو 3000 صاروخ كروز وقذيفة ذكية خلال ال48 ساعة الاولى من الحرب، ستتركّز كلها تقريبا على الحرس الجمهوري الخاص والأمن الرئاسي. وهي مهمة ستستكملها حوامات الاباتشي ودبابات متطورة تستطيع ان "ترى" عناصر الخصم من على بعد أميال عدة. أما "فاينانشال تايمز" فتنقل عن العديد من المخططين العسكرييين الاميركيين قولهم، انهم يتوقعون أن يكون النصر في هذه الحرب سهلا، والا تدوم المعارك أكثر من شهر واحد بعضهم يتنبأ حتى بفترة زمنية أقل. ويضيف المخططون أن حرب العراق ستكون أشبه بعملية الغزو الاميركي لباناما العام 1989، وليس كاشتباكات مقديشو عاصمة الصومال العام 1993. ومعروف أنه خلال غزو باناما، قام نحو 22500 جندي اميركي بهجمات برية وجوية وبحرية متزامنة خلال الليل، تم فيها تدمير 27 هدفاً عسكرياً بانامياً في طول البلاد وعرضها. وتضمنت المعارك قيام القوات الاميركية الخاصة بالتغلغل في مواقع رئيسة عدة قبل أن تبدأ الهجمات من الجو، لقطع كل وسائل الاتصال والامدادات البانامية. وقد أدى هذا الهجوم المركز الى إخضاع القوات البانامية والميليشيات التابعة لها في غضون أيام قليلة. أما في مقديشو، والذي يؤكد المخططون الاميركيون انه لن يتكرر أبداً، فقد وقعت القوات الاميركية في فخ نصبه تحالف يضم أجنحة صومالية مقاتلة، والجهاد الاسلامي المصري، وعناصر من تنظيم أسامة بن لادن، وخبراء إيرانيين وسودانيين. وهكذا خسرت الولاياتالمتحدة في ليلة واحدة 18 جندياً وطائرتي هيليكوبتر. ويشير المخططون الى أنه حتى لو قاتلت القوات العراقية بضراوة، فإن القوات الاميركية والبريطانية ستقوم تحت جناح الليل وهي مزودة بأجهزة رؤية ليلية بهجمات لن يتمكن ما تبقى من دفاعات جوية او برية عراقية من التصدي لها، اضافة الى أن القوات الاميركية التي كانت موجودة في مقديشو العام 1993 لم يتجاوز عددها ألفي جندي، في حين سيكون حول بغداد اكثر من 200 ألف جندي. والحال أنه سيكون مستغرباً للغاية ان يتمكّن الجنود الصداميون من إبداء مقاومة طويلة الأمد، بعدما يتم تمزيق هيكليتهم العسكرية القيادية. فالقتال من حي الى حي قد يكون عنيفا في بعض الاماكن، لكن الارجح أن تحدث المقاومة من بضع مئات فقط من قوات الحكومة العراقية. ويشير كل التقديرات الى أن الخسائر الاميركية والبريطانية المتوقعة، ستتراوح بين بضع مئات الى بضعة آلاف، وأن معركة بغداد لن تدوم أكثر من أسبوع الى أسبوعين. هذا ما قد يحدث في الجبهات. لكن ماذا عن المضاعفات الجيو - استراتيجية للحرب؟ الكاتب الاميركي ريتشارد وولف تحدث، وعن حق، عن نظام عالمي جديد قد يلي هذه الحرب. قال: "ضغط اللحظة يكون في بعض الاحيان قوياً الى درجة تستحيل معها رؤية ما قد يحدث بعد خطوتين أو ثلاث. لكن خطاب الرئيس بوش الاثنين الماضي والذي اطلق فيه إنذاره لصدام، ذهب أبعد بكثير من حدود هذه اللحظة الراهنة، إذ كشف عن رؤية أكبر وأشجع بكثير من حرب العراق، تتضمن نظاماً عالمياً جديداً لكل الكوكب الازرق". وأضاف وولف: "بغض النظر عن كل ما يحدث في العراق، العالم لن يعود أبداً الى ما كان عليه". نظام عالمي جديد؟ كيف؟ القصة هنا لها بعدان: عسكري اميركي، وسياسي اميركي - أوروبي - آسيوي. بالنسبة الى الشق الاول، بدا واضحاً من خطاب بوش أنه حسم الجدل حول من هو الطرف الذي يجب أن يطبق قرارات الاممالمتحدة المتعلقة بالانظمة الديكتاتورية، والمفهوم الذي يجب أن يسود في هذا المجال. وهذا المفهوم يستند الى الآتي: في عصر الاعداء غير المرئيين الذين لا يصدرون بيانات رسمية تعلن الحرب، فإن "تأجيل العمل الى ما بعد قيام خصوم اميركا بالضرب، سيكون انتحاراً" على حد تعبير بوش. وهذا الاعلان حوّل اول إستراتيجية امن قومي أميركي منذ 50 عاما وهو مبدأ الحروب الاستباقية الى عقيدة ثابتة ودائمة . وفي إطار هذا المنظور، سيتعيّن على الولاياتالمتحدة ان تلعب دور الشرطي في العالم، من دون العودة الى الاممالمتحدة أو حتى إلى حلفاء أميركا. ويوضح ستانلي هوفمان، البروفسور من هارفارد الذي أمضى حياته وهو يدرّس مسألتي الحرب والعلاقات بين ضفتي الاطلسي: "بالنسبة اليهم للإدارة الاميركية الخطاب أكد ان كل ما بذل في الاممالمتحدة كان جهداً لا طائل من ورائه. وعلى أي حال، لا يوجد في ميثاق الاممالمتحدة مجال لقبول مبدأ الرئيس في الحروب الاستباقية أو الحروب الهجومية". هل اتضحت الصورة الآن؟ أميركا، او على الاقل إدارة بوش، تريد نظاماً عالمياً أحادي القطبية. وإذا ما وافقت الاممالمتحدة على هذا القرار وطبقت متطلباته، ستكون منظمة مهمة. والا سيكون على الولاياتالمتحدة، أو مرة أخرى إدارة بوش، استبدالها بنظام عالمي جديد. وما ينطبق على الاممالمتحدة، يسحب نفسه بالطبع على حلفاء الولاياتالمتحدة الاوروبيين . فمن الجلي الآن أن نتيجة الحرب في العراق، ستحدد مستقبل العلاقات بين ضفتي الاطلسي. فإذا ما صّحت توقعات البنتاغون حول استقبال العراقيين للقوات الغازية على انها قوات تحرير، خصوصاً في البصرة، ثم إذا سقطت بغداد بعد القصف الجوي - الصاروخي بأيام، فإن فرنسا وألمانيا ستكونان في مأزق حرج للغاية. إذ هما ستبدوان في أعين العالم أشبه بشامبرلين خلال استرضائه لهتلر عشية الحرب العالمية الثانية، منهما الى المهاتما غاندي في معركته من اجل "الحروب السلمية". وهما ستظهران امام الدول ال23 الاخرى في أوروبا، كقيادة لا يعتد بها مقارنة بالزعامة الاميركية الحاسمة والواثقة والقادرة على فرض الامن والنظام العالميين. والاهم من هذا وذاك أن باريسوبرلين ستجدان نفسيهما مضطرتين ل"استرضاء" واشنطن، إذا ما كانتا ترغبان بأن تكون لهما كلمة في طريقة إعادة ترتيب اوضاع "حديقتهما الخلفية" الشرق أوسطية. أما إذا لم تجر الرياح كما تشتهي سفن البنتاغون، وأثبت صدام انه قادر على مقاومة الغزاة بالقوة نفسها التي كان يضطهد فيها شعبه، فإن التحالف الفرانكو - جرماني قد يحقق اعظم انجاز له منذ 50 عاما. فهذا قد يقلب الموازين داخل اوروبا، من خلال دحرجة رأس طوني بلير على عتبة 10 داوننغ ستريت. ومن يدري، فربما يتمكّن هو أيضا من إقناع الانكليز المترددين بأن مستقبلهم يكمن في الانضمام الى أوروبا كدولة كبرى لا في الالتحاق بأميركا كزائدة دودية . كما انه سينجح في بناء هوية أوروبية جديدة قادرة على خلق "عصبية" لدى دول الاتحاد الاوروبي، استناداً الى فكرة الاستقلال عن القوة العظمى الوحيدة في العالم. بيد ان التقديرات الآن وحتى إشعار آخر لا تزال تصب في الخانة الاميركية، ولغير مصلحة الخانة الاوروبية. وهذا ما لن يكون لمصلحة حسابات صدام، الذي لا يزال يمني النفس بنصر سياسي يولد من رحم هزيمته العسكرية