لتعاقب الليل والنهار حكمة: النهار لبدء السعي والعمل، والليل للراحة والهدوء. أما ما حدث منذ سنوات طويلة في هذه المدينة فهو الجمع بين من هو حي يرزق ومن هو في رحمة الله، على عكس كل ما هو متعارف عليه في جميع الأديان، فالنهار هناك عذاب والليل جرائم بكل أنواعها. في "القرافة" أو المقابر تجد كل شيء، في الصباح الباكر تجد طفلاً يحمل كتبه ويتجه إلى مدرسته وطفلاً آخر يجري تجاهك يطلب "الرحمة"، و"الرحمة" هي ما يجود به أهل الميت على أهل المدافن من صداقات، سواء كانت على صورة أشياء عينية من الكعك والبرتقال أو البلح أو على صورة أوراق مالية تبدأ من الخمسين قرشاً وتصل إلى حيث تنتهي أهمية المتوفى ومقدار رحمته على أهل المدافن. ويعود أصل كلمة "قرافة" الى اسم قبيلة كانت تسكن أسفل جبل المقطم حيث كان الاختيار لأول مكان يخصص للمدافن عندما تحولت مصر إلى عاصمة إسلامية وكانت تقطن في هذا المكان قبيلة تسمى "بني قرافة". ومع مرور السنوات اصبحت "القرافة" الكلمة التي تعبر عن المدافن أو المقابر في كل بقاع مصر، وعلى رغم كوني سمعت الكثير من غرائب أهل المدافن، إلا أن ما شاهدته كان أعظم وأغرب. ولكن قبل أن أسرد ما رأيت أريد أن أقرر أول سؤال بادر إلى ذهني عندما بدأت أولى خطواتي داخل إحدى مقابر القاهرة التي تقع على امتداد طريق صلاح سالم. السؤال أين الحكومة من مدينة الأموات التي اصبحت خلال السنوات القليلة الماضية، بسبب الامتداد العمراني للعاصمة في وسط القاهرة، إلى حد ما مستقلة بذاتها تملك زمام أمورها وتدبر احتياجاتها، واصبحت بعض الأحواش كبعض الشقق المفروشة، او شقق البغاء وأخرى تستخدم كمصنع ومحل لبيع المخدرات؟ أين دور الحكومة تجاه سكان المقابر الذين تلتف حولهم الطرق الدائرية والمحاور والأحياء الجديدة؟ في الواقع ان الإدارة تولي اهتماماً بالغاً بهذه المشكلة بهدف توفير الحل البديل مع مراعاة الحالة الإنسانية، وترى الجهات الحكومية أن الحل يكمن في نقل المقابر من أماكن وجودها بين التجمعات السكنية ونقل سكانها إلى الشقق التي توفرها المحافظة، وبالفعل تم حصر أعدادها كما تم إصدار خطابات تخصيص نسبة كبيرة جداً من هؤلاء السكان الذين زاد عددهم على 200 ألف عائلة، وهذه نسبة لا يستهان بها لكن المشكلة التي تواجهها الحكومة هي ان سكان المقابر جزء من سكان العشوائيات الذين تبلغ نسبتهم 12 مليون نسمة وهم أيضاً يدخلون في نطاق الحل الذي يجب أن توفره الحكومة، اي إيجاد حل لحواليپ12 مليون نسمة يدخل ضمنهم سكان المقابر، وعلى رغم أن الحكومة تعطي الأولوية لسكان المقابر وبالفعل بدأت في إزالة بعض المقابر مثل مقابر باب النصر، وتم تعويض سكانها ومالكي المقابر فيها بأخرى في التجمعات السكنية الجديدة، لكن المشكلة لا تزال قائمة حتى الآن لأنها ولدت منذ سنوات طويلة ولا يمكن أن تُحل في أيام أو شهور أو حتى سنوات قليلة، في وقت لا تتحمل فيه موازنة الدولة كل هذه البلايين التي تحتاجها نفقات البناء وتوفير الخدمات من مياه وكهرباء ومواصلات ومستشفيات ومدارس. الباب الدوار الا ان ما يؤخذ على الحكومة بالفعل هو أنها تركت هذه المشكلة تتفاقم ولم تتعامل معها بالحزم اللازم والمتابعة الصارمة للحؤول دون تزايد أعداد الوافدين على المقابر وبالتالي الحد من تفاقم المشكلة. والأعجب من موقف الحكومة وتساهلها أمام هذه المشكلة هو موقف بعض سكان المقابر الذين تسلموا بالفعل خطابات تخصيص