إذا كانت قضية كارتيل تطوان لا تزال تتفاعل على مختلف المستويات في المغرب وخارجه منذ اوائل شهر آب اغسطس الماضي، تاريخ اعتقال منير الرماش أحد رموز بارونات تهريب المخدرات الجدد، مدحرجة معها رؤوساً عدة، إلا أن قادة الشبكات من المخضرمين تمكنوا من الافلات والفرار الى اسبانيا في الوقت المناسب. من ناحية أخرى، كشفت هذه القضية التي ثبت فيها تورط قضاة ومسؤولي أمن وجمارك ورجال أعمال في مناطق الشمال، جانباً على قدر كبير من الأهمية يتلخص في كون 90 في المئة من مهربي المخدرات المغاربة الواردة أسماؤهم في الملف، يحملون الجنسية الاسبانية ويقيمون على الطرف الآخر من مضيق جبل طارق، ما يسمح لهم بإعادة تنظيم شبكاتهم مجدداً. الأمر الذي يطرح التساؤل حول ما إذا كانت هناك لعبة مزدوجة تقوم بها السلطات الاسبانية وما هي مصلحتها في ذلك؟ لم تعد مدينة طنجة التي تأتيها من البحر هذه "الحمامة البيضاء التي تقف على كتف افريقيا"، كما وصفها ذات يوم هنري دو مونترلنت، ولا هي نفسها التي كانت تستقطب موازييك الكتاب والفنانين والمغامرين. ذلك ان مرور الزمن والأزمات الاقتصادية وضعف النمو والتهميش فعلت فعلها وشوهت وجه "درة المضيق". لقد أصبحت طنجة اليوم كنابولي، تعيش من واردات مرفئها ومن عمليات التهريب، مع فارق انه في طنجة تدور عجلة الحياة والاقتصاد حول أموال المخدرات بالدرجة الأولى متخذة من اسبانيا ممرها الأوحد. ولم تعط عملية التطهير الواسعة النطاق التي شنتها السلطات المغربية في العام 1996، بضغط دولي، النتائج المرجوة على رغم تفكيك شبكات عدة كانت لها امتدادات من الدار البيضاء وحتى امستردام واعتقال "الديب". فباروناتها، على غرار المغربي الاسباني "اليعقوبي" كان يملك حتى وسائل النقل الخاصة به التي تحمل الكيف من مناطق الريف في الشمال الى غالبية العواصم الأوروبية من دون حاجة الى أحد. ولقد أذهل هذا الأخير المحققين معه لدى اعتقاله حينئذ عندما كشف عن علاقاته مع فيديل كاسترو. كما جعلت عملية التطهير هذه من بارونات آخرين نجوماً نظراً الى علاقتهم الشخصية والتجارية الوثيقة مع المافيا الصقلية. يومها، لم تذهب عملية التطهير أبعد من ذلك، اذ اكتفت السلطات بتهدئة خواطر الأوروبيين والبنك وصندوق النقد الدوليين، الذين وعدوا بتقديم المساعدات لمزارعي الحشيشة في الشمال في مقابل اتلاف محصولهم. فما كان من قسم منهم إلا أن استجاب لهذا الوعد. لكن الاتحاد الأوروبي لم يكن على الموعد. فالمساعدات التي قدمت لم تكن كافية البتة لتعويض خسائر الاتلاف، وعادت زراعة الكيف الى سابق عهدها. لكن يبدو أن تدخل الدولة المغربية هذه المرة لا رجعة فيه بعدما تبين عمق العلاقات التي تربط شبكات مناطق الشمال المغربي بأخرى دولية. وإذا كانت السلطات قد غضت الطرف في السابق نتيجة الأزمة الاجتماعية الاقتصادية الحادة التي تعيشها هذه المقاطعات، مكتفية بتركها تتطور تحت المراقبة كونها تساهم بتنفيس الاحتقان، إلا أن التهريب أخذ أشكالاً وأبعاداً خطيرة لن يكون من السهل بعد الآن محاربته كما في السابق. لذا، كان يجب التدخل بحزم حتى ولو كانت العائدات من التهريب، حسب بعض الدراسات التي أعدتها مؤسسات دولية متخصصة، تشكل ثلث ناتج الدخل القومي المغربي. فقضية منير الرماش وغيرها من القضايا التي لم يكشف النقاب عنها حتى الآن، والتي تتابعها الاجهزة المختصة بسرية تامة، كشفت النقاب عن جانب يمكن أن يهدد الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، ليس في مناطق الشمال فحسب، بل في كل أنحاء المملكة، خصوصاً بعدما توصلت بعض التحقيقات الى كشف روابط بين المنظمات الدينية المتطرفة، وبين