أنهت الفصائل الفلسطينية الإثنا عشر اجتماعاتها في القاهرة بدعوة من السلطات المصرية على أن يتم استئناف هذه الاجتماعات في الرابع من شهر شباط فبراير الجاري. ولم تتوصّل هذه الفصائل الى اتفاق على الموضوعات الأساسية المطروحة للبحث. إلا أن اللقاء الفلسطيني، في العاصمة المصرية، ضمن هذا الحشد من القوى والتيارات والأحزاب التي لم تجتمع منذ أمد بعيد، شكّل بذاته حدثاً له أهميته وأبعاده على الصعيدين الفلسطيني والعربي. ومع أن بعضهم ذهب الى القول ان ارجاء الاجتماع بل وتعليقه جاء بمثابة ارجاء لإعلان الفشل، فإن من الصعب استباق الأمور على صعوبتها، للحكم على ما آلت اليه المناقشات في الموضوعات الثلاثة الأساسية التي دار حولها الخلاف وهي: وقف العمليات لمدة سنة اختبارية، وتصدّر الدولة الفلسطينية السلطة والاصلاح والموقف من قرارات الشرعية الدولية لا سيما القرار 242 وحدود 1967 والقرار 194 ومسألة العودة. فما هي القراءة الموضوعية الممكنة للحوار الفلسطيني في القاهرة؟ أولاً: في مصر... ودورها! كان من الصعب لئلا نقول من المستحيل، ان يعقد مثل هذا اللقاء الحواري بين الفصائل الفلسطينية خارج مصر: مصر الجغرافية بعاصمتها، ومصر السياسية بقيادتها. فلقد لبّت الفصائل الدعوة المصرية تباعاً بجميع اتجاهاتها العقائدية والدينية والسياسية. * فمصر تمثل الثقل العربي الأول في القضايا العربية، حتى وان عقدت اتفاق سلام مع اسرائيل. فهي الداعم الدائم للسلطة الفلسطينية والصوت المسموع في المحافل الدولية. وهي الجهة العربية التي ترتاح اليها الحركات السياسية الفلسطينية لأسباب موضوعية. * ومن هذه الأسباب ان مصر تمثل دوراً مركزياً في المعادلة العربية، وهي موطن الأزهر وموطن حسن البنّا. وهذان الأمران يؤثران في مواقف القوى الإسلامية الفلسطينية حماس والجهاد الإسلامي حتى وان اختلفت الرؤية السياسية بينهما. * لقد أصبحت اللقاءات الفلسطينية ضرورة تاريخية يحتّمها الوضع العام داخل فلسطين وما آلت اليه الأمور بعد الانتفاضة وما تتجه اليه آلة الحرب الاسرائيلية وهي تمنح ارييل شارون أكبر تفويض حصل عليه "ليكود" واليمين الاسرائيلي منذ إنشاء دولة اسرائيل عبر الانتخابات. وهذا يعني ان المنطقة، من بغداد الى القدس، مقدمة على تحوّلات كبيرة وخطيرة ولا بدّ للقوى الفلسطينية من القيام بأمرين متلازمين: الاول، اجراء نقد ذاتي للممارسات والمواقف السابقة. والثاني، اجراء تقويم للانتفاضة في ما أدت اليه ايجاباً وسلباً. ذلك أنه من دون هذين النقد والتقويم، لن تتمكن الانتفاضة، وبالتالي الشعب الفلسطيني من رسم ملامح مساره المستقبلي على ضوء ما ينتظره من تحديات. * ان مصر، ممثلة بالوزير في رئاسة الجمهورية اللواء عمر سليمان وضعت هدفاً أساسياً للنقاش وهو الاتفاق على وقف العمليات لمدة سنة، ومن الواضح ان مصر لم تكن لتطرح مثل هذا الاقتراح على الفلسطينيين لدراسته لو لم تكن حصلت على ضمانات غربية واسرائيلية، بأن إقرار مثل هذا الاقتراح سيؤدي في المقابل الى وقف أعمال العنف والقتل والتدمير الاسرائيلية، انه بمثابة اختبار بل مدخل لوقف دوّامة العنف. * مهما كان طرح المعترضين على الهدنة السنوية، حماس والجهاد وفصائل أخرى فإن مصر سعت بطرحها هذا الى ما هو أكثر وأبعد من الكلام