في الوقت الذي كانت تنعقد قمة منظمة المؤتمر الاسلامي الاخيرة في ماليزيا كانت القوات الاسرائيلية تواصل سياسة القتل والهدم والتشريد في الاراضي الفلسطينية غير عابئة بأي شيء. وفي هذا الاطار وحده يمكن فهم موقف رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي اتهم اليهود بالسيطرة على العالم وباحتكار سلاح التفكير والتخطيط لمواجهة 1.3 بليون مسلم في العالم. فهل يمكن اعتبار موقف مهاتير محمد دعوة الى "حرب حضارات" تنم عن عنصرية، كما اتهمته اوساط غربية ويهودية؟ ام انه مجرد انتفاضة ورفض لما يجري في فلسطين من مجازر امام انظار العالم؟ هل تؤدي تصريحات مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الى مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الاسلامية - اليهودية؟ يبدو أن الامر سيكون كذلك، خصوصاً أن دعوته الى التصدي الاسلامي ل"السيطرة اليهودية بالوكالة" على العالم وللهيمنة على فلسطين، قوبلت بحماس في قمة المؤتمر الاسلامي، ما دفع "نيويورك تايمز" الى القول ان "الأخطر من تصريحات مهاتير المناوئة للسامية، هو تصفيق القادة المسلمون لها". لكن هل خطاب رئيس وزراء ماليزيا أمام القمة مناوئ للسامية حقاً؟ من يقرأ نص الخطاب، الذي لم يتضمن سوى 27 كلمة عن اليهود والذي كرس برمته للحملة على الانقسامات والتأخر الاسلامي، لن يشتم أية روائح عنصرية حقيقية. صحيح ان مهاتير قال ان اليهود "اخترعوا الشيوعية والاشتراكية وحقوق الانسان والديموقراطية"، لكنه قال أيضاً انهم فعلوا ذلك بهدف دفع الآخرين الى معاملتهم بمساواة. وهذه ليست تهمة بقدر ما هي وصف تقريري . وصحيح أنه قال ان قلة من ملايين اليهود تواجه 1.3 بليون مسلم، لكنه كان يتحدث عن الممارسات الإذلالية ليهود اسرائيل ضد الفلسطينيين، والتي تحظى بتغطية ودعم كاملين من غالبية يهود اميركا والعالم. الأهم في خطاب مهاتير انه كان المرة الاولى التي يقوم فيها زعيم دولة اسلامية بتحويل الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، او الصراع العربي - الصهيوني، الى نزاع اسلامي - يهودي شامل. نزاع يقول مهاتير ان اليهود يستخدمون فيه كل الاسلحة، وعلى رأسها سلاح "التفكير والتخطيط". ولذا يتعين على المسلمين أن يعدوا أيضاً كل انواع الاسلحة، بما في ذلك "التراجع الاستراتيجي" لالتقاط الانفاس والاعداد ل"الهجوم المعاكس". انه برنامج مواجهة اسلامي - يهودي كامل. "حرب حضارات" شاملة، اذا ما اعتبرنا اليهودية حضارة عالمية مستقلة. وهذا بالتحديد هو الجديد الذي طرحه مهاتير، فهل هناك أساس قديم لمثل هذه المواجهة الجديدة؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين استنطاق بعض صفحات الماضي، بحثاً عن أية جذور تاريخية لصراع اسلامي - يهودي ما. ولنبدأ التاريخ من نهايته. في أواخر القرن التاسع عشر، كان تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، مقتنعاً بأن فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". لكنه اكتشف خلال قيادته للحركة الصهيونية ان هذا الشعار ليس صحيحاً وراعه ابتعادها عن مخيلته. لذلك قرر التوثق أكثر من الأمر. بعث بإثنين من حاخامات فيينا في مهمة استطلاع. ومن فلسطين أرسل اليه الاثنان تلغرافاً يقول