لشقق المحافظة وقاموا ببيع هذه الخطابات بنسبة تراوح بين 1000 جنيه و3000 جنيه، حسب مساحة الشقة التي حصلوا عليها أو حسب مكانها وعلى من يشتري هذه الخطابات أن يتابع مع الحكومة حتى يتسلمها. والسؤال: لماذا يضطر هؤلاء إلى مثل هذا الموقف على رغم حاجتهم الماسة إلى شقق يعيشون فيها حياة آدمية؟! الإجابة تأتي على لسان الحاج محمد أبو زيد وهو واحد من سكان المقابر، يقول: "الشقق التي توفرها المحافظة لا تزال في علم الغيب والناس هنا تحتاج إلى المال لسد حاجتهم، والمال في الأيدي افضل من شقة بعيداً، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الناس هنا أقامت حياتها منذ سنوات طويلة وبعضهم لديه عمل ودراسة لا يبعدان من المكان وشقق المحافظة بعيدة ولا تتوافر لها وسائل مواصلات كثيرة، وأيضاً هذه الشقق ذات مساحات محدودة جداً لا تراعي عدد الأسرة، هنا يستطيع الناس ان يناموا في أي مكان، لكن ليس من المعقول أن يعيش 6 أفراد أو أكثر في غرفة واحدة، فهذه الشقق بالنسبة الى بعض الأسر ليست مكسباً بل خسارة وإلا ما كانوا فرطوا فيها، فإذا كانت تساوي ما حاجتهم لبيعها قبل أن يدخلوا فيها؟ الدكتورة جليلة القاضي الباحثة العلمية في المركز الفرنسي والتي اهتمت بمشكلة المقابر لكن من وجهة نظر مختلفة عما هو متعارف عليه، تعتبر ان المشكلة ليست البشر فقط الذين يحتلون المقابر، لكن المشكلة لديها هي المقابر ذاتها، والتي من أجلها اصدرت كتاباً باللغة الفرنسية عن دار نشر فرنسية يسمى "مدينة الموتى". وتقول الدكتورة القاضي ان بعض المقابر يعتبر أثراً مهماً جداً من آثار القاهرة اذ يعود إلى العصر الفاطمي. وهناك مقابر ذات جمال هندسي لا يجوز بأي حال من الأحوال إزالتها أو التفريط بها، فإزالة لمقابر ليست حلاً بل الحل هو تنفيذ القانون ومتابعته والعمل على توفير السكن لهؤلاء النازحين الى المقابر لا ازالة المقابر والبشر معاً. أهل مدينة الموت يتحدثون السيدة فاطمة إبراهيم شهرتها أم جابر التقتها "الوسط" لتقف على وجهة نظر أخرى في هذه المشكلة التي لها العديد من الأطراف المشتركين فيها، سواء الحكومة أو المثقفين أو الشرع، تقول: "لا أدري ما الضرر الذي يقع على أحد من وجودنا في المقابر، فنحن نعيش في أمان الله". قلت لها انه لا يجوز أن يسكن الأحياء مع الأموات حرصاً على صحة الأحياء وأمانهم وأمن أولادهم الذين يلعبون حول شواهد القبور كما لو كانت مجرد حائط عادي يختبئون خلفه، فردت: "احنا هنا منذ سنوات من عمر ابني، وهو عنده الآن حوالي 50 سنة، ولا شفنا شقق ولا شفنا جوابات وعايشين ولا فيه مياه نظيفة والكهرباء بناخدها "غصب" من أعمدة الكهرباء، أو من الأحواش التي يدخل فيها مالكوها الكهرباء، ولا يوجد لدينا أي شيء، ولا حتى الشيء الضروري، لكن احنا عايشين، يتركونا نعيش فيها لغاية ما ندفن فيها، احنا إذا أخدنا شقة في مكان آخر هتكون في آخر الدنيا وإذا متنا لن نجد مدفناً نوارى فيه". وعلى رغم أن وجهة النظر هذه تتضمن مغالطات كثيرة حيث ان أي مكان بين أربع جدران هو بطبيعة الحال أفضل من مشاركة الموتى مساكنهم، هذا من جانب ومن جانب آخر أن الإنسان لا يدري بأي أرض يموت. سينما المقابر ويقول أحمد السيد الطالب في إحدى كليات جامعة القاهرة إن هذه المشكلة لا حل لها، فأنا ولدت هنا وتعلمت السير بين القبور الى درجة أنني لم أكن أعلم ماذا تعني كلمة قبر، أنا هنا في بيتي، هذا القبر بالنسبة