الهجومان الارهابيان على الكنيسين اليهوديين في اسطنبول، والذي ذهب ضحيتهما عشرات من الاتراك اليهود، كان وفق كل المقاييس "هدية من السماء" بالنسبة الى اسرائيل. قبل هذين الهجومين كانت الدولة العبرية تتخبط في دمائها بسبب التطور التاريخي الخطير الذي كشف عنه استطلاع مفوضية الاتحاد الاوروبي، والذي أشار الى أن 59 في المئة من الاوروبيين يعتبرون إسرائيل "الخطر الاكبر على السلام العالمي". فقد عنى هذا الاستطلاع أن معاداة السامية توقفت، او تكاد، عن كونها "حاجز بلانك" الذي يحظر على الأوروبيين وبقية شعوب العالم تجاوزه لانتقاد ممارسات إسرائيل، مهما كانت طبيعة هذه الممارسات. كما عنى ان إسرائيل باتت بالنسبة الى الرأي العام الاوروبي دولة عادية يمكن محاسبتها ومساءلتها، ولم تعد ذلك الرمز الحي للهولوكوست المحرقة الذي لا يمس. وانعكس هذا التخبط في تحليلات النخبة الاسرائيلية لأبعاد هذا الاستطلاع. ففي حين شن اليمين حملة عنيفة متهماً الأوروبيين بالعودة مجدداً الى لعنة معاداة السامية ومطالباً بفرض العزل الدولي عليهم وطردهم من اللجنة الدولية الرباعية حول فلسطين، كان العديد من المسؤولين الاسرائيليين يكتشفون في وقت مبكر الحدود الجديدة للعبة معاداة السامية. وهكذا رفض وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم اعتبار الاستطلاع دليلاً على اللاسامية الاوروبية، واكتفى بإنحاء اللائمة على التقصير الاعلامي الاسرائيلي في تلك القارة. في حين كان المدير السابق لوزارة الخارجية ألون ليئل ينصح مباشرة أبناء جلدته بالكف عن محاولة الربط بين نتائج الاستطلاع وتنامي ظاهرة معاداة السامية، قائلاً: "إن استلال السلاح الدائم للدفاع عن النفس، أي سلاح معاداة السامية، ليس صحيحا في هذه الاحوال". الدولة العبرية، إذاً، كانت في حيص بيص حقيقي بعد الاستطلاع الاوروبي. فلا هي قادرة على الهجوم الى أمام لمحاكمة الاوروبيين على ما اقترفت أيديهم من انتقادات لها، كما كانت تفعل طيلة السنوات الستين الماضية، ولا كان بمستطاعها التخلي ببساطة عن الدفاع عن "حاجز بلانك" معاداة السامية. وهنا أطلت انفجارات اسطنبول برأسها لتوّفر مجدداً زخماً وروحاً جديدين لكل طروحات المحرقة ومعاداة السامية، فسارعت الحكومة الاسرائيلية الى الاعلان بأن الاعتداءين "يتزامنان مع تنامي ظاهرة العداء للسامية في أنحاء العالم". كما وجّه أرييل شارون رئيس الوزراء تعليمات الى كل المنظمات اليهودية في العالم بضرورة شن حملة سياسية - إعلامية عالمية منسقة "لمواجهة هذا الانبعاث الجديد للاسامية". لكن هل يكمن لهذه الحملة الجديدة أن تنجح الآن؟ لا يبدو أن الامور ستكون على هذا النحو في أوروبا. والاسباب كثيرة. فالقارة العجوز تشهد هذه الايام مداً كاسحاً للعلمانية الى درجة دفعت الكاهن ديفيد كورنيك، الامين العام للكنيسة الاصلاحية المتحدة في بريطانيا، الى الاعلان بأن "أوروبا لم تعد مسيحية". ويبدو أن استطلاعات الرأي تؤيد هذه الأعلان. فواحد فقط من عشرين من الاوروبيين يحضر القداديس الدينية كل أسبوع، و21 في المئة فقط من الاوروبيين قالوا ان الدين "مهم جداً" بالنسبة اليهم. وقد عمدت مدارس كثيرة الى إزالة كل الاشارات الى الدين المسيحي في الصفوف، بما في ذلك الصلبان، فيما كان العديد من الكنائس تغلق أبوابها بسبب قلة الحضور والتبرعات. كما أن مسودة الدستور الاوروبي الجديد أسقطت كل الاشارات الى الله او الدين المسيحي بكونه جزءا من الهوية الاوروبية. دوافع هذا المد العلماني معقّدة. فهي مرتبطة بالماضي الاسود للمارسات الكنسية محاكم التفتيش في القرون الوسطى، بالدرجة ذاتها التي ترتبط بها بحاضر يشهد بحبوحة مادية واقتصادية واسعة حققتها الحداثة العلمانية في القارة. إضافة الى أن الاوروبيين خلال العقود الاخيرة طوّروا ثقافات حديثة جديدة معادية للمؤسسات الكبيرة، والايديولوجيات الكبيرة، والانتماءات المطلقة. وقد انعكس هذا التطور على مواقف الاوروبيين من إسرائيل. فهذه الاخيرة لم تعد بالنسبة اليهم تجسيداً للنبوءات التوراتية والانجيلية حول عودة المسيح. وإسقاط سمة القداسة دينياً عن دولة اليهود أسفر ببساطة عن بدء محاسبتها دنيويا عما تفعله بالفلسطينيين. وبالتالي لم تجد غالبية الاوروبيين "غضاضة" أو لاسامية في الاعلان أن إسرائيل هي الخطر الاول الان في العالم. بيد أن ما يمكن ان تفشل به الحملات الصهونية في أوروبا، قد تنجح بتحقيقه في الولاياتالمتحدة. لماذا؟ لأن غالبية الاميركيين يسيرون عكس تيار غالبية الاوروبيين. فهم ما زالوا يشعرون بالراحة مع مفاهيم دينية مثل الخير والشر، وأخرى لاهوتية مثل الحق والباطل. وأوضح استطلاع لمؤسسة غالوب هذا العام أن 58 في المئة من الاميركيين ما زالوا يقولون ان الدين "مهم جداً" بالنسبة اليهم مقارنة مع 21 في المئة من الاوروبيين كما أسلفنا. وهذا التديّن يكمن الآن في أساس الانحياز الاميركي شبه الكامل لأسرائيل. ويشرح فيليب جينكينز، أستاذ التاريخ والدراسات الدينية في الولاياتالمتحدة، هذه الظاهرة بقوله: "لقد ذهلت من الطريقة التي يستعمل فيها الدين لتبيان الفروقات بين أوروبا والولاياتالمتحدة، خصوصاً حيال المواقف في الشرق الاوسط. فالاميركيون ما زالوا يؤمنون جدّياً بالمقولات الانجيلية والتوراتية، وبالتالي يعلّقون أهمية كبرى على المشروع الصهيوني، في حين ان الاوروبيين توقفوا عن ذلك". ويضيف أن العديد من الاميركيين يرحبّون بالخطاب السياسي للرئيس جورج بوش، بسبب إشاراته المتكررة والمتعمدة الى الأخلاق والدين، في سياق حملاته على الارهاب، في حين ان الاوروبيين يعتبرون بوش "مهووساً دينياً". وبالطبع، لم تغب هذه الحقائق الاميركية عن رؤى اسرائيل الساعية الى إعادة الاعتبار لسلاح معاداة السامية. ولذا فمعظم جهودها تتركّز الآن على الساحة الاميركية، كمنصة إنطلاق مثلى نحو باقي انحاء العالم. اللاسامية والعولمة بيد أن معركة إسرائيل لأنقاذ "جدار بلانك" الحارس للاسامية لن يقتصر على اوروبا والولاياتالمتحدة، بل هو سيطول أيضاً انغماسها في كل الصراعات الضخمة التي تجري هذه الايام داخل صفوف القوى العالمية المعارضة للعولمة. فعلى ضفة تقف القوى اليسارية والبيئية التي تدعو الى العدالة الاجتماعية العالمية والى عولمة أكثر إنسانية، وتدين سيطرة حفنة ضئيلة للغاية من الرأسماليين بمن فيهم حفنة من اليهود على مصائر العالم ومستقبله. والسمة الابرز لهذا المعسكر هو موقفه الحازم من الدولة العبرية. فهو يعتبرها آخر دولة استعمارية واستغلالية خلقتها الدول الغربية في قلب العالم النامي. وهكذا يقول الناشط الفرنسي ضد العولمة جوزيه بوفيه: "إنهم يحاولون من خلال إسرائيل فرض نظام عنصري على كل من الاراضي المحتلة والسكان العرب في باقي إسرائيل. إنهم يطبقون أيضاً بدعم من البنك الدولي سلسلة من الاجراءات الليبرالية الجديدة الهادفة الى دمج الشرق الاوسط في الانتاج المتعولم، من خلال إستغلال الايدي العاملة الفلسطينية الرخيصة". في الضفة الاخرى من مناهضي العولمة، تقف القوى اليمينية المتطرفة. وهذه لها إطلالة مغايرة تماما لدور إسرائيل واليهود. إطلالة عنصرية ولا سامية كاملة في الواقع. فهي تحوّل الحملات المعارضة للنظام العالمي الجديد، الى حملات ضد "النظام اليهودي الجديد" كما تسميه. ويشرح يميني فرنسي الفرق بين مناهضي العولمة اليساريين واليمينيين على النحو الآتي: "اليساريون يقولون أن حفنة من الرأسماليين ومدراء الشركات يسيطرون على العالم، وهم يتوقفون هنا. أما نحن اليمينيين فنتقدم خطوة الى الامام لنسمي الاشياء بأسمائها: معظم أعضاء هذه الحفنة هم من اليهود". ويضيف يمينيون آخرون أن اليهود من عائلة روتشيلد سيطروا على كل اقتصادات القرن التاسع عشر، فيما اليهود الآن يسيطرون على اقتصادات العصر الحالي، ومنهم لورانس