له بالرموز ان "العروس جميلة، لكن المشكلة أن لها زوجاً". وقصد الحاخامان بذلك ان أرض فلسطين لها شعب. وباقي القصة معروف: الحرب لإبعاد العريس عن العروس، والحروب المتصلة الاخرى لتوثيق هذا الطلاق بالمعاهدات الرسمية. لكن ما هو غير معروف ان الصراع التاريخي بين العرب واليهود على أرض فلسطين، لم يكن حدثاً عادياً او متوقعاً. انه جاء الى حد ما استثناء، في تراث تاريخي كانت فيه العلائق بين الطرفين في اطار الحضارة الاسلامية اما تعايشاً ايجابياً في أسوأ الاحوال، وإما تفاعلاً حضارياً عظيماً في أحسنها. بالطبع هذا التراث لا يعني أن العرب واليهود تمكنوا خلال تاريخهم الطويل من حل الخلافات الدينية بينهم. هذا على أي حال كان مستحيلاً: فاليهودية لم تعترف بمحمد ص كنبي من الانبياء المرسلين، والاسلام اتهم اليهود بتحريف التوراة واعتبر نفسه الحصيلة الجامعة لكل الأديان التوحيدية. الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر اليهود كانت اما معادية الى درجة وصفهم بأنهم كحمار يحمل أثقالاً، أو هي تتهمهم بمخالفة الله. كانت ثمة أسباب عقيدية - مبدئية وأسباب سياسية - تاريخية لهذا الموقف. فالاسلام هو التتويج النهائي للأديان التوحيدية السماوية. وهو بهذه الصفة يعترف باليهودية والمسيحية كدينين سماويين، لكنه يعتبر نفسه الدين النهائي. ولذا نجد تبجيلاً كبيراً لكل أنبياء اليهود في القرآن، اضافة الى يسوع المسيح، واعترافاً بهم بوصفهم سلسلة من خط واحد يبدأ من آدم وينتهي بالنبي محمد ص مروراً بهم جميعاً. هذا الاعتراف حدث على رغم ان بعض القصص الدينية تأتي معاكسة لمصالح بعض شعوب المنطقة القديمة. وعلى سبيل المثال، ينحاز مصريو القرن الحادي والعشرين الى النبي موسى ضد ملكهم الفرعون، على رغم أن قصة موسى تتضمن انزال عقوبات مرعبة ضد كل المصريين بلا استثناء لمصلحة 40 ألف يهودي جاء موسى لينقذهم من فراعنة مصر وليس من عبودية الشعب المصري المستعبد هو أصلاً. الخلافات الدينية، اذاً، كانت ولم تزل موجودة ومستعصية على الحل. وفي الحقيقة كان من المستغرب أصلاً ان يكون هناك حل وسط بين دينين يعتبر كل منهما أنه يمتلك بمفرده الحقيقة المطلقة. كان كل منهما يلغي الآخر اذا ما قبل بالمبادئ الاساسية لأي منهما. لكن، وعلى رغم هذه الخلافات المبكرة، استطاع أتباع الدينين أن يتعايشا طيلة قرون طويلة. وعلى رغم ان هذا التعايش لم يكن الحل المثالي لمشكلة الأقليات والمواطنة التي كانت من اختراع عصور الحداثة، إلا أنه كان مدهشاً بالفعل، خصوصاً حين تقارن وضعية اليهود في اطار الامبراطوريات الاسلامية بوضعهم بين القوى الاوروبية القديم منها والحديث. ما سر هذا التعايش؟ القصة هنا تبدأ وتنتهي بدافع واحد: اعتراف الاسلام منذ نشأته المبكرة بالآخر، خصوصاً منه الآخر المتعلق ب"أهل الكتاب" اليهود والمسيحيين. فالاسلام يعترف بالاختلافات الدينية والعرقية بوصفها دليلاً على عظمة الله بدلاً من أن تكون بديلاً عن عظمة او تفوّق لون أو لغة. وهناك تشديد في الاسلام على الأخوة من داخل التعددية. وهذا كان في أساس وجود ممثلين لكل الأديان والطوائف في مؤسسات الامبراطوريات الاسلامية المتعاقبة، سواء اكانت وزارات أم مواقع استشارية. فكل "ملة" يمكن ان