من هم هؤلاء؟ ماذا يمثلون؟ ما هو تأثيرهم المستقبلي ودورهم في الأحزاب؟ وهل أضحى الصوت العربي رهاناً انتخابياً في فرنسا؟ يبدي معظم المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، ما عدا زعيم "الجبهة الوطنية" المتطرفة جان ماري لوبين والمنشق عنه برونو ميغري، أو حتى ممثل الديموقراطية الليبرالية الن مادلين الذي كان يدور ذات يوم في فلك اليمين المتطرف، يبدي هؤلاء اهتماماً متزايداً بالناخبين من أصل عربي، سواء بالنسبة الى الانتخابات الرئاسية التي ستجري بعد اسبوعين أم بالنسبة الى الانتخابات التشريعية في حزيران يونيو المقبل. لقد غيَّر هؤلاء الزاحفون الى سدة الرئاسة من طريقة تعاملهم مع هذه الشريحة من الناخبين، وكذلك من أسلوب محاكاتهم، وأيضاً استخدام كل الأساليب المتاحة لاستقطابهم، وصولاً الى وزن الكلمات في تصريحاتهم لناحية مراعاة شعورهم المتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني. فللمرة الأولى في تاريخ "الجمهوريات الفرنسية"، حاول المرشحون عدم وضع بيضهم في سلة "الاقتراع اليهودي" وحدها. الأمر الذي حدا بالجمعيات اليهودية المتطرفة وبعض الحاخامات الكبار لاتهامهم بالرياء والسعي لكسب ود وأصوات ستة ملايين عربي مسلم على حساب 600 ألف يهودي! هذا في الوقت الذي لا يزال الفرنسيون من أصل عربي يبحثون عن وسيلة لاثبات وجودهم بشكل فاعل ونهائي، عبر تنظيم صفوفهم، وتأطير كوادرهم، تمهيداً للتأثير المباشر في الحياة السياسية الفرنسية. وبكلمة واحدة، يمكن القول بأن هذه القوة الجديدة الآخذة بالتبلور داخل المجتمع الفرنسي تسعى من خلال أصوات أبنائها، انتزاع الاعتراف بها وبدورها من جهة، وحصولها على حقوقها في المواطنة من جهة أخرى. حقوق طالما تجاهلتها النخبة الحاكمة في دولة مشهود لها بصون الحريات العامة والدفاع عن حقوق الانسان ونبذ العنصرية. وتشير الاحصاءات التي تملكها وزارة الداخلية الفرنسية الى وجود أكثر من مليوني ناخب من أصل مغاربي، ونحو 400 ألف من أصول عربية أخرى. لكن على رغم غياب احصاء رسمي حاسم، فإن الوزن الانتخابي للجيل الجديد المتحدر من الهجرتين الأولى والثانية، بدأ يلقي بثقله وظلاله على الحياة السياسية والاجتماعية منذ منتصف التسعينات. ولحظ المراقبون هذا التطور من خلال الانتخابات التي نظمتها الدولة حول مسألة التمثيل النسبي آنذاك. لكن هذا التحول في الرؤى وتزايد عدد العرب المتجنسين لا يعني بالضرورة وجود "تصويت عربي، مغاربي أو مسلم"، بما لهذا الاقتراع من معان بمفهوم المجموعات الضاغطة. فمنطق هذا التصويت ليس وارداً، خصوصاً أن الفرنسيين العرب موزعون على مختلف التيارات السياسية في البلاد. مع ذلك، يلاحظ خبير متخصص يعمل في احدى أبرز مؤسسات استطلاع الرأي بالعاصمة باريس، بأن وزن "الاقتراع العربي" يمكن أن يعبر عن نفسه من خلال "تصويت عقابي" ضد الذي يعتبره الناخبون بأنه أكثر معارضة لمصالحهم وانحيازاً لمن يعتبره مناهضاً بل معادٍ لمعتقداتهم وقضاياهم وحتى آرائهم. انطلاقاً من هنا، يمكن فهم أبعاد التأطير الجاري على قدم وساق في صفوف الناخبين الفرنسيين من أصل عربي بهدف المطالبة بالموقع وبالحقوق. ومن أبرز المعبرين عن هذا التيار، المصارع الفرنسي من أصل جزائري جمال بوراز الذي أحرز الميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية وعرف كيف يتوجه الى الرأي العام المحلي من خلال طروحات موضوعية مقنعة بعيدة عن الإثارة. فبوراز يركز في حديثه خلال الفترة الأخيرة على القول بأن "الموقف من القضية الفلسطينية، سيجعلنا نفكر مرتين قبل أن نعطي صوتنا لأي من المرشحين في الدورة الثانية"، وهو توجه أعطى ثماره بسرعة بحيث أنه ترك تأثيراً على تصرف كبار المرشحين يميناً ويساراً. ولا تخفي الطبقة الوسطى الجديدة المنبثقة عن هؤلاء الفرنسيين العرب إرادتها باختراق الساحة السياسية الفرنسية - التي خلافاً للمجالات الأخرى كالثقافة والفن والتعليم والرياضة - بقيت شبه خط أحمر مستتر، ليس من السهل تجاوزه لاعتبارات تاريخية واستراتيجية. وفي هذا السياق يقول مالك بوطيع، رئيس جمعية "اس. او. إس لمناهضة العنصرية" المقربة من الحزب الاشتراكي الفرنسي، ان الفرنسيين من أصل مغاربي لن يكتفوا بعد الآن بالقبول بهم في الوسط الفني والسينمائي فقط عبر الإقرار بكفاءات ممثلين مثل سامي ناصري جزائري الأصل، أو جمال دبوز فرنسي من أصل مغربي، أو مصمم الأزياء عز الدين علايا تونسي الأصل، أو كتاب مثل طاهر بن جلون وغيرهم، بل الاصرار على دخول قبة الجمعية الوطنية وليس البرلمان الأوروبي وحده، كما هو الحال مع سامي نايير عضو حركة المواطنين التي يرأسها جان بيار شوفنمان، المرشح للانتخابات الرئاسية ووزير الدفاع والداخلية السابق، أو حليمة بومدين ممثلة تنظيم الخضر أو ياسمينة بوجناح، عضو الحزب الشيوعي الفرنسي. في هذا الاطار، وبمبادرة من جميعة "أونير" التوحيد، أمينها العام جان فرنسوا تاوزي، قام عدد من ممثلي المجتمع المدني والمنتخبين في المجالس البلدية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية بإعداد ورقة عمل تتضمن اقتراحات أساسية ركزت على المواضيع الآتية: المواطنية النشطة، الاندماج عبر الاقتصاد، رؤى الأقليات، مكافحة التمييز العنصري، اضافة الى تطوير العلاقات بين الشمال والجنوب. ولقد عُرضت هذه الاقتراحات خلال لقاء كبير عقد في باريس في شهر اذار مارس الماضي، حمل عنوان: "انتخابات 2002، التنوع الثقافي، اختبار أمام الديموقراطية والبناء الأوروبي". من ناحية أخرى، تلاحظ دوائر فرنسية مقربة من مصادر القرار نشوء ظاهرة ذات دلالة تتلخص "بتسيس" الفرنسيين من أصل مغاربي، بحيث أنهم بدأوا يعبرون وبصراحة متناهية وفي كل المناسبات عن آرائهم حيال السياسة الخارجية للحكومة الفرنسية والخيارات والتوجهات التي يتوجب اعتمادها إذا ما أرادت هذه الأخيرة الحصول على دعمهم وأصواتهم. ولقد برز هذا الواقع بشكل لافت خلال الأسابيع الأخيرة عبر متابعتهم بدقة لا سابق لها، المواقف المتخذة من الوضع في الشرق الأوسط وتداعيات الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. ولا تخفي هذه الدوائر اهتمامها لناحية إثارة بعض المثقفين الفرنسيين من أصل عربي موضوع فتح أبواب وزارة الخارجية للكفاءات من خريجي الجامعات. في هذا السياق، قدم "ملتقى المواطنية للثقافات الاسلامية" ورقة عمل تحمل 89 اقتراحاً لجميع المرشحين للانتخابات الرئاسية طالبين منهم الرد على أبرزها، والتي تتعلق تحديداً برفع حيف التمييز الذي تتعرض له الكادرات التي تحاول دخول سوق العمل من الأعلى. ويلحظ الملتقى انه كلما نجح أو طمح فرنسي من أصل عربي في صعود درجات السلم الاجتماعي تضاعفت العقبات الموضوعة في طريق تقدمه، حتى ولو كان يحمل أهم الشهادات. وشكا الملتقى من سد أبواب الكليات الكبرى مثل: البوليتكنيك والعلوم السياسية والمدرسة الوطنية للإدارة والكليات الحربية أمام أبناء الجاليات المهاجرة المتفوقين علمياً. ويؤكد مسؤولو الملتقى، انه إذا لم يأخذ الرئيس المقبل لفرنسا في الاعتبار هذه المسائل فإننا سنعرف كيف نحصل على حقوقنا كمواطنين فرنسيين. فالعدد الكبير الذي كان غير منظم، سيصبح قريباً مؤطراً ونافذاً بحيث يفرض موقعه وينتزع حقوقه ويقوم بواجباته ضمن إطار المواطنية. لقد ضاعف المرشحون للرئاسة الفرنسية الخطوات التي يعتقدون بأنها تقربهم أكثر فأكثر من الناخب المتحدر من أصول عربية. فلم يتوان جاك شيراك، على سبيل المثال، من القيام بجولة شملت المغرب والجزائر وتونس. كما قام في الاسبوع الأول من هذا الشهر بزيارة لمسجد باريس، وانتقل الى مدينة مانت لاجولي المنطقة الحساسة في احدى ضواحي العاصمة. ويسحب هذا الحال نفسه على المرشح الآخر، جان بيار شوفنمان، الذي قام قبل ذلك بالجولة نفسها، بما فيها زيارة المسجد يوم عيد الأضحى المبارك. ويلاحظ كذلك ان غالبية المرشحين أحاطوا أنفسهم بمستشارين من أصول مغاربية، قاموا في الآونة الأخيرة بتكثيف مبادراتهم تجاه أبناء جلدتهم. وينطبق هذا الواقع على مولود ولد يحوي الأمين الوطني للاندماج في حزب "الاتحاد الديموقراطي الفرنسي" الذي يرأسه المرشح فرنسوا بايرو. ويؤكد ولد يحوي انه يجب عدم التخوف من اتخاذ القرارات المزعجة حتى ولو كان الثمن المركز السياسي. الحال نفسه بالنسبة الى فاطمة زلاغي، الأمينة للتجانس الوطني في "حزب التجمع من أجل الجمهورية" الديغولي بزعامة الرئيس شيراك. وتشير هذه الناشطة التي تحمل شهادتي دكتوراه وخبرة لدى شركة طومسون، الى أن هذا الأخير تبنى خمسة اقتراحات ميدانية رفعتها له وتتعلق جميعها بفتح الأبواب الموصدة أمام أبناء الضواحي الحساسة. وهنالك أيضاً سعدية عياطه، التي أصبحت اليوم نائبة عمدة الدائرة الثامنة عشرة في باريس ممثلة عن حزب الخضر. ولم يترك صعود المجموعات المتحدرة من أصول عربية الحزب الاشتراكي الفرنسي متفرجاً طوال السنوات الماضية. فعلى العكس من ذلك، لقد دفع بهذا الحزب للاستفادة من وجوده في السلطة ليتقرب منها ويفتح لها بعض الأبواب في محاولة لكسبها في معاركه المختلفة، الآتية والقادمة. وينبغي التذكير بأنه لم يكن ممكناً لهؤلاء الفرنسيين العرب أن يخترقوا جزءاً من الساحة السياسية لولا دعم وتسهيل من الاشتراكيين المعششين في كواليس الحكم. فللمرة الأولى، وتحديداً في العام 1989، برز هؤلاء الفرنسيون العرب كرهان انتخابي، اذ دخل نحو 70 في المئة من أصل 200 منتخب على لوائح اليسار في المجالس البلدية. مع ذلك، لا يخفي عدد كبير من هؤلاء خيبة أملهم من الاشتراكيين وممارساتهم. الأمر الذي دفع جوسبان رئيس الحكومة الاشتراكي - الذي استشف بسرعة تراجع شعبية الحزب لدى هذه الطبقات - الى الاعلان خلال لقاء انتخابي موسع في مدينة مرسيليا عن انه سيحرك حق الاقتراع للاجانب، أي آباء وأمهات الجيل المولود في فرنسا والحاصل على جنسيتها. كذلك تسريع المساعدات الأوروبية لتنمية دول جنوب المتوسط، أي عملياً المغاربية. لكن على رغم هذا التوجه وهذه الوعود، تشير التقارير التي أعدتها مؤسسات مختصة عشية الانتخابات الرئاسية الى الناخبين من أصل عربي الذين كانوا يقترعون عادة لليسار، بدأوا منذ فترة بإعادة النظر بذلك. ولقد بدا واضحاً، خلال الانتخابات البلدية الأخيرة التي نجح فيها عدد منهم على لوائح أحزاب اليمين المعارضة. ويحرص رموز التيار الشبابي المسيس على إفهام المرشحين للانتخابات وأركان حربهم بأن الفرنسيين من أصل عربي لديهم من الآن وصاعداً الخبرة الكافية بأنه في ظل نظام ديموقراطي، لا يكفي بأن يطلبوا لكي يحصلوا، لكن يتوجب عليهم اضافة لذلك، معرفة كيف يزنون الأمور ويحضرون للمستقبل. ولقد كان مضمون الرسائل التي وجهت بأشكال مخلتفة للمرشحين تلخص بالاشارة الى الوزن الانتخابي للفرنسيين من أصول عربية، مغاربية تحديداً، القول بأن من المصلحة العامة وليس فقط من مصلحة هؤلاء، ان تكون هنالك سياسة أكثر هجومية على الصعيد الاجتماعي ومكافحة التمييز العنصري. وأكد هؤلاء الرموز في رسائلهم الدور الذي يمكن أن تضطلع به هذه الشريحة إذا ما تم التعامل معها بشكل متساو وأكثر وضوحاً وفتح المجال أمامها لدخول الساحة السياسية. انها اقتراحات برسم الرئيس العتيد لفرنسا. فإما أن يدرك أبعاد الرسائل وإما العودة الى المربع الأول في ظل مناخات وتحولات ليس من السهل استيعابها من دون اندماج وطني