سامرز وروبرت روبن وزارة المال الاميركية، ألان غرينسبان الاحتياطي الفيديرالي الاميركي، جيمس وولفينسون البنك الدولي وستانلي فيشر صندوق النقد الدولي. بيد ان الفروقات بين اليمين واليسار لا تتوقف هنا بالطبع. إذ أن اليمين المتطرف يرفض كل انواع العولمة بكل أشكالها، لأنه يعتبرها خطراً على النسيج القومي - الاجتماعي للدول - الامم التي ينتمي اليها. وهو يناهض إسرائيل ليس بصفتها "آخر مشروع استعماري"، بل بكونها "آخر تجليات المؤامرة اليهودية العالمية". وهو يرفع شعارات مثل "اليانكي واليهود: لا شعوب الله المختارة"، كما يصّور نجمة داوود على انها الصليب النازي المعكوس. أين إسرائيل في هذا الصراع على روح العولمة؟ قد يفاجأ بعضهم إذا ما علم بأن الدولة العبرية تحبذ سيطرة اليمين المتطرف على حركة مناهضة العولمة، وبأنها، ومعها كل اليهودية العالمية، لا تبذل أي جهد حقيقي لدعم وجهات النظر المعتدلة داخل هذه الحركة. وهذا ما دفع دورية "فورين أفيرز" النافذة والناطقة بأسم العولمة الى توجيه انتقادات شديدة الى اسرائيل والجماعات اليهودية الاخرى. لكن هذه المفاجأة ليست في محلها في الواقع. إذ ان سيادة وجهة نظر اليسار، وعلى رغم رفض هذا اليسار للاسامية والعنصرية، تشّكل في خاتمة المطاف تهديدا للمصالح الرأسمالية اليهودية الدولية. وهذا بالتأكيد ما لا تريده الدولة العبرية. إضافة الى أن بروز اليمين المتطرف في حركة مناهضة العولمة، يقدّم لتل أبيب مادة دسمة لأستئناف ما انقطع من جهود لإبقاء إيديولوجيا المحرقة ومعاداة النازية حية وتركل. وتبعاً لذلك، وكما هو متوقع، تركّز الحملات الاسرائيلية في هذه الجبهة على إبراز شعارات وأدبيات اليمين المتطرف العنصرية، على رغم كون هذا التيار أقلية في عولمة بورتو أليغرو البرازيل المناهضة لعولمة دوفوس سويسرا وسياتل أميركا. الجدل الجديد وكما يتضح من كل هذه التطورات، يبدو جلياً أن الساحة الدولية مقبلة على جدل ضخم جديد حول دور اليهود في العالم. والحال أن هذا تطور طبيعي الى حد بعيد لسببين إثنين: الاول، الدور الكبير الذي كان ولا يزال يلعبه اليهود في الاقتصادات العالمية، وما يفرزه من توترات عنيفة كون هؤلاء الاخيرين أقلية صغيرة اولاً، ولانهم من عتاة الرأسمالية ثانياً. وهذه التوترات لا تقتصر على الفكر اليميني وحده. ففي القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، وقبل مهاتير محمد بقرنين ...، وصف المفكر الفوضوي اليساري الفرنسي بيار جوزف برودون اليهود بأنهم "القوة المحرّكة للرأسمالية العالمية"، فيما كان عالم الاجتماع الالماني فيرنر سومبارت يشرح "كيف ان اليهود أثرّوا على الشكل الخارجي للرأسمالية الحديثة، فعبّروا بذلك عن روحها الداخلية". وهكذا، وطالما ان أغنياء اليهود باقون جزءاً من القلة الرأسمالية التي تواجه غالبية البشرية غير الغنية وهي بالمناسبة قلة ضئيلة قياسا بالنسب الديمغرافية اليهودية في العالم، سيستمرون هدفا لسهام النقاد من كل الانواع. وهذه معضلة معقّدة لا علاقة لها باللاسامية، لكنها قد تفرزها في النهاية. والسبب الثاني هو تأثير ممارسات إسرائيل على يهود العالم. وهو تأثير سلبي الى حد كبير. إذ ان استمرار الدور الاسرائيلي كجلاد حقيقي للفلسطينيين، سيسقط من يد يهود العالم أقوى أوراق قوة الاقناع لديهم بصفتهم أقلية مظلومة ومضطهدة وملاحقة. بدايات هذا التطور انطلقت مع استطلاع هيئة الاتحاد الاوروبي، لكنها لن تتوقف هناك. فبعد أوروبا ينتظر ان يتمدد إنهيار "القداسة" الدينية عن المشروع الصهيوني الى مناطق اخرى من العالم، خصوصاً تلك التي تشهد بروز قوى عديدة تتحرك بنشاط ضد العولمة بصيغتها الراهنة. وبالطبع، آخر ما يحتاجه انهيار القداسة هذا هو عمليات أرهابية كتلك التي شهدتها اسطنبول. فهل كان منفذو هذه الهجمات يعلمون أنهم يقدمون "هدية من السماء" لأسرائيل؟. الارجح ان الامر كذلك!