تحتفظ بدينها الخاص ولغتها الخاصة وتقاليدها الخاصة، شرط ان تدين بالولاء للدولة الاوتوقراطية آنذاك الاسلامية. وبالنسبة الى العرب واليهود، عنى ذلك تعاوناً وثيقاً شهد عصره الذهبي في ما أطلق عليه اسم الفكر العربي - اليهودي. فقد اندمجت الثقافتان اليهودية والعربية الى الدرجة التي لم يعد في الوسع معها معرفة ما هو عربي وما هو يهودي. كان الجميع منهمكين في تشييد صرح موحد في اطار حضاري اسلامي موحد. وهذا لم ينطبق على اليهود وحدهم بل على باقي الاقليات أيضاً، من دون أن يعني ذلك كما قلنا أن هذه الانجازات الحضارية عنت منح الأقليات حقوقهم الكاملة كمواطنين. هذا كان تطوراً يفترض أن ينتظر ولادة النهضة والحداثة في اوروبا. ان النموذج الأوضح للترابط بين الثقافتين اليهودية والعربية كان في العهد الاسلامي في الأندلس. فعام 1492 اعتبر في اوروبا العام الذي بدأت فيه العصور الحديثة وهو نفسه العام الذي اكتشف فيه كريستوفر كولومبوس القارة الاميركية بالصدفة. بيد ان هذا تأريخ مغلق على الذات الاوروبية، لأنه يخدم اهدافاً اوروبية محضة. ففي كانون الثاني يناير من ذلك العام هزم الملك فيرديناند والملكة ايزابيلا مملكة غرناطة الاسلامية، آخر معقل للإسلام في اوروبا. وقتها قرعت الكنائس في كل انحاء أوروبا احتفاء بالانتصار، وبعدها بثلاثة أشهر فقط كان يهود اسبانيا يخيرون بين أمرين رهيبين اثنين: إما التحول الى المسيحية وإما مغادرة البلاد. العديد من اليهود اختار العمادة، لكن 100 الف يهودي اسباني بدأوا رحلة منفى جديدة في ما اعتبره يهود أوروبا أكبر كارثة منذ خسارة القدس في العام 70 بعد الميلاد. اللاتسامح مع العرب واليهود على حد سواء كان يزداد في اسبانيا منذ فترة غير قصيرة. وتقول كارين أرمسترونغ في كتابها "الحرب المقدسة" انه "قبل ذلك، ولمدة 800 عام هي فترة الحكم العربي في اسبانيا كان في وسع المسيحيين والمسلمين واليهود أن يعيشوا جنباً الى جنب بسلام في معظم الاحيان. معاً كانوا قادرين على ابداع ثقافة غنية ودينامية. لقد تمتع اليهود الاسبان ببعث مجيد خلال القرن الثاني عشر. ومن اسبانيا كان الغرب يستعيد الميراث الثقافي الذي فقده ابان العصور المظلمة. لكن فيروسة الحروب الصليبية كانت عصية على أي مقاومة، واسبانيا ستكون مهتمة أكثر من أي دولة اخرى بالتخلص من أي عناصر اجنبية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتعايش طويل الأمد بين الأديان الثلاثة". فاعلية الفيروسة استمرت في القرن الرابع عشر في اسبانيا وامتدت لتشمل اليهود الذين قبلوا العمادة والذين أطلق عليهم اسم "المارانوس"، والذين أصبحوا مسيحيين مخلصين. وخلال 12 سنة كان 13 ألف شخص، معظمهم يهود، يقتلون في محاكم التفتيش. وفي العام 1499 أعطي المسلمون الخيار نفسه بين العمادة او الطرد واختار العديد منهم الانتقال الى المسيحية وأطلق عليهم اسم "الموريسكوس". وهم تعرضوا للاضطهاد نفسه الذي تعرض له "المارانوس". عشرات آلاف اليهود الذين طردوا من اسبانيا لجأوا الى بلدان اسلامية كمصر وفلسطين وبلدان شمال افريقيا حيث استمر التعايش اليهودي - الاسلامي. وتحولت مدينة صفد في شمال فلسطين الى عاصمة حقيقية للصوفية اليهودية وأنجبت قديسين ومفكرين مثل جوزف كارو