لا يزال الجدل قائماً حول احتمال توجيه ضربة عسكرية أميركية ضد العراق. ويزداد اللغط داخل الدوائر السياسية والعسكرية الغربية حول مبررات هذه الضربة ووسائلها وأهدافها. وفي حين تتسع دائرة المعارضين لهذه الضربة في أوروبا وداخل الولاياتالمتحدة نفسها، يرى آخرون بأن قرار ضرب العراق أمر مؤكد، وأن ما يجري من حملات اعتراضية ليس سوى تمويه لتغطية الضربة المفاجئة. وما هو مؤكد أيضاً، أن كل استهداف للعراق سيدفع السلطات العراقية إلى الانتقام من إسرائيل بشن هجمات صاروخية عليها، كما حصل في حرب الخليج الثانية حين أطلق العراق أربعين صاروخاً بالستياً على إسرائيل. ومع أن هذه الصواريخ كانت ذات سمة تدميرية، فهذا لا يمنع إمكان استخدام صواريخ تحمل أسلحة بيولوجية وكيماوية، وهو أمر يقلق المسؤولين الإسرائيليين ويدفع بالاستراتيجيين منهم إلى دراسة أسوأ السيناريوات المحتملة. فما هي ملامح الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة ازاء حرب الصواريخ المحتملة؟ أولاً، أهمية الحرب الصاروخية ينبغي القول بداية إن هناك نوعين من الصواريخ: 1- الصواريخ البالستية، وهي المعروفة بصواريخ أرض - أرض التي تطلق من منصات أرضية ثابتة نحو أهداف بعيدة عن مركز اطلاقها. 2- الصواريخ الجوالة التي يمكن حملها واطلاقها من عربات خاصة قادرة على نقلها من مكان إلى آخر. على أن الصاروخ صار أحد أبرز أسلحة الحروب الحديثة، يكفي النظر إلى المحاولات الأخيرة للفلسطينيين في تطوير صاروخ بدائي لإطلاقه على المستوطنات الإسرائيلية. هذه الأهمية تعود إلى جملة أسباب منها: 1- قدرة الصواريخ حسب نوعها وحجمها ومداها على الضرب من مسافات بعيدة بحيث تتخطى العمق الجغرافي للعدو، وبشكل مباشر تتخطى الحدود المرسومة بين الدولتين مما يقلل من أمرين: مفهوم الحدود الطبيعية، وتجاوز الدفاعات التقليدية المركزة عادة حول الحدود. 2- استعمال الصواريخ لضرب العدو في نقاطه ومواقعه الحساسة والأكثر ايذاء له من منظور جيو-استراتيجي، وعادة ما تكون هذه تستهدف العاصمة العدوة مركز السلطة. والملاحظ أن حرب الخليج الأولى توقفت من جانب إيران بعدما استطاع العراق تطوير صواريخ بدأت تضرب طهران، ويلاحظ أيضاً أن معظم الصواريخ العراقية التي استهدفت إسرائيل في حرب الخليج الثانية، كانت مصوبة نحو تل أبيب! 3- إلغاء عامل الردع المباشر بشكل يعجز سلاحا الجو والمدرعات عن منع وقوع مثل هذه الهجمات الصاروخية، بحيث بات امتلاك الصواريخ، حتى وإن كانت ذات مدى محدود أقل من 100 كلم جزءاً من توازن الرعب. وهو طرح يعبّر عنه واقع الحدود اللبنانية - الإسرائيلية حيث يمتلك "حزب الله" صواريخ قادرة على الوصول إلى جوار حيفا. هذه الميزات التي يمتلكها سلاح الصواريخ أدت إلى نتيجتين مهمتين، خصوصاً بعد تجارب حروب الخليج وحروب البلقان: الأول، صار هناك ميل لدى الدول، وحتى المنظمات، إلى ضرورة امتلاك السلاح الصاروخي كأحد أفضل الأسلحة في الحروب الحديثة. الثانية، تولّدت لدى الدول، خصوصاً التي تتعرض للتهديد الصاروخي، قناعة بالحاجة إلى صوغ استراتيجية عسكرية جديدة تأخذ المعطيات الجديدة الصاروخية في الاعتبار. وهذا ما فعلته إسرائيل وتفعله الآن في ضوء القدرات الصاروخية المتنامية لدى دول الشرق الأوسط. ثانياً، التسلح الصاروخي في الشرق الأوسط بالاستناد إلى بعض المراجع المعنية بمواضيع التسلح في الشرق الأوسط والعالم الميزان العسكري الذي يصدره سنوياً المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وخرائط ودراسات حول الصواريخ في المنطقة، ودراسات محمود عزمي ورياض قهوجي في مجلة "الدراسات الفلسطينية" عدد 47 يمكن اعطاء فكرة عن انتشار الصواريخ في دول الشرق الأوسط. وهو انتشار قوي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية. إذ فقد بعض دول المنطقة حليفاً استراتيجياً من جانب، وتوقفت روسيا عن تزويده بالسلاح الحديث من جانب آخر. لذا وجد نفسه محاصراً من الغرب وإسرائيل وروسيا، فسعى إلى طلب الصواريخ "ولو في الصين" وكوريا الشمالية، وحصل على بعضها. وجاءت حرب الخليج الثانية بتداعياتها السياسية والعسكرية على المنطقة لتزيد من هذا التوجه. إسرائيل: تمتلك ثلاثة أنواع من الصواريخ البالستية التكتيكية: - صواريخ لانس "ام جي ام 52 سي لانس" أميركي التصميم والصنع. قادر على حمل رأس تقليدي ورأس نووي صغير مداه 72-130 كلم. - صاروخ "اريحا -1" إسرائيلي - فرنسي التصميم والصنع، قادر على حمل رأس تقليدي أو نووي. مداه يتراوح بين 482 و563 كلم. - صاروخ "اريحا -2" وهو نموذج إسرائيلي مطوّر ومحسّن لصاروخ "اريحا -1" وقادر على حمل رأس نووي. وزنه 340 كلغ، ورأس تقليدي، ومداه نحو 1500 كلم. وهناك ميل لتطوير هذا الصاروخ إلى "اريحا -3" لمدى 5 آلاف كلم. سورية: لديها ثلاثة أنواع من الصواريخ: - صاروخ "سكود ب" من انتاج روسيا، مداه 300 كلم. - صاروخ "سكود ث" من انتاج روسيا وكوريا الشمالية، مداه 500 كلم. - صاروخ "سي سي -21" أو باء، انتاج روسيا ومداه 70-120 كلم. وفي بعض الدراسات، أظهرت أن سورية استطاعت أن تطور صاروخ "سكود د" بحيث يصل مداه إلى 700 كلم. العراق: استطاع العراق أن يطوّر الصواريخ السوفياتية المنشأ، خصوصاً "سكود ب"، ووظف إمكانات مادية وبشرية علماء غربيون وسوفيات في تطويرها. - صاروخ "الحسين" مبني على "سكود ب"، ومطوّر عراقياً ومداه 650 كلم. - صاروخ "العابد"، وهو صاروخ من ثلاث مراحل يصل مداه إلى 2000 كلم، ويمكن استخدامه لوضع أقمار اصطناعية في الفضاء الخارجي، وجرت تجربته عام 1998، علماً أن مجلس الأمن يحظر على العراق انتاج صواريخ يزيد مداها على 150 كلم. مصر: صاروخ "سكود ب" بمواصفات مذكورة آنفاً، لكن القاهرة حاولت تطوير صاروخ "كوندور" مع الأرجنتينوالعراق ليبلغ مداه 900 كلم. كما لم تنجح جهودها مع العراق في تطوير صاروخ "بدر" لمدى 2000 كلم لافتقار المشروع إلى الدعمين المالي والتكنولوجي. ليبيا: صاروخ "سكود ب" حاولت تطويره لتصنيع صاروخ "الفاتح" بهدف وصوله إلى مدى 1000 كلم. إيران: تملك صواريخ "سكود ب" و"سكود ث" من انتاج روسي - كوري شمالي، كما تملك صواريخ من طراز "سي اس اس -8" من انتاج الصين ويبلغ مداه 150 كلم. وعملت على تطوير صاروخ "شهاب -3" ويصل مداه إلى 1300 كلم. هذه صورة عن الأسلحة الصاروخية لدى دول المنطقة. يتبين منها أن الصاروخ الأكثر انتشاراً واقتناء وتطويراً لديها هو الصاروخ "السوفياتي" على اسمه القديم "سكود ب" الذي كان الاتحاد السوفياتي يزوّد به دول المنطقة. فإذا اضفنا إلى الصواريخ المطورة وجود أسلحة بيولوجية وكيماوية لدى دول تعتبرها إسرائيل عدوة لها شأن العراقوإيران، أمكن فهم خطورة التسلح الصاروخي، إذ تحوّل من مجرد تهديد صاروخي إلى تهديد استراتيجي للدولة العبرية، أي أن إسرائيل تواجه عملياً ما يعرف بعلم الاستراتيجية العسكرية: الردع البالستي. فما الذي سيكون عليه موقفها من هذا الردع؟ ثالثاً، إسرائيل: من الهجوم الوقائي... إلى الدفاع الوقائي! كيف واجهت إسرائيل الوضعية الاستراتيجية الجديدة في المنطقة بعد تعرضها لسيل الصواريخ العراقية عام 1991، وبعد احتمال تعرضها للمخاطر ذاتها في أي هجوم تشنه الولاياتالمتحدة على العراق في المدى المنظور؟ 1- ينبغي القول، بل التأكيد، في ضوء ما تطرحه وسائل الإعلام الإسرائيلية وتصريحات المسؤولين، خصوصاً العسكريين منهم، أن الدولة العبرية هي بصدد مراجعة شاملة وأساسية لاستراتيجيتها العسكرية. فلقد كانت هذه الاستراتيجية تقوم على مبدأ الهجوم الوقائي، أي أن إسرائيل نظراً إلى صغر مساحتها وقلة عدد سكانها ونوعية جنودها وأسلحتها المتطورة، كانت تواجه ما تعتبره خطراً على "أمنها القومي" بهجوم وقائي على مصدر التهديد لهذا الأمن. وهذا ما فعلته في معظم حروبها منذ العام 1948. فالحكمة عندها تقضي بإلغاء التهديد بالقوة قبل أن يصبح تهديداً بالفعل، لهذا أخذت إسرائيل لنفسها قرار "الضربة الأولى". 2- لكن إسرائيل في حرب الخليج الثانية تلقت الضربة الأولى من العراق ولم تردّ بناء على طلب الولاياتالمتحدة التي تكفلت بالرد لكي لا يفرط التحالف الأميركي - العربي المؤيد لعملية "عاصفة الصحراء". واعتبر ذلك بمثابة تحول في خيارات إسرائيل العسكرية. واليوم، إذ تستعيد إسرائيل ذكرى تلك الأيام، ترى أنها، على لسان وزير دفاعها آنذاك موشي آرينز قد أخطأت. قال: "أخطأنا لأننا لم نرد وكنا جاهزين لذلك، ولن نجلس الآن مكتوفي الأيدي في حال تعرضنا لهجوم". ويقولون في إسرائيل الآن إن ارييل شارون طلب من الولاياتالمتحدة ابلاغ إسرائيل مسبقاً بأية ضربة توجه إلى العراق، كما أنه أبلغ أميركا بأن إسرائيل سترد... لا بل إنها قد تأخذ المبادرة! 3- صحيح أن تل أبيب متحمسة لضربة توجهها أميركا لنظام الرئيس العراقي صدام حسين. فلقد قال أحد الوزراء الإسرائيليين فلنائي: "إن التخلص من نظام صدام حسين يخدم المصلحة الاستراتيجية لإسرائيل". ولكن إسرائيل تؤكد وتشدد من جانب آخر أنها ليست طرفاً في الصراع الأميركي - العراقي. ولكن الرئيس العراقي لا يقبل هذا المنطق بل يود، انطلاقاً من مفهوم "الربط" جعل أميركا تدفع ثمن هجومها على العراق من "دم إسرائيل"، باعتبارها "النجمة الخمسين في العلم الأميركي"، وهي الواقعة في متناول الصواريخ العراقية! إضافة إلى أن ذلك يعطيه صدقية كبرى في الشارع العربي والإسرائيلي! 4- ولكن الصحيح أيضاً هو أن إسرائيل قلقة: فمن جهة تود اسقاط الرئيس صدام حسين، ومن جهة ثانية تخشى مفاعيل ذلك عليها سياسياً وعسكرياً، إن عبر ردود الفعل العراقية المحتملة أم عبر ردود الشارع العربي، خصوصاً الفلسطيني. ومشكلة إسرائيل الكبرى أنها لا تستطيع بدفعة واحدة الانتقال من استراتيجية الهجوم إلى استراتيجية الدفاع، ولهذا حاولت أن تجمع بين المبدئين، بل بين العقيدتين في تبنيها لثلاثة: "الدفاع العملي والدفاع الوقائي والضربات الاستباقية". الدفاع العملي: إقامة شبكة دفاع جوية مضادة للصواريخ، مما يستدعي الانذار المبكر والرصد من مسافات بعيدة، بواسطة طائرات وأجهزة رادار وإقامة شبكة صواريخ مضادة للصواريخ. لهذا يجري الحديث عن إقامة بطاريات "حيتس" حول تل أبيب وفي وسط إسرائيل. الدفاع الوقائي: تجهيز المواطنين بكل أنواع الوقاية من الغازات السامة والجراثيم. وانشاء ملاجئ خاصة وشراء الثياب الواقية من الغازات. الضربات الاستباقية: وهي تعني ضرب صواريخ العدو في أماكنها وتدميرها، إما بواسطة طائرات قادرة على التحليق بعيداً لمسافات طويلة "اف -15" أو بواسطة صواريخ أرض - أرض اريحا -2 أو بانتاج صواريخ مضادة للصواريخ وقادرة على تدميرها في الجو مشروع آرو - السهم بتمويل أميركي - إسرائيلي، أو بواسطة صواريخ تطلق من غواصات بحرية... وتقترب من شواطئ الخليج. 5- هذه الاطروحة تنطلق من فرضية أن الرئيس صدام حسين لا يزال لديه، أو أنه أصبح لديه أسلحة دمار شامل بما فيها الصواريخ البالستية. وفي غالب الظن أن هذا الرجل الذي عسكر العراقيين في وجه إيران مع ما لذلك من مخاطر ايديولوجية - مذهبية سيكون من الأسهل عليه عسكرتهم ضد أميركا وإسرائيل، بعدما ظهر اصراره على استمرار برامجه العسكرية. إن العراق، كما إسرائيل، أمام امتحان تاريخي: نفسي وسياسي وعسكري. امتحان، كل الخيارات فيه صعبة وتحمل الكثير من المخاطر، وهي مخاطر لن تقتصر مفاعيلها على الدولتين، بل ستشمل المنطقة كلها... وربما تكون المدخل، كما يتوقع الكثيرون، إلى خريطة جديدة لا يكتبها "أحفاد" سايكس - بيكو بطبعة أميركية، بل تكتب على ضوء شهب الصواريخ