يضيف الاسرائيليون الى مآسي الفلسطينيين نوعاً جديداً منها هو: الإبعاد. فبعد مبعدي كنيسة بيت لحم والشقيقين كفاح وانتصار العاجوري جاء دور أديب ثوابتة وهشام أبو رمضان. وقبل ذلك سأل الجندي الاسرائيلي أديب عن الفريق الذي يؤيده في كأس العالم في كرة القدم، فأجابه ببراءة: المانيا، فلم ير النور بعدها: "المانيا يا ابن ال..."! عندما كانت مؤسسات حقوق الانسان الفلسطينية والدولية تبحث في طريقة منع اسرائيل من تنفيذ قرارها ابعاد الفلسطينيين الثلاثة، الشقيقين انتصار وكفاح العاجوري وعبدالناصر ابو عصيدة الى غزة، كان الجنود الاسرائيليون ينفذون نفياً آخر بكل هدوء. بعيدا عن اضواء وسائل الاعلام والمحاكم ومؤسسات حقوق الانسان. لماذا وكيف يتم ذلك؟ هذا ليس من شأن احد. فجواب الجنود الاسرائيليين هو: - نحن احرار، نحن نقرر اين نضعكم وان كنا سنعيدكم الى البيت او نرميكم في غزة او اي مكان نريده، نحن احرار. هكذا صرخ الجندي الاسرائيلي في وجه أديب ثوابتة 22 عاماً من قرية كفر فجار قضاء بيت لحم عندما ابلغه بعد اطلاق سراحه انه سينزل الى غزة. والامر نفسه تكرر بعد يومين مع هشام ابو رمضان 30 عاماً من بيت لحم. كان ذلك قبل ثلاثة اسابيع عندما اطلقت سلطات الاحتلال سراح الفلسطيني أديب ثوابتة الذي قضى ثلاثة اشهر من السجن الاداري في معتقل"انصار" الصحراوي في النقب. فقد صعد أديب مع عشرة سجناء فلسطينيين الى حافلة للجيش الاسرائيلي لنقلهم الى بيت لحم. في الطريق اتصل أديب بعائلته وبشرهم بالخبر المفرح. لم تصدق العائلة التي انقطع اتصالها مع ابنها منذ اليوم الاول لاعتقاله قبل شهر من نقله الى سجن انصار . فاعدت العائلة وبحضورالاصدقاء الاحتفال بالعودة . لكن الاحتفال لم يتم ولم تدخل الفرحة الى هذا البيت حتى اليوم. جلس أديب في الحافلة، سعيدا باطلاق سراحه بعد المعاناة القاسية التي قضاها طوال شهر في غرف تحقيق الاستخبارات الاسرائيلية وسجن عوفر ثم ثلاثة اشهر اخرى في سجن النقب، الا ان صرخات الجندي الذي نادى عليه بغضب قضت على هذه الفرحة بثوان. - من منكم أديب؟ صرخ الجندي، فاقترب منه أديب. - انت ستصل الى غزة. تابع الجندي بنبرة ترافقها ضحكة صفراوية تكشف متعة الانتقام والحقد على هذا الفلسطيني. - انا من بيت لحم، لا اعرف احدا في غزة ولا يوجد لي اي قريب، قال أديب. - لا يهم . المهم ان تنزل الى غزة. أجاب الجندي. - لماذا. انتم اعتقلتوني من بيتي في منطقة بيت لحم اعيدوني الى البيت. - لن نعيدك ولا تناقشنا اكثر، ولا تسألنا ما السبب نحن احرار. رد الجندي والضحكة تغمر الحافلة التي لفها هدوء بعدما خطفت صرخات المحتل فرحة السجناء المحررين. عاد أديب الى مقعده ومن هناك ابلغ الجندي: "لن انزل إفعل ما تشاء. أعدني الى السجن. سجن الصحراء أرحم لي من نفيي الى غزة". لكن هذا لم يحرك ساكنا لدى الجندي الذي قرر تنفيذ الاوامر العليا. واقتربت الحافلة من حاجز ايرتز، شمال قطاع غزة، فكرر الجندي أوامره لكن أديب رفض التحرك من مكانه. فاقترب منه الجندي وامسك يده وسحبه نحو باب الحافلة، فقاوم أديب وحاول السجناء مساندته، الا ان القوة المعززة من الجنود الاسرائيليين التي وصلت الى حاجز ايرتز كانت أقوى .