واسحق لوريا. ويلخص الكاتبان ماكوين والشاهي تاريخ العلاقات اليهودية - الاسلامية كالآتي: "بوجه الإجمال، ومن بداية الحقبة العباسية حين أصبحت بغداد عاصمة الامبراطورية الاسلامية وحتى القرن العشرين، كان تاريخ العلاقات الاسلامية - اليهودية تعايشاً سلمياً في أسوأ الحالات، وتلقيحاً منتجاً على كل المستويات في أحسنها". الكاتب الاسرائيلي اسرائيل شاحاك له وجهة نظر أخرى. فهو يقول ان طرد اليهود لم يكن معروفاً في البلدان الاسلامية لأنه كان مناهضاً للشريعة الاسلامية، فيما القانون الكنسي الكاثوليكي لم يكن يمنع هذا الطرد كما لم يأمر به. والمجتمعات اليهودية شهدت عصراً ذهبياً في العهود الاسلامية، خصوصاً خلال عهد الامبراطورية الفاطمية وعهد صلاح الدين الايوبي والامبراطورية العثمانية حيث كان وضع اليهود على أفضل حال. لكن شاحاك يرى، في المقابل، ان التسامح مع اليهود كان مرتبطاً فقط بصعود الأقليات الى السلطة في هذه الممالك والامبراطوريات. بيد أن هذا تفسير غير دقيق. اذ لو كان صحيحاً، لشهد تحالف الأقليات - اليهود ردود فعل عنيفة لاسامية بتعابير هذا العصر فور إصابة الدول المسيطر عليها من الاقليات بالضعف او التفكك. لكن هذا لم يحدث، واستمر التعايش الاسلامي - اليهودي بشكل غير منقطع تقريباً منذ العصر العباسي وحتى اوائل القرن العشرين. المسألة لم يكن لها علاقة في ذلك الحين بالديموقراطية والحريات وحقوق الانسان، بل بعقيدة دينية متسامحة وقابلة بتعدد الأمم والثقافات. وهذه حقيقة معترف بها عالمياً وتاريخياً للحضارة الاسلامية. ماذا فعلنا لهم؟ هذه المقدمات التاريخية ضرورية لفهم جانب سايكولوجي مهم للصراع الإسلامي - اليهودي، من وجهة نظر عربية اسلامية. فحين يرى المسلم ماذا فعل اليهود في فلسطين حين طردوا أكثر من مليون عربي من أرضهم بالقوة، وتحالفوا ضد العرب مع القوى الغربية التي غزت المنطقة، يطرح السؤال الخطير: ماذا فعلت الحضارة الاسلامية لليهود حتى يعاملوها على هذا النحو؟ واذا ما كان اليهود اضطهدوا عبر التاريخ، واذا ما كان جل هذا الاضطهاد تم على أيدي الاوروبيين، من الرومان وصولاً الى أدولف هتلر، فما ذنب العرب والمسلمين في ذلك؟ لقد ميز العرب بشكل قاطع بين اليهود والصهيونيين. وهذا يسحب نفسه على كل القوى السياسية والايديولوجية العربية: القوميون العرب كما الاسلاميون عدا بعض الفرق الاقلاوية الصغيرة، والماركسيون كما الليبراليون. اليهود في الذاكرة العربية هم أهل الكتاب. صحيح انهم أهل كتاب "عاقون" ومتمردون، الا انهم في الاسلام ملة معترف بها وبعاداتها وتقاليدها. وصحيح أيضاً أن تهماً أُلصقت باليهود من نوع البخل الشديد، إلا انها لم تكن تختلف بشيء عن التهم العربية الاخرى التي كانت تلصق بأقليات أو شعوب أخرى كالأكراد صعوبة المراس والأتراك الصلف وغيرهم. أما الصهيونيون فهم تلك الفئة من الناس الذين جاءوا من أقاصي الارض لطرد شعب عربي والحلول مكانه. وهؤلاء تحملهم الذاكرة الجماعية العربية مسؤولية الكثير مما وقع على رؤوس العرب من كوارث وهزائم، ناهيك ب"المؤامرات". "نحن لسنا ضد اليهود، نحن ضد خطط الصهاينة". هذه كانت الصرخة التي أطلقها الأمير فيصل الاول منذ اوائل القرن العشرين، حين كان الحوار ما زال ممكناً