الإنشائي، الى الحفاظ على المؤسسات الفلسطينية وعلى البنية، بل على الوجود الفلسطيني الذي بات مهدداً. وهي في ذلك لم تشأ أن تفرض شيئاً على الفلسطينيين، ولهذا رحبت بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية في مناقشة اقتراحها وغيره من المواضيع المهمّة كي يأتي القرار أكثر شمولية لدى الشعب الفلسطيني، ولكي يتحمل المسؤولون الفلسطينيون، في السلطة وخارجها، نتائج قراراتهم ومواقفهم أمام شعبهم وأمام التاريخ. * ان المعنى السياسي لاجتماعات القاهرة، لا يقتصر على بحث الاقتراح المصري بل هو يبرز من جديد وحدة الشعب الفلسطيني الساعي لدراسة أوضاعه ومواقفه وخياراته ووسائله النضالية. وهذا المعنى الاتحادي، لئلا نقول التوحيدي، يحمل في ذاته بُعداً واضحاً: ان تلاقي الفصائل الفلسطينية والحوار في ما بينها هو أهم انجاز يحققه الشعب الفلسطيني المشتّت والمشرذم والمستهدف والمستفرد. فالحوار وجهاً لوجهه يظل مئة مرة أفضل من التباعد والتناحر حتى ولو لم يصل المجتمعون الى التوافق على الأمور الأساسية. ثانياً - عودة الى الصراع الايديولوجي. ان ممثلي الفصائل في اجتماعات القاهرة، يدركون ويستشعرون ولا شك خطورة المرحلة عليهم وعلى المنطقة والعالم العربي. ولكنهم، وبكل أسف، غير قادرين على الخروج من صراعاتهم الايديولوجية التي تحكمت بهم في الماضي، ولا تزال تتحكم بهم في الحاضر... وحتى في المستقبل! - ان المجتمع الفلسطيني حمل، ويحمل في أحشائه أربعة أنواع من الصراعات: - فهو مستجمع الصراعات الداخلية العائلية والقبليّة. - وهو مستجمع صراع الأنظمة العربية، بحيث ان بعض هذه الأنظمة أنشأ له فصائل داخل الشعب الفلسطيني وصارت هذه الفصائل تابعة للدول العربية وليس لفلسطين بشعبها ومصالحها الوطنية. وهو ما زاد الشرذمة داخل الساحة الفلسطينية وأدّى في حالات معينة الى التقاتل بين الفصائل نفسها كما حصل في حرب لبنان. - وهو مستجمع الصراعات العقائدية الأممية وسواها بحيث سعت فصائل أساسية فيه الى اعتماد الاشتراكية العلمية الجبهتان الديموقراطية والشعبية في مرحلة سابقة ومثل هذه الأدلجة الماركسية ستؤدي الى الدخول في الأحلاف الكبرى بين القوى العالمية والجبارين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ومدى انعكاس ذلك على علاقات الحركة الفلسطينية بالدول العربية. - وهو أخيراً مستجمع القوى والحركات الأصولية الإسلامية بتلاوينها المختلفة. ومثل هذا التوجه يتقابل حكماً مع الأصولية الصهيونية اليهودية فنصبح أمام طرحين لا هويتين في رؤية الأرض والإنسان والتاريخ ويصبح الوصول الى تفاهم وتسوية أمراً شبه مستحيل. وفي الواقع لا يمكن فهم الصراع الحالي داخل اجتماعات القاهرة إلا على ضوء الطرح الايديولوجي للجانبين بل للجوانب المختلفة بين البراغماتيين والراديكاليين. فالراديكاليون بخياراتهم الماركسية الأولى وخياراتهم الإسلامية الحالية يرفضون مبدأ التسوية مع اسرائيل ويعتبرون الاعتراف بوجود دولة اسرائيلية مسألة مناقضة للشرع، وبالتالي فهم ليسوا على استعداد للتهاون مع ما يسمونه "المشروع الصهيوني" وليسوا على استعداد لقبول الشرعية الدولية التي تناقض الشرع الإلهي وبالتالي ليسوا في وارد القبول بإسرائيل ككيان لا في حدود 1967 ولا حتى في حدود القرار 