امسك الجنود أديب "ورموني.. نعم... نعم رموني على الرصيف عند حاجز ايرتز ولم أكن احمل معي اي شيء. لا حقيبة ولا ملابس ولا نقود. تماما كما اعتقلوني من بيتي في الثالثة فجرا بملابسي التي ارتديتها وحذائي وصلت الى حاجز ايرتز". حدثنا أديب الذي جلس ساعات على قارعة الطريق حتى وصل بالصدفة مواطن غزي بسيارته فنقله الى وسط مدينة غزة: "بصعوبة تمكنت من الوصول الى المبعدين من كنيسة بيت لحم. لقد مضى يوم بأكمله وانا من دون طعام وشراب وتحت اشعة الشمس الحارقة حتى وصلت الى الاخوة المبعدين". وانضم أديب ثوابتة وهشام ابو رمضان الى 28 فلسطينياً ابعدوا الى غزة بعد اتفاق كنيسة بيت لحم. وبعد ايام انضم الشقيقان كفاح وانتصار العاجوري، ليعيشوا في منفى داخل الوطن. بعيدين عن عائلاتهم واطفالهم وبيوتهم واعمالهم. "حياة قاسية... قاسية... الموت أرحم". قال كل من التقيناه: من هؤلاء المبعدون؟ ما قبل الابعاد كان أديب ثوابتة في تلك الليلة غارقاً في نومه كوالديه واشقائه الستة، فهو لا يندرج في قائمة المطلوبين لاسرائيل، وما جعله ينام نوما هادئا. لكن الجنود الاسرائيليين، حسب تعليمات قادتهم مهندسي العملية الحربية المسماة "السور الواقي"، اعلنوا ان الاعتقال يشمل كل فلسطيني بلغ الرابعة عشرة من عمره. وغير مهم توقيت الاعتقال. كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة فجراً، وضجيج قوات الاحتلال بدأت تعلو في البناية، بعضهم استيقط قبل ان يصل الجنود الى بيته، اما أديب فكان غارقا في نومه حتى ايقظته ضربات البنادق على باب بيته. فاستيقظ الجميع ولم يكن أمامهم أية وسيلة لمقاومة الجنود. الذين دخلوا المنزل واعتقلوا أديب وخرجوا من دون السماح له بتوديع عائلته التي أدركت ان ابنها في طريقه الى مرحلة عذاب والى مصير قد يكون مجهولا. "اخذوني الى مركز مدينة بيت لحم وكان معي 11 شابا من بيت فجار. هناك عصبوا عيوننا ثم اقتادونا الى غرف التحقيق في سجن عوفر. وبعد ازالة عصبات العيون اخذوا تفاصيلنا فحسبنا ان الامر بدأ يسير بسهولة، لكن دقائق قليلة وعدنا مرة اخرى عاجزين عن رؤية شيء. ولم يكتف الجنود بعصب عيوننا بل كبلوا ايدينا الى الخلف وكذلك ارجلنا واقتادونا الى ساحة السجن، حيث رمونا على الارض وأمرونا بالانبطاح على بطوننا وتركونا ساعات عدة. بعدها اعادونا الى غرف التحقيق، فلم يتركوا وسيلة الا واستعملوها لتعذيبنا: الاهانة والضرب والجلد والتهديد والتخويف الى حد ان بعضنا ينزف دماً". حدثنا أديب واضاف: "بعد هذه المرحلة القاسية، نقلوني الى زنزانة لا يزيد طولها عن متر ونصف متر وكذلك عرضها. ومنعوا الطعام عنا، وخلال 24 ساعة لم يدخل علينا احد. يتركون الاضاءة طوال الوقت حتى ان لون الزنزانة مزعج جداً ويضايق النظر اضافة الى انهم تركوا الموسيقى الصاخبة طوال الوقت. وفوق هذا كله لم تتوقف الشتائم علينا من خارج الزنزانة". كل هذا كان اسهل على أديب من ذلك العقاب الذي تلقاه من الجندي الاسرائيلي، الذي لم يعجبه ان يؤيد أديب المانيا في كأس العالم لكرة القدم. قال أديب: "بعد أيام من وجودي في الزنزانة دخل عليّ جندي وسألني، من تؤيد في كأس العالم لكرة القدم؟ فأجبته بكل بساطة: المانيا. فأجابني بغضب واستهتار وصراخ: "المانيا يا ابن ال...". لا أدري كيف أصف تصرفاته. لقد تصرف بهستيريا وجنون. اقترب مني وأزال السلاسل عن يدي ورجلي وراح يشتمني بكل أنواع الشتائم البذيئة. ثم أمرني بالتقاط الاوساخ عن الارض والمشي خلف كل جندي يمشي فأنظف خلفه وعندما يقف أركع أمامه وأنظف الاوساخ من بين قدميه وكانت أكثر الاوساخ بقايا سجائر الجنود. ولم يعدني الى الزنزانة إلا بعد ان انهال علي بالضرب وكل هذا لأني من مشجعي