الي بيت، وهو عنواني ومكاني، فأنا أشعر أنني والقبر شيء واحد لا يتجزأ، كبرت بين هذه القبور وذهبت إلى مدرسة تقع بين القبور والمدارس الأخرى تقع بالقرب من القبور إلى أن ذهبت إلي الجامعة. هذه المشكلة لا تجد حلاً رادعاً من جانب الحكومة فنحن نعيش هنا في توتر دائم، فالمقابر لم تعد مأوى السكان الذين لا منازل لهم فقط لكنها أصبحت مأوى اللصوص وتجار المخدرات وأهل البغاء". وشجعت السينما على ذلك أيضاً عندما جعلت بعضاً من أفلامها تصور في المقابر كونها أفضل مكان للتستر والتخفي وارتكاب الجرائم بعيداً عن أعين الشرطة، واصبح أهل المقابر يشاهدون الممثلين وكاميرات التصوير تأتي إليهم ويفتخرون بأن الممثل فلان جاء عندنا والممثلة فلانة كانت هنا، إذاً المكان ليس فيه عيب بل على العكس يأتي إليه الناس الذين نراهم في التلفزيون، وسكان المقابر ناس من طبقة بسيطة جداً ومعظمهم أميون ويتأثرون بما يحدث لهم، فالشخص العادي إذا حالفه الحظ وتم تصوير مشهد في شقته يعيش سنوات وهو يقول صوروا في شقتي كذا وكذا، فما بالك بالمقابر التي اصبحت ديكوراً واقعياً يستخدم لتدعيم الأفلام، لإزالة الخوف والرهبة من القبور. وتساءل السيد: "أين الشقق؟ نحن نترك المقابر فوراً اذا قدموا لنا الشقق. لكنهم تقدموا لنا بخطاب لذلك لن نذهب إلى أي مكان، لأننا لن نسكن داخل خطاب". مخدرات وبغاء وينتشر بين المقابر التسول وتجارة المخدرات والبغاء والاغتصاب وهي جرائم لا يستغربها احد، فمن المعتاد أن يجد طفل جثة يتجمع حولها الناس. ومن المعتاد ان يسمع الطفل صراخ استغاثة من فتاة أو سيدة خطفوها داخل المقابر. ومن المعتاد أن يتعلم هذا الطفل مهنة التسول ومن المعتاد أيضاً أن يشاهد بقايا تعاطي المخدرات من الحقن المخدرة، فطفل المقابر ليس كأي طفل فهو ولد ليشاهد العالم من منظور مختلف غير ما يشاهده نظيره الطفل الذي يقيم في الأحياء السكنية العادية، ووجهة النظر هذه تؤكدها الأم سكينة منير التي تعمل ممرضة والتي ظلت تبكي طوال لقائنا بها على ابنها البالغ من العمر 17 عاماً اذ كاد يضيع منها عندما اقترب من اصدقاء السوء في المقابر فسهلوا له تعاطي المخدرات ففسد وترك مدرسته ولم تستطع والدته أن تردعه إلا عندما سقط صريع المرض. وعند سؤالها عن السبب الذي دفعها للسكن في المقابر اجابت سكينة: "نحن في الأصل من الزقازيق، وحضر أبي مع اسرة رغبت في أن يعمل لديهم حارس لمقابرهم، وكان والدي لا يزال شاباً فحضر معهم وتسلم حجرة ملحقة بالمقبرة مخصصة للحارس، ومع مرور الوقت فكر في الزواج فتزوج أمي وكانت ابنة أحد المقيمين في المدافن، وهكذا جاءت الحكاية، وأنا أتمنى أن أحصل على أربعة جدران أعيش داخلها، وأحمي نفسي وابني، فنحن معرضون لكل شيء، من الشيء الصغير إلى القتل والاغتصاب، فأرجو من الدولة أن تصنف الحالات وتضع أولويات وأن تكون هناك حالات يجب حسمها على الفور، مثل حالات الأرامل والمطلقات والذين لا عائل لهم ولديهم أسرة وليس لديهم مأوى سوى المدافن". عسكر وحرامية وعن دور رجال الأمن في مناطق المقابر التي اصبحت مدينة مزدحمة بالسكان يؤكد بعض أهالي منطقة مقابر البساتين أن رجال الشرطة هم دائماً في حركة ونشاط، لكن المشكلة أن محترفي الإجرام يتخذون من المدافن ستاراً يحتمون به، والمشكلة ليست فقط في المجرمين عابري السبيل أي الذين يأتون إلى المنطقة ليرتكبوا جريمة ويفروا، فهؤلاء، كما يؤكد الحاج سعد متولي، وضعهم