بعض شبكات تهريب المخدرات. ومن جهة أخرى، تورط خمسة قضاة وحوالي 15 ضابطاً احدهم فر الى اسبانيا حيث يقيم بحماية اجهزتها في مقابل معلومات مهمة أدلى بها، وكانت سبباً في زيادة التوتر بين البلدين. خلفيات اللعبة المزدوجة في هذا السياق، لا يتردد بعض المسؤولين المغاربة في القول ان السلطات المختصة لدى الاتحاد الأوروبي، التي تفرض على المملكة شروطاً قاسية لمحاربة زراعة الحشيش عاجزة، في كل الأحوال، عن مراقبة منطقة المضيق. لذلك فإن الأسواق الأوروبية غرقت اليوم بالمخدرات المستوردة من المغرب عبر اسبانيا التي باتت تشكل مركز استقطاب مميز للشبكات الدولية بما فيها الكولومبية، رابطة المهربين المغاربة بها. من هنا يطرح التساؤل: هل هنالك ارادة حقيقية لدى السلطات الاسبانية لوضع حد لتدفق الشحنات المغربية الى أراضيها، حتى وان كان الاتحاد الأوروبي لم يهتم يوماً "بالحالة الاسبانية"، التي تشكل البوابة الجنوبية لأوروبا؟ فالمنعطف الذي بدأت تأخذه قضية "كارتيل تطوان"، يكشف تدريجاً الرموز الفعلية لتجارة الحشيش، العاملة انطلاقاً من المغرب والتي تختفي تشعباتها التحتية في كبريات العواصم الأوروبية بواسطة شبكات تخترق المؤسسات الرسمية للدول والوسط المالي. وتحرص الأجهزة المغربية المشرفة على التحقيقات في قضية "كارتيل تطوان" على عدم نشر أية معلومات تخص الاختراقات الحاصلة من قبل هذه الشبكات لدى بلدان مثل بريطانيا وبلجيكا والمانيا والدول الاسكندينافية. الا انها تعطي بعض الأمثلة من أن السوق الهولندية هي الأكثر مردوداً "للكيف" المغربي، بحيث انه يتجاوز أكثر من ثلاثة أضعاف ثمنه في اسبانيا. ويعود الحديث اليوم مجدداً عن هروب العديد من البارونات في قضية منير الرماش الى اسبانيا، وان بعضهم انتقل من هناك الى عواصم اوروبية أخرى. وبذلك أصبحت اسبانيا تشبه القاعدة الخلفية والقلعة التي لا يمكن اقتحامها بحثاً عنهم. لكن هذا الوضع ليس بجديد، فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي والانتربول يوجه اصابع الاتهام الى مدينة ماربيا التي غزتها المافيا الروسية التي تعمل على تبييض الأموال الوسخة وتستثمر في مجال العقارات، وانشاء كازينوهات القمار في كوستا دل سول. لكن، قبل "زحف" الروس، كان هناك المهربون المغاربة. وتعلق اللجان المختصة لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسيل أهمية على التحسن الذي طرأ خيراً على العلاقات الثنائية بين مدريدوالرباط، خصوصاً بعد توقيع اتفاق بين شركة "ريبسول" الاسبانية و"المكتب الوطني للطاقة المغربي"، يعطي بموجبه الحق للأولى بالتنقيب عن النفط على ساحل طنجةالعرائش، الذي كان طوال السنتين الماضيتين محل تجاذب. كذلك، بعد الاعلان عن لقاء قمة في شهر كانون الأول ديسمبر بين الملك محمد السادس ورئيس الوزراء الاسباني، خوسيه ماريا اثنار، للبحث في العديد من نقاط الخلاف. ومن النقاط المدرجة على جدول الأعمال، تسليم جميع بارونات التهريب للسلطات المغربية، والالتزام بعدم تقديم التسهيلات مجدداً لهم وسحب جوازاتهم الاسبانية. في المقابل، يعود المغرب لفتح الأبواب مجدداً أمام الشركات الاسبانية في السوق المغربية والتعهد بعدم وضع العصي في الدواليب أمامها، كما كان يحدث في السنوات الماضية. وذكرت مراجع مقربة من القصر الملكي، بأن مدريد ستعمد الى دعم الموقف المغربي من قضية الصحراء الغربية. بانتظار التوصل الى هذا الاتفاق الاطار، تستمر الحدود الاسبانية بتمرير ما يقارب من مئة طن من حشيشة الكيف لتحط الرحال في البلدان الأوروبية. فإذا ما نظرنا عن كثب الى الخريطة الجغرافية بين المغرب واسبانيا، نجد أن المحطة الأولى والبوابة الرئيسية لأوروبا لا يتجاوز طولها 14 كلم، يتوجب على المهربين اجتيازها. من هنا يعود الخبراء للتساؤل مجدداً: كيف يمكن لأوروبا أن تعجز بكل فرق شرطتها المتخصصة بمكافحة التهريب وخفر سواحلها والتقنيات المتقدمة التي تملكها، من ضبط مضيق جبل طارق والممرات الالتفافية البحرية والبرية حول السواحل الاسبانية؟ كيف يمكن للشاحنات والقوارب السريعة التي تحمل حشيشة الكيف المغربية إحداث الاختراقات التي تشهدها بهذه السهولة؟ الجواب على ذلك بسيط: فالبارونات الذين تمكنوا من شراء قضاة وضباط أمن وجمارك ومصرفيين في شمال المغرب، لم يصعب عليهم ترتيب الوضعية نفسها في الجانب الاسباني. أما الذي سهل العمليات أكثر، حسب خبراء المرصد الأوروبي المتتبع لنشاط تهريب المخدرات، فهو قوننة تعاطي الحشيشة لدى بعض الدول، ما خفف اجراءات المراقبة على الحدود بدءاً من العام 1996. وتجدر الاشارة في هذا الإطار إلى أن العائدات من هذه الصادرات كانت توظف بغالبيتها في المغرب قبل ذلك التاريخ، بمعنى أن العملات الصعبة كانت تعود إلى البلاد وتصحح بشكل غير مباشر العديد من الموازين المالية والتجارية المختلفة. وهذا ما فسّر في حينه الضبابية إلى حدود السرية التي كانت تحيط بعمليات تبييض الأموال عبر الاستثمارات في قطاعات ومشاريع مختلفة. فالمغرب كان على الدوام رابحاً في حين كانت أوروبا الخاسرة، لذا كان لا بد من تصحيح هذا الخطأ الاستراتيجي، الأمر الذي حصل الآن بعدما بات المهربون المغاربة يستثمرون أموالهم في مشاريع داخل أوروبا بهدف تبييضها، أو ايداعها المصارف لآجال، ما يفسر الضغوط الهائلة التي مورست على المغرب بدءاً من العام 1996. وبناء عليه لم يعد المهربون المغاربة يجسرون على الاستثمار كثيراً في بلدهم، ما دفعهم إلى إعادة هيكلة نشاطاتهم المشبوهة وفق الشروط والأسس التي تتلاءم مع "تدويل" شبكاتهم. لقد أخذهم الخوف من عمليات تطهير جديدة، إلا أنهم استمروا بالتهريب مع ابقاء أرباحهم في الخارج. بذلك لم تعد تُضخ العملات الصعبة في خزائن المصارف المغربية، كما في الماضي، بل تحولت بغالبيتها إلى المصارف الاسبانية وبيوتات المال الموجودة في كل من سبتة ومليلة وكوستا دل سول وماربيا وعدد من المصارف في كل من هولندا ولوكسمبورغ. اموال التهريب ويرى مسؤول مغربي ان أوروبا وجدت الوسيلة الناجعة عبر زيادة ضغوطاتها على المغرب، دافعة إياه لملاحقة بارونات المخدرات من ناحية، ومن ناحية أخرى، أبقت داخل أراضيها الأرباح التي تم جنيها من تجارة الكيف. فأوروبا التي تتباهى اليوم بأنها تعد برنامجاً تنموياً لمساعدة المغرب عبر اقتلاع زراعة الحشيشة في الشمال، لن تدفع، في نهاية المطاف، شيئاً من موازنتها الاتحادية، لأن الفوائد من ودائع أموال التهريب المودعة في المصارف الأوروبية، وتحديداً في الجنوب الاسباني، تكفي لتغطية قيمة المساعدات المعلنة. ويستغرب المسؤول نفسه غياب ردود الفعل لدى الصحافة الأوروبية، خصوصاً الاسبانية منها، على رغم الفضائح التي تلت ملاحقة عصابة الرماش وتوقيفها وتصريحات بعض افرادها، التي أفادت بأن مسؤولين اسبان لعبوا أدواراً في تسهيل نشاطاتهم. فالتعتيم الإعلامي كان مقصوداً بحيث انه لم يذكر على الاطلاق أي من الأسماء التي أدلى بها الموقوفون في شهاداتهم للقضاء المغربي. فالملاحظ أن اسبانيا أغلقت عينيها تماماً عما يجري، كما لو أن هذه القضية لا تعنيها لا من قريب أو بعيد، وكما لو أن الشمال المغربي الذي يبعد مرمى حجر عن حدودها وحشيشته ومهربيه هم على الضفة الغربية من المحيط الأطلسي، فلم يفتح أي تحقيق مع أي من هؤلاء المهربين الفارين الى أراضيها