المانيا". ولم يتوقف تعذيب أديب عند هذا الحد فقد انتقل بعد شهر الى سجن "انصار" في النقب حيث الخيام والطقس الحار والمعاناة الحقيقية للسجناء الفلسطينيين. قضى ثلاثة اشهر، وإذا لم يكن العذاب مثل عذاب سجن عوفر فهو اضعافه بالتأكيد. حتى جاءت ساعة الفرج، كما ظن أديب: "ابلغونا قبل يوم بموعد انتهاء محكوميتنا وكانت فرحة كبرى، لكن هذه الفرحة تحولت الى احلام. واليوم اتمنى من كل قلبي العودة الى سجن عوفر او الخيام او حتى الموت فهو أفضل من إبعادي عن عائلتي..." تقولون انني بين ابناء شعبي. نعم هذا صحيح انا بين أبناء شعبي والناس الطيبين ولكني قبل هذا وذاك انا في المنفى. أتدرين ماذا يعني المنفى... حياة عذاب أقسى مما يتصورها بنو البشر". ضحايا الاحتلال المتجدد منذ احداث كنيسة المهد وإبعاد الفلسطينيين منها خارج الوطن وداخله، ومن ثم ابعاد الشقيقين انتصار وكفاح العاجوري، يتردد كلام عن هذا القرار الوحشي من منظوره القانوني، لكن وراء هذا القرار تدفن حياة عذاب قد يعجز اقوى قلم عن وصفها. فكيف يمكن وصف حال أديب وزميله هشام بعدما وصلا الى المنفى في غزة من دون توفير الملابس والنقود والبيت وكل ما يمكن احتياجه في الوحدة : "نخجل احيانا من تناول الطعام. فقد بحثنا عن عمل ولم نجد وقد اشفق علينا الاخوة المنفيون ووفروا لنا المبيت واشتروا لنا الملابس من المبالغ التي يحصلون عليها من السلطة ولكن الى متى يمكنهم الاستمرار في تقديم المساعدة. ونحن في الوقت نفسه، لا نستطيع العيش من دون مساعدة لأننا لا نملك اي شيء. فلا توجد أية مؤسسة تقدم المساعدة لنا ونحن اليوم نعيش حال قلق وخوف من المستقبل. نحاول شرح قضيتنا للاطراف المسؤولة لكن احداً لم يتخذ القرار بعد ولم تقدم لنا أية مساعدة لا انسانية ولا مالية. ووضعنا لا يسمح لنا حتى الحديث مع اهلنا لأننا لا نملك تكاليف الاتصال. واسرائيل تجيبنا بأننا مسجلون عندها من سكان غزة". يقول أديب الذي كان قد وصل وعائلته الى غزة في العام 1994 من اليمن حيث ولد هناك ثم عاد مع العائلة بعدما سمحت اسرائيل لعدد من الفلسطينيين بالعودة. وبعد فترة قصيرة انتقلت العائلة للسكن في بيت فجار قضاء بيت لحم ومعها أديب. وهذا أمر شرعي للغاية حسب القانون الفلسطيني، وحتى حسب اتفاقيات اوسلو. لكن الاحتلال الاسرائيلي المتجدد قرر تصفية هذه الاتفاقات وآثارها. فاختاروا الضحيتين أديب وهشام. 26 قصة عذاب عندما وصل أديب الى غزة لم يجد أفضل عنوان لتقديم العون له، سوى اولئك المنفيين الذين خبروا تجربة المنفى. فاستقبلوه جميعا بالترحاب. ايام قليلة واكتشف ان حياتهم ليست أفضل منه والدعم الذي يتلقونه من السلطة والصليب الاحمر لا يخفف شيئاً من معاناتهم. المنفي ناجي عبيات، اب لثلاثة اطفال، كان اول من استقبله، وهكذا فعل مع كفاح وانتصار العاجوري، فقد نصب نفسه من دون استئذان ولي أمر الجميع. وبات اليوم هو العنوان للجميع. ليس اكبرهم سنا، فلم يتجاوز الثلاثين من عمره، لكن مأساته مع الاحتلال الاسرائيلي، جعلته يفوق جيله بسنوات. وناجي هو شقيق ابراهيم عبيات الذي أبعد من كنيسة بيت لحم خارج فلسطين ويتواجد اليوم في ايطاليا وهو شقيق الشهيد حسين عبيات الذي قتل بعملية اغتيال اسرائيلية بواسطة طائرة هليكوبتر أباتشي. وناجي بكر والديه ووقعت عليه مسؤولية العائلة، ومع هذا لم يتخل عن قناعته بالمقاومة من اجل تحرير وطنه. ولما استشهد شقيقه حسين بقي اطفاله السبعة برعاية امهم الشابة