بين العرب والصهيونيين. وصدى هذا الموقف تردد لاحقاً في كل مكان، حتى حين أدت هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الاسرائيلي في العام 1947 الى رحيل او ترحيل اليهود العرب الذين كانوا يعيشون في المنطقة منذ أجيال طويلة. وحتى اليوم، وحين تهاجم بعض الفصائل الاسلامية المتطرفة اليهود كيهود، يقابل ذلك بالاستهجان الرسمي والشعبي العربي. بالطبع، العديد من الحركات السياسية العربية تأثرت منذ ثلاثينات القرن العشرين بالحركات الفاشية والنازية في ايطاليا وألمانيا. بيد أن هذا التأثر نجم عن ردود الفعل على الاستعمارين الفرنسي والانكليزي أساساً، انطلاقاً من مثل عربي يقول "عدو عدوي صديقي". وهو لم يدعم بأي حال المذابح والمحارق التي كانت تقوم بها النازية ضد اليهود. والحال ان الاطلالة العربية على "المسألة اليهودية" بشكل عام، كانت تتحدد في ثلاثة أطر في المنطقة العربية: الإسلامي والقومي العربي، والماركسي. الاطاران الأولان انطلقا، كما سبق الاشارة، من التراث التاريخي العربي - الاسلامي الذي كان يعتبر اليهود جزءاً من الحضارة الاسلامية. أو أن هذه الحضارة قادرة على استيعاب الاقلية اليهودية جنباً الى جنب مع الاقليات الاخرى المعترف بها في الشريعة الاسلامية. وهذا رتب على العرب مواقف أخلاقية مسبقة ازاء اليهود. فهم، كما كانوا طيلة 1400 عام، ملة تنطبق عليها مواصفات الحماية في مقابل دفع ضريبة خاصة. أهل الذمة وهم لهم حق المشاركة في الحياة العامة، طالما انهم يقبلون بالسيادة الاسلامية. وفي المجال القومي، كان المجال مفتوحاً ايضاً أمام اليهود ليساهموا في النهضة الاسلامية، تماما كما كان الأمر مع الدور الكبير الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة الاسلامية. الاطار الماركسي كان مهماً لسببين: الحظوة الفكرية والاحترام اللذان كان ينالهما الماركسيون العرب على قلة عددهم في الاوساط العربية، والوعي الكوني الذي أدخله الماركسيون الى الاذهان العربية آنذاك. وهكذا تأثر الكثير من الحركات السياسية العربية بمواقف الماركسيين من "المسألة اليهودية"، ورأوا فيها تفسيراً معقولاً للتاريخ، خصوصاً أنه يقف بحزم ضد الصهيونية. وجد العرب أمامهم "حلاً شيوعياً" ل"المسألة اليهودية" يتشكل من تيارين أساسيين: الاول حزب "البوند" الذي يعتبر أن الاشتراكية تلغي الاساس الاقتصادي للتمييز ضد اليهود، بيد أنها تحترم خصوصيتهم الثقافية. والثاني الحزب الشيوعي الذي اعتبر الحركة الصهيونية حركة استعمارية أو ملحقة بالاستعمار، وأن الحل الوحيد للمسألة اليهودية يكمن في انتصار البروليتاريا الثورية. وعلى رغم أن العرب القوميين عارضوا فكرة البروليتاريا والحروب الطبقية، الا ان التحليل الشيوعي للصهيونية تطابق مع رؤيتهم لهذه الحركة. أما "الحل النهائي" للمسألة اليهودية التي طرحها المشروع النازي الالماني، فقد قوبل باستهجان من جانب العديد من العرب. وهكذا وفي وقت متأخر كالعام 1993، كان الكاتب اللبناني جوزف سماحة يصف هذا الحل بأنه: "واحد من أكبر الجرائم في تاريخ البشرية، ان لم يكن اكبرها على الاطلاق. ستمضي البشرية وقتاً طويلاً قبل أن تفهم ما جرى وتستوعبه: كيف أمكن لألمانيا المتقدمة فكرياً وتقنياً أن تناصب شطراً من مواطنيها أعداء لها لا حل لهم الا بإخفاء أثرهم تماماً وبمنهجية باردة وصارمة؟ هذه ليست جريمة فقط. انها الجريمة. وهي وحدها على مدى ما يمكن أن ينحط اليه الانسان". أول ما يتبادر الى الأذهان العربية، حين الحديث الى الهولوكوست المحرقة هو: "من فعل ذلك باليهود؟ أليس حلفاؤهم الغربيون". وحين يحدث ذلك، يأتي فوراً السؤال البديهي الثاني: ونحن، ماذا فعلنا لهم؟". لا بل أكثر: يطرح المثقفون العرب السؤال الآتي: لو كان مشروع الحركة الصهيونية لإقامة دولة يهودية تركز في أوغندا أو الارجنتين، كما كان مقترحاً، هل كنا سنقف ضد مثل هذا المشروع؟ ومرة اخرى يأتي الجواب سريعاً: اذا كانت هناك ارض بلا شعب حقاً في ذلكما البلدين، فلن ينال منا اليهود إلا كل الدعم والمساندة. أليس هذا حقهم في النهاية ان يكون لديهم وطن يحميهم من مشاريع "الحل النهائي"؟ الحق التاريخي لقد اعتاد الغربيون أن يطلوا على الصراع العربي - الاسرائيلي الراهن على أنه صراع تاريخي مديد. وهنا للقصص الاسطورية الدينية شأو كبير في هذا التوجه، حيث يفسر كل شيء اما على انه تنفيذ لرغبة إلهية قديمة، اما بأنه صراع بين الخير والشر. والحال أن مثل هذا التفسير يقفز فوق فجوة تاريخية هائلة، عمرها 1400 سنة تمثل جل التاريخ الاسلامي. وهذه القفزة، على أي حال، مبررة لمن يريد أن يبرر تاريخية الصراع العربي - الاسرائيلي. فحين يتم إغفال العهد الاسلامي المديد، تقام الصلة حينها فوراً بين أنبياء اليهود 2000 سنة قبل الميلاد بأسلاف اليهود 2003 سنوات بعد الميلاد. وهكذا ينتصب بنيان الاسطورة شامخاً، وتصبح أحداث ما قبل الميلاد وكأنها وقعت الامس أو حتى انها تحدث اليوم. لكن الواقع غير الاسطورة. الواقع يشير الى أن اليهود طُردوا مرة من ارض الميعاد على أيدي الرومان أي الاوروبيين. وهو يشير أيضا الى أن الفلسطينيين والعرب أقاموا في فلسطين لأكثر من 14 قرناً على نحو متصل. وهذا بالطبع لم يحدث في فلسطين ما قبل الميلاد. وحتى في ذلك الحين، كانت القبائل اليهودية في حرب دائمة مع الشعوب التي قطنت فلسطين آنذاك. ثم هناك نقطة تاريخية مهمة لا يعيرها أحد اهتماماً البتة: اليهود خلال هذه السنوات ال1400، لم يكونوا ممنوعين من الإقامة في فلسطين. لا بل أن صفد وغيرها من المدن الفلسطينية، كانت شاهداً على العصر الذهبي الفكري والثقافي الذي عاشه اليهود في هذه المدن، كما في العديد من المدن الاخرى في الامبراطوريات الاسلامية المختلفة. لكن اليهود الذين تدفقوا على فلسطين في تلك المراحل، لم يحاولوا اقتلاع الشعب العربي الموجود هناك والحلول مكانه، بل قطنوا الى جانبه في سلام وأمان في معظم الأحيان على الاقل. هذه الحقائق يفترض أن تصفي الحساب مع الانطباع السائد في الذهن الغربي عن ان الصراع العربي - الاسرائيلي يمتد في جذوره الى داود ونبوخذ نصر والبابليين والكنعانيين. وحتى لو كانت هذه الجذور الاسطورية موجودة، لكان يفترض بمئات السنوات التي قطن فيها العرب فلسطين أن تكتب على الاقل تاريخاً جديداً. يقول المفكر الاميركي ستيفن هامفريز: "مع اعتذاراتي لكل الأطراف، إلا أنه يجب القول أن النزاع العربي - الاسرائيلي لا يتجاوز عمره القرن الواحد. انه بالتحديد نزاع من نزاعات القرن العشرين. أما النصوص التوراتية او القرآنية فإنها مهمة فقط لأنها تستخدم لتبرير افكار ومواقف تجد جذورها في العصور الحديثة. وهذه الجذور تكمن في التيارات الايديولوجية لأوروبا القرن التاسع عشر ولانهيار الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى. والواقع ان الاحداث الرئيسة لبداية النزاع ظهرت كلها في اوروبا وليس في الشرق الاوسط : نشر كتاب "الدولة اليهودية" على يد الصحافي النمسوي هرتزل العام 1896، وتأسيس الحركة الصهيونية العالمية في بال العام 1897، وصدور وعد بلفور سنة 1917 في لندن". ويلاحظ هامفريز أيضاً أنه من سخرية القدر أن معظم اليهود كان خلال هذه السنوات يعيش بقدر كبير من الامن والبحبوحة في الاراضي الاسلامية. وهم يضيف استفادوا من التسامح التقليدي العثماني الذي يعود الى نهاية القرن الخامس عشر حين وجد اليهود المطرودون من اسبانيا الملجأ في الاراضي العثمانية. وهذا على نقيض كل ما كان يجري في اوروبا. حين يكون النزاع العربي - الاسرائيلي ابن عصره تتغير الصورة الى حد كبير. فالاسطورة تنزاح جانباً، والصراع لا يعود خناقة حول تاريخ منغلق على نفسه لدى كل طرف. والامور ستنكشف كما هي: دور الاوروبيين في خلق هذه المعضلة الجديدة، ربما لإزاحة "المسألة اليهودية" عن ظهورهم، وربما لإراحة ضمائرهم مما فعلوه ومما لم يفعلوه باليهود. بالطبع، مسألة الشعور بأن المرء ضحية، وهو شعور يدفع الى الشعور بالإذلال وبالغضب وبأنك لا حول لك ولا قوة، ليس قصراً على العرب. يهود اسرائيل يشتركون في الشعور نفسه. لكن المفارقة الكبرى هنا أنه في حين يشعر العرب بأنهم ضحية اليهود، يشعر اليهود الاسرائيليون بأنهم ضحية الاوروبيين، وفي بعض الاحيان كل العالم. وهنا تكمن سخرية ترقى الى مرحلة التراجيديا: العرب واليهود يشعرون معاً بأنهم كانوا ضحايا الاوروبيين: العرب بسبب الاستعمار الاوروبي، والاسرائيليون بسبب اللاسامية الاوروبية. وهذه المعاناة المشتركة كان يفترض أن تدفع الى قيام أوثق التحالفات بين الطرفين. لكن التاريخ لم يسر على هذا النحو. ويتعين على الليبراليين اليهود أن يسألوا أنفسهم لماذا. لقد عمد العديد من الكتّاب الاسرائيليين الى الدعوة لتصحيح الأخطاء مع الفلسطينيين والقبول بمنحهم دولة على جزء من أرض فلسطين. لكن هذه الدعوة بقيت سجينة نمطين من الايديولوجيا: الايديولوجيا الصهيونية التي لا تزال ترفض الاعتراف بأن فلسطين لم تكن أرضاً بلا شعب، والايديولوجيا الاصولية الدينية التي تمارس عنصرية من نوع آخر ضد "الغوييم" غير اليهود . وطالما استمرت هذه الهيمنة الايديولوجية، فإن الصراع مستمر. ماذا تعني هذه المعطيات التاريخية والحديثة؟ انها تعني شيئاً واحداً: لا أسس تاريخية بعيدة للصراع بين اليهود والمسلمين، كما الحال مثلاً بين اليهود والاوروبيين. وبالتالي، فإن "حرب الحضارات" بينهما تبدو مستبعدة. بيد أن استمرار الإذلال اليهودي الاسرائيلي للفلسطينيين ولباقي العرب، قد يغير في النهاية صورة هذا الصراع: من صراع سياسي حديث الى مواجهة ثقافية، ومن معركة حقوق تاريخية الى معركة حضارات تاريخية. وحينها قد تصبح تصريحات مهاتير محمد أكثر من مجرد تصريحات: انها قد تكون نبوءة عن بدء حقبة جديدة وخطيرة بين اليهود والمسلمين