هيئة السياحة تطلق النسخة التجريبية من "سارة" المرشدة الذكية للسياحة السعودية    الإمارات.. رجل يقاضي زوجته بسبب «شيك»    المجمعة وحرمة تختتمان صالون أدب    "الأمم المتحدة" تؤكد ضرورة زيادة تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة    مدرب الأخضر يستبعد "سالم الدوسري"و"المالكي" قبل لقاء أستراليا وإندونيسيا    رابطة محترفات التنس: الأمريكية "جوف" تقصي المصنفة الأولى عالميًا    «ملتقى البناء السعودي» يكشف عن تقنيات الذكاء الاصطناعي في رفع الكفاءة وتقليل الهدر    إغلاق مؤشرات البورصة الأمريكية على ارتفاع    بيع شاهين ب 210 آلاف ريال في الليلة ال 18 لمزاد نادي الصقور السعودي    في دوري يلو .. الصفا يتغلب على أحد بثلاثية    "موسم الرياض" وهيئة السياحة يحتفلون في اطلاق"Pokémon GO"    أمين منطقة القصيم يفتتح معرض "أشلي هوم" في مدينة بريدة    أمانة القصيم تواصل أعمال تأهيل ثلاث حدائق بمدينة بريدة    عروض المناطيد المضيئة تتلألأ في سماء "شتاء جازان 25"    برعاية نائب أمير منطقة مكة المكرمة.. انطلاق مؤتمر طب العيون 2024    فان نيستلروي فخور بمسيرته كمدرب مؤقت مع يونايتد ويتمنى الاستمرار    النصر يتغلّب على الرياض بهدف في دوري روشن للمحترفين    المملكة تختتم مشاركتها في المنتدى الحضري العالمي wuf12 بالقاهرة    القبض على شخص بمنطقة الجوف لترويجه مادة الحشيش المخدر    مدرب الأخضر يضم محمد القحطاني ويستبعد سالم الدوسري وعبدالإله المالكي    المملكة تؤكد التزامها بالحفاظ على التراث الثقافي    حائل: القبض على شخص لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    بالاتفاق.. الهلال يستعيد الصدارة    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    لصوص الثواني !    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من "الجدار الفولاذي" إلى "الجدار الدفاعي" جابوتنسكي يخرج من قبره لقيادة حروب "مملكة داوود" التاريخية
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 2002

الصراع الراهن في فلسطين قسم المحللين الاستراتيجيين، الغربيين كما الشرقيين، الى معسكرين متنافرين، من حيث الرؤية التاريخية على الاقل.
فبعضهم يرى الى الحرب التي تجري الآن بين الفلسطينيين والاسرائيليين، على انها تشبه الى حد بعيد قسمات حرب 1948، حيث التنافس كان على أشده حول طبيعة الدولة اليهودية التي أقرت الامم المتحدة اقامتها وفق قرار التقسيم العام 1947.
كل ما هنالك، يضيف أنصار هذا المعسكر، ان التنافس يتركز هذه المرة على طبيعة الدولة الفلسطينية وحدودها، لا على الدولة اليهودية. وهذه مسألة يعترف بها حتى ارييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي، الذي أعلن في خضم المواجهات الدموية الأخيرة انه هو الآخر يؤيد قيام دولة فلسطينية، لكن وفق شروطه بالطبع التي تتضمن مصادرة نصف أراضي الضفة الغربية وتحويل النصف الباقي، جنبا الى جنب مع غزة، الى بانتوستات مجردة من السلاح ومطوقة بالمستوطنات والجيش الاسرائيلي.
أما المدرسة الثانية فتذهب الى أبعد من ذلك. وهي ترى أن الصراع دخل في ثقب أسود عاد فيه الزمن لا الى اربعينات القرن العشرين بل الى عشرينات ذلك القرن، حين كان المشروع الصهيوني ما زال في طور البلورة على الصعيدين المحلي والدولي، وحين أرتدى الصراع حلة حروب الاستنزاف بين العرب واليهود.