181 قرار التقسيم 1947. ان هذا التوجه يتناقض مع مسار السلطة الفلسطينية التي انطلقت من مبدأ القبول بقيام دولة فلسطينية على كل قسم محرر من التراب الفلسطيني، ثم قبلت مبدأ الحل السلمي بقبولها لاتفاقات أوسلو... والتي كادت أن تصل الى حلّ شامل مع مبادرة الرئيس بيل كلينتون عام 2000. وان ما يحصل الآن على الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني هو النقيض تماماً لذاك المسار. "فالانتفاضة هي علامة على عقم أوسلو". ومثل هذا الوضع أحرج القيادة الفلسطينية لأنه وضعها بين خيارين: هل هي قيادة حركة تحرر وطني أم أنها قيادة دولة هي في طور التكوين؟ ولكل واحدة من القيادتين مبادؤها ومستلزماتها والتزاماتها ووسائلها في العمل السياسي. بمعنى آخر هذا يطرح مسألة البرنامج الموضوع للنضال الفلسطيني: ما هي أبعاده وحدوده. والى أي مدى يمكن القبول بعسكرة الانتفاضة مثلاً. وما هو الثمن السياسي لوقف الانتفاضة. وهل أن اسرائيل مستعدة لدفع مثل هذا الثمن؟ ان الاختلافات العقائدية من جهة، والاستخفاف من جهة ثانية تبقي الحركة الفلسطينية بمضمونها العام حركة لا استراتيجية لها. وفي حين أن الخصم لديه استراتيجية ودولة وجيش ووسائل عمل وقتال ويوحد نفسه زمن الصعاب، فإنه ليس لدى الفلسطينيين بمختلف فصائلهم، وفي مختلف أطوار نضالهم، بما فيها نضالهم الحالي، رؤية استراتيجية هي الوحيدة القادرة على ترسيم خط مسارهم السياسي في الصراع والمواجهة. ومع أن بعض المفكرين الفلسطينيين بدأوا يقرّون وهذا نادر من الناحية الفكرية بأهمية التعددية الفلسطينية، فإنهم ربطوا هذه التعددية ببرنامج سياسي موحد هو بالضبط هذه الاستراتيجية التي تكلمنا عنها لأنه من دونها سيرتبك الفلسطينيون أنفسهم ويربكون الآخرين معهم. ان هذا الواقع يطرح من جديد على ضمير الفلسطينيين وفصائلهم وقادتهم "قصة ابريق الزيت" المعروفة اي قصة "الوحدة الوطنية الفلسطينية". وهي شعار طالما تغنّى به ودافع عنه ودعا إليه جميع القادة، ولكنه، بعد ما يزيد على اربعين عاماً من النضال، لم يتحقق. فالوحدة الوطنية مطلب اساسي من دونه قد ينزلق الفلسطينيون الى حرب اهلية. والحق يقال، انه لو لم يصدر بعض رجال الدين النافذون فتاوى بتجريم الاقتتال الداخلي الانترا - فلسطيني لحدث ذلك! وهذه الوحدة هل هي مجرد شعار يرفع في المناسبات فيدعو الجميع إليها ولا أحد يحققها؟ ام هل هي سلاح يشهره المستفيدون منه لمصلحتهم ثم يتخلون عنه عندما لا يعود يخدم هذه المصالح؟ وهل يمكن قيام وحدة وطنية فلسطينية خارج رؤية استراتيجية فلسطينية تجسد البرنامج الفلسطيني المشترك ويلتزم بها جميع الفصائل؟ خلاصة كل ذلك ان اجتماعات القاهرة هي نموذج للممارسة الفلسطينية الرسمية والشعبية، بل للممارسة العربية بشكل عام. وبمعزل عما اذا كان مطلب مصر من المجتمعين يمثّل "سقفاً عالياً" يستحيل القبول به، وسواء فشل الاجتماع أم لا، ومهما كانت نتائج ما سيصدر عن الاجتماعات المقبلة، فإن العلة في كل ذلك تعود الى أزمة اشمل وأعمق وأبعد ألا وهي ازمة الديموقراطية في فلسطين ولدى الشعب الفلسطيني، وهي صورة بارزة عن ازمة الديموقراطية في العالم العربي. وفي غياب هذه الديموقراطية تضعف اعمال الرؤية والرؤيا... ويترسخ "سراب" الوحدة الوطنية الفلسطينية