الصغيرة التي لم تتعد الثامنة والعشرين من عمرها. وفي مثل هذه الحالة من المألوف في المناطق الفلسطينية كما هي الحال في معظم المجتمعات العربية ان يتزوج السلف زوجة شقيقه وهذا ما حصل لناجي الذي اصبح بين ليلة وضحاها اباً لعشرة اطفال. واليوم بات عاجزا عن مساعدة احد. لا زوجتاه ولا اطفاله العشرة ولا والداه المسنان المريضان اللذان يشعران، كما قال لنا ناجي، بأنهما يموتان كل يوم الف مرة. بعدما حرما من مشاهدة ابنائهما الثلاثة. "ان تعيش في منفى، يعني انك وحيد ومحروم من كل شيء. يعني انك لا تشعر بانسانيتك وبحقك في الحياة كانسان وبني بشر". قال ناجي واضاف: "في كل شهر نحصل على مساعدة مالية بقيمة 900 شاقل 180 دولارا نعيش منها ونحول قسما لعائلاتنا. الحقيقة اننا لا نستطيع فعل اي شيء بهذا المبلغ. صحيح اننا لا ندفع اجرة بيت فهذا توفره لنا السلطة ولكن المبلغ لا يكفي تكاليف تليفونات مع عائلاتنا وتحويل قسم منه اليهم وتوفير الحد الادنى من حاجياتنا للطعام. صدقيني احيانا لا نجد وجبة الطعام. ونتحمل هذا كما تحملنا معاناتنا في الكنيسة اياما طويلة. فقد عشنا من دون طعام وتحت التهديد بالقتل. واليوم بإمكاننا ان نتحمل مرة اخرى حتى وان كانت حياة اقسى. ولكن ماذا مع اطفالنا وعائلاتنا انهم يعانون..." واختنقت الكلمات في حنجرة ناجي الذي تذكر اطفاله .." كلما يكلمونني يصرخون ويبكون وينادون علي. احيانا اتصل ثم اغلق سماعة الهاتف. لا استطيع سماع بكائهم. في كل مرة اطلب ان يحدثوني عما يعانون وما ينقصهم لكنهم دائما يقولون انه لا ينقصهم شيء لا الطعام ولا الشراب ولا اية حاجة، ولكن عندما اتحدث مع طفلي الصغير في وقت لا تكون والدته موجودة، يصارحني بأنهم لا يجدون احيانا الطعام ولا ثمن الدواء فأشعر بالنيران تلتهب في جسدي. أجلس ليالي طويلة أبكي من دون انقطاع". ما يقلق ناجي ومن حضر معه من الكنيسة عدم تحديد فترة ابعادهم: "جهاد وانتصار على الاقل يعرفان انهما سيعودان الى عائلتيهما بعد سنتين. اما نحن فلا نعرف اي مصير ينتظرنا؟ متى سنشاهد عائلاتنا؟ لقد توجهنا الى العديد من المؤسسات والمحامين لمساعدتنا للقاء عائلاتنا، على الاقل، او السماح لهم بالوصول الينا الى غزة، لكن احدا غير قادر على خرق ذلك الاتفاق الذي وقع مع الاسرائيليين.. ونحن ؟ نحن سنبقى الشهداء الاحياء" قبلة اللقاء الاول وقبلة الوداع عندما كانت المحكمة تنظر في التماس كفاح العاجوري وشقيقته انتصار لمنع الجيش من تنفيذ قراره بالابعاد، كانت زوجته تعاني الام المخاض بعيدا عن زوجها. فقد انجبت طفلها الثالث من دون ان يشاركها زوجها هذه الفرحة التي ينتظرها كل والد. وكان اول لقاء في يوم الابعاد. فشظقد سمحت السلطات الاسرائيلية للعائلة اللقاء، ولم يتعد ذلك عشر دقائق. لم يتمكن جهاد من رسم صورة في ذاكرته لطفله الجديد الذي لن يقدر على مشاهدته طوال سنتين. قبّله واحتضنه مع طفليه الاخرين. ولم يكن يدري إلى من ينظر اكثر هل إلى طفليه "الكبيرين" اللذين لم يكفا عن البكاء طوال فترة اللقاء القصيرة، ام لطفله الجديد الذي يريد ان يتمتع بمشاهدته وتقبيله؟ ومضت عشر دقائق كلمح البصر لم يتمكن كفاح من الحديث مع والديه وزوجته، واذ بالجنود يأمرون الشقيقين بالصعود الى السيارة التي ستنقلهما الى غزة، وتعالت صرخات طفليه الكبيرين: "بابا خلينا نيجي معك.. خذنا معاك الى غزة...". ولم يدر الاثنان انهما لن يتمكنا من مشاهدة والديهما لمدة سنتين.