ويقول أصحاب هذه المدرسة إن التطورات السياسية - الايديولوجية في الداخل الاسرائيلي، تعزز الى حد بعيد وجهة نظرهم. فالفروقات بين اليمين واليسار تبخرت بشكل مذهل. والعلمانيون والدينيون اعادوا مجدداً اكتشاف طبيعتهم اليهودية الواحدة. والفكرة الصهيونية نفسها استعادت الكثير من زخمها المتعلق أساسا بمسألة الارض وبالشعار الصهيوني الجديد "أرض بلا شعب".
أي المدرستين أقرب إلى الصحة؟
أي أزمة؟
إن تطورات الأزمة خلال السنتين الماضيتين تجعل كفة الميزان تميل بوضوح إلى المعسكر الثاني. كيف ذلك؟
قبل محاولة الاجابة على هذا السؤال، فلنتوقف قليلاً أولاً عند المضامين الحقيقية لمعنى تعبير "الأزمة" في نطاق الصراع الراهن في فلسطين.
يرى الباحث الإسرائيلي عساف موغادام أن تعبير "أزمة" Crisis مشتق من اللغة الاغريقية. وهو صك أساساً ليعني "تلك المرحلة في سياق مرض خطير، حين يظهر التغيير الحاسم الذي يؤدي اما الى الشفاء أو الى الموت".
أما الأزمات السياسية فهي "تلك التهديدات لجوهر المصالح وأحياناً لجوهر القيم، التي يمكن أن تكون ايضاً نقطة تحّول في النزاعات الدولية".
وهكذا فإن الأزمة هي نقطة تحول بين السلام والحرب. إنها نوع من مخلوق هجين: فلا هي سلام، ولا هي حرب، لكنها تتضمن عناصر من هذين الاخيرين. كما تتضمن احتمال الانتقال من السلام الى الحرب، جنباً إلى جنب مع عامل المفاجأة. وهي تجبر صانعي القرار على العمل تحت ضغط الوقت والحالات الطارئة.
ومما يعقد الأمور أكثر أن الازمات تتضمن عناصر عاطفية عالية، غالبا ما تشمل الغضب والخوف، وقد تقود الى الابتعاد عن العقلانية وتقلص فرص المحصلات غير العنفية.
ويقول الباحث الكسندر جورج بأن "التناقض الأساسي" لإدارة الأزمات، هي ان المواجهات بين الأطراف يمكن تجنبها اذا ما كان أي جانب مستعدا للانسحاب من النزاع وقبول الاضرار اللاحقة بمصالحه. لكن معضلة ادارة الأزمات هي انه "حالما تبدأ الأزمة، يشعر كل جانب بأنه مجبر على ان يفعل ما يمكنه لحماية مصالحه او تعزيزها".
وحددت إسرائيل لنفسها ثلاثة اهداف استراتيجية: وضع حد للعنف أي وقف الانتفاضة، منع التصعيد المؤدي الى حرب اقليمية، والحد من "تدويل" الصراع. ولتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية، تبنت اسرائيل عدداً من الوسائل التكتيكية الهادفة الى تقليص الخسائر الاسرائيلية، وإلى حرمان الفلسطينيين من تحقيق النصر في بلاط الرأي العام العالمي.
انتفاضة الاقصى تتضمن كلا من مميزات الأزمة التقليدية والأزمة الحديثة، لأنها أساساً تتضمن ثلاث سمات تميز هذا "النوع الجديد" من الأزمات:
الأولى، أن الازمة تستند في جوهرها الى وجود لاعب "دولتي" اسرائيل داخل في نزاع مع لاعب غير "دولتي" السلطة الفلسطينية، على رغم ان هذه الأخيرة قد تتحول الى لاعب "دولتي" في المستقبل غير البعيد.
والثانية، ان الأزمة لديها أدوار اساسية يلعبها العديد من اللاعبين الثانويين من كلا الجانبين، مثل حركة "التنظيم"، والمستوطنين اليهود، والعرب الاسرائيليين، والمجموعات المسلحة الفلسطينية. ومن جهة اخرى، يحاول لاعب آخر هو "حزب الله" اللبناني تصعيد الموقف على الجبهة الشمالية..