والحاملين لجنسيتها، والمعروفين من اجهزتها. كما لم تعط أية أوامر للأجهزة المختصة بمكافحة المخدرات بتفكيك الشبكات المحلية التي تستورد بضاعتها من المغرب وتوزعها بين العواصم الأوروبية. ويعود المسؤول عينه للتذكير بأن مدريد لم تقم مطلقاً بواجبها على الضفة الأخرى من المضيق. ولا تكتفي اسبانيا بدور المتفرج والمستفيد مادياً من هذه التجارة. فلقد سلم المغرب، حسب مصادر رفيعة المستوى في الرباط، في عز التوتر الذي ساد علاقته باسبانيا، لا سيما لدى احتلال الأخيرة لجزيرة "تورا ليلى"، اللجنة المختصة في بروكسيل، ومكتب التحقيق الفيديرالي الأميركي، الذي كان يتعاون مع الأجهزة المغربية لملاحقة بعض الشبكات الارهابية في منطقة شمال افريقيا، وثائق وصوراً تظهر أن الجنوب الاسباني يزرع حشيشة الكيف وسط حقول البطيخ الأصفر والأحمر بمساعدة وخبرة مزارعين مغاربة، ما حدا بالجهات الغربية للطلب من اسبانيا تفسيرات في هذا الشأن في حينه، ويتساءل المغاربة لماذا لا تمنع أوروبا تعاطي هذه الحشيشة، بل تعمل في المقابل على شرعنتها، في حين أن سكانها هم الأكثر استهلاكاً لها؟ وماذا ستكون عليه الحال إذا ما بادر المغرب لتشريع زراعتها، وما هو الموقف الأوروبي من ذلك حينئذ؟ فهل سيستمر الاتحاد الأوروبي في لعبته المزدوجة، أم انه سيبدأ بنشر غسيله الوسخ بين الشركاء؟ أرض من ذهب وفقر وأمية تشير الأرقام التقريبية الى أن زراعة أكثر من 250 ألف هكتار من الحشيشة أي ثلاثة أضعاف ما كانت عليه منذ ثلاث سنوات يستفيد منها نحو 1.5مليون شخص من أصل خمسة ملايين، هم سكان مناطق الشمال المغربي. ووصل مردود هذه الزراعات الى ما يقارب 3 بلايين دولار سنوياً. من ناحية أخرى، يوفر المغرب 70 في المئة من متطلبات الأسواق الأوروبية من حشيشة الكيف. لكن المشكلات الناجمة عن تسويق هذه الصناعة لها أبعاد أكثر استراتيجية من الظاهر. في هذا السياق يذكر "المرصد الفرنسي للمخدرات والادمان" و"مركز الدراسات الزراعية الريفية" ان مسألة الهجرة أبعد من مشكلة المخدرات. فأي خفض ملموس لانتاج الحشيشة، أياً تكن السياسات المعتمدة في هذا الشأن، حتى وإن كانت ثمرة منافسة نتيجة نمو الانتاج في أوروبا، يمكن أن يدفع بأعداد كبيرة من سكان هذه المناطق للهجرة. ما يعني زيادة ضخمة في تدفقات المهاجرين السريين باتجاه أوروبا. ما عدا ذلك تشير جميع الدراسات الى أن الحشيشة تجر معها ظواهر سيئة مثل: نمو الفردية، والرشوة، وتراجع معدلات التعليم. كذلك فإن الوجهاء التقليديين من العائلات والقبائل في مناطق الريف تركوا مكانهم لأصحاب الامتيازات المنحدرين من الطبقات الجديدة الناشئة لمهربي المخدرات الذين يملكون الامكانات الاقتصادية الكافية لتقديم السلفات للمزارعين، وشراء الذمم والتحكم بوسائل الشحن وشراء الأراضي. وتفيد المصادر نفسها بأن مناطق الريف تعيش وتأكل وتتنفس بفضل الحشيشة. فهنالك 200 ألف عائلة، حسب تقديرات 2001، أي نحو 5.1 مليون نسمة تعيش من هذه الزراعة في المناطق التي تشهد أعلى معدل ديموغرافي في البلاد، حيث اعمار 50 في المئة من السكان دون ال15 سنة. وتدر المساحات المزروعة عائداً يقدر بحوالى 65 ألف درهم للهكتار في الأراضي غير المروية و135 ألفاً في غيرها. ويتراوح مردود زراعة الحشيشة بين 12 و46 ضعف زراعة الحبوب. كما تشكل "نعمة" مالية بالنسبة الى الاقتصاد المغربي بحدود 20 بليون درهم سنوياً. 13 في المئة فقط من هذه القيمة تذهب للمزارعين، في حين يدخل الباقي جيوب المهربين والوسطاء. لكن اقتصاد الكيف المزدهر في مناطق الشمال يبقى بعيداً عن أن يكون عنصر نمو لها. فمعدل الأمية فيها يبقى الأعلى في المملكة