أقل أهمية من اولئك الذين يتخذون من المدافن التي يعيشون فيها وكراً، فهناك نساء يحترفن البغاء وقد قمت بإبلاغ الشرطة عن بعض الحالات وبالفعل تم القبض عليهن، لكن كان هناك غيرهن فحاجة النساء الى المال تدفعهن لارتكاب ما حرم الله حتى يوفروا مالاً يعينهم على الحياة، وهن نساء لا حرفة لهن وبلا علم لذلك على الحكومة أن تبحث حالات النساء اللاتي يعشن في المقابر وتوفير عمل لهن يتكسبن منه بدلاً من حالتهن هذه، فكلما قبضوا على إحداهن ظهرت الأخرى فالسجن لم يعد رادعاً لهن. عم "حسين" تُربِي أباً عن جد يعيش في منطقة "الامامين". وهو يقول إن "مهنة التُربي أصبحت ستاراً لكل من يرغب في الحياة داخل المقابر، وكل من لا عمل له يأتي ليعمل تُربياً. فالمهنة أصبحت مشاعاً، على عكس الماضي اذ كانت لها أهميتها وخصوصيتها وكان يجب أن تتوافر صفات كثيرة في الشخص الذي يعمل "تُربياً"، أهمها معرفة أصله وأهله وبلده لأنه سيتسلم أجساد الموتى وعليه المحافظة عليها، اليوم نجد بعضهم يقوم باستخراج أجساد الموتى وبيعها لطلبة الطب أو يسرق أسنانهم الذهبية وأحياناً ينتزع الكفن الذي يسترهم". ومهما يكن فإن معظم سكان المقابر يرفضون الرحيل عنها لاعتبارات كثيرة، أهمها: - قربها من وسط المدينة ووسائل المواصلات. - قربها من مصالحهم الشخصية وأماكن عملهم وموارد رزقهم. - مساحات شقق المحافظة لا تفي بحاجاتهم. وبعض الشقق لا يزال يحتاج إلى مرافق وخدمات صحية. وتكمن اسباب تفاقم مشكلة سكان المقابر في عدم المتابعة الحازمة من قبل الحكومة في تنفيذ القانون وزيادة نسبة الوافدين من الريف إلى المدينة خلال السنوات الطويلة الماضية والسماح بتناسل جيل وراء جيل من ساكني المقابر، ورفض "الأسر المحترمة" زواج ابنائهم من بنات سكان المقابر ما يؤدي الى تفاقم مشكلة العنوسة، كما تقول ربات بيوت. ويزيد تكدس السكان بشكل يحتاج إلى حل رادع من الحكومة خصوصاً في مقابر قايتباي والامامين والمجاورين والتونسي والبرقوقي والإباجية والبساتين وعين الصيرة وباب الوزير، وعلى رغم أن الحكومة قامت بالفعل بتسليم وحدات سكنية لبعض سكان المقابر وبعضهم تسلم خطابات تخصيص، لكن لا يزال طابور المنتظرين طويلاً وممتداً كامتداد المقابر من شمال القاهرة إلى جنوبها وعلى امتداد 12 كيلومتراً، ويحتاج الى وقفة حازمة من المسؤولين عن تنفيذ القانون اذ لا يجوز أن تقوم الحكومة بتسليم شقق لمئات المتضررين ثم تسمح لغيرهم بدخول المنطقة والاستيطان فيها، أي يتم خروج أناس ليحل محلهم أناس آخرون زيارة المقابر في الشرع الدكتور عبدالمعاطي بيومي نائب رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشعب يقول ان "السكن في المقابر من دون وجود الحاجة الماسة لذلك حرام، فالإنسان إذا توافرت له غرفة في أي مكان غير المقابر لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يسكن في المقابر، فالأصل هو أن سكن المقابر حرام، فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن زيارة المقابر ثم عاد وقال: "ألا نهيتكم عن زيارة المقابر؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال فزوروها...". فإذا كانت زيارة المقابر منهياً عنها فما بالكم بالسكن فيها، والنهي جاء للحرص على كرامة الإنسان، والمسلم الحق الذي يجد البديل عن هذه السكنى عليه أن يتركها فوراً لكونها حراماً، أما المضطر فعذره عند الله والله معهم... والله أعلم".