والثالثة، هي ان الأزمة أبرزت الدور المهم الذي يمكن ان يلعبه الإعلام الدولي في مثل هذه الأزمات. وعلى رغم ان هذه ليست ظاهرة جديدة، إلا أن ما هو مستجد في هذه الأزمة هي ان العلاقات العامة أصبحت جزءاً عضوياً من المعارك اليومية. وهذا المنحى سيستمر وسيصبح أكثر أهمية في المستقبل.
والآن، إذا طبقنا هذه المعايير على الأزمة الراهنة، سنخرج بالخلاصات الآتية:
نجحت اسرائيل جزئياً بالحد من تدويل الصراع، فلم تستطع لا الدول العربية ولا الامم المتحدة التدخل حتى الآن إلا في اطار القرارات والبيانات. وعلى رغم ان القوى العربية المعتدلة، مثل الرئيس حسني مبارك، نجحت في مقاومة ضغوط "الشارع العربي" لقطع العلاقات كلياً مع اسرائيل، إلا أن هذا ليس مضموناً على المدى الطويل. كما ليس مضموناً أيضاً عدم تحول الأزمة الى حرب شاملة انطلاقا من الجبهة الشمالية حيث "حزب الله" وسورية.
استراتيجيتا اسرائيل لإدارة الأزمة، وهما ديبلوماسية الاكراه والتصعيد المحدود، فشلتا في تحقيق أهدافهما الاساسية، وهي اقناع الفلسطينيين بوقف العنف.
حتى الآن، لم تكن الأهداف التي وضعتها اسرائيل لنفسها في إطار الازمة قد حققت أياً من اهدافها.
تبخر الخلافات
هذه المعطيات تعزّز وجهة نظر المعسكر الثاني التي تقول إن الأزمة الراهنة تقترب من كونها امتداداً لصراعات عشرينات القرن العشرين، وليس لحرب 1948. او هذا على الاقل ما تشير اليه كل سلوكيات المجتمعين السياسي والمدني في اسرائيل.
فحكومة الوحدة الوطنية الاسرائيلية، التي تمكنت من الصمود طيلة سنة كاملة على رغم الاختلافات الايديولوجية العميقة في صفوفها، كشفت بشطحة قلم واحدة مدى هشاشة التمييزات التقليدية بين اليمين واليسار الاسرائيليين. وهذه حقيقة لن تتغير حتى لو انسحب حزب العمل من حكومة شارون قريباً كما هو متوقع الآن. إذ أن هذا الحزب اليساري أثبت عبر مشاركته في الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين، انه لا يختلف كثيراً عن حزب الليكود اليميني في تفسيراته لاتفاقات اوسلو. فهو لم يقبل في الواقع امكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة، بل اراد فقط "سلاماً" يمنح الفلسطينيين استقلالاً محدوداً في اطار سيطرة اسرائيلية شامل.
وهكذا فإن الملايين الثلاثة من الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، يشكلون العقبة الأساسية التي تمنع اسرائيل من هدف مواصلة السيطرة، خصوصاً أن هذه الأخيرة لا تستطيع أن تدمجهم كمواطنين، ولا أن تحكمهم الى ما لا نهاية في ظل نظام تمييز عنصري قمعي.
ويقول هنا جيف هالبر، بروفسور علم الانسان في جامعة بن غوريون، ان اتفاقات اوسلو التي توّجت بقمة كامب ديفيد في تموز يوليو العام 2000 وباجتماعات طابا في كانون الثاني يناير 2001، قدمت شكلاً من الاحتلال من خلال القبول. لكن حين لم تستطع سياسات الاحتلال المتعلقة بالاستيطان والاغلاق والسيطرة العسكرية كسر المقاومة الفلسطينية وأدت بدلا من ذلك الى انتفاضة ثانية، قرر "اجماع" اليسار - الوسط- اليمين المعتدل اللجوء الى ممارسة القوة بشكل أكثر مباشرة.
ويضيف ان حكومة الوحدة الوطنية الشارونية تعني رص الصفوف حول فكرة الرفض الصهيوني والاسرائيلي لقبول امكان اقتسام الأرض بشكل حقيقي مع الفلسطينيين، سواء في دولة واحدة او اثنتين. ودور حكومة شارون هو ان تستولد نوعاً من اليأس في صفوف الفلسطينيين قد يغريهم بالاستسلام. كما انها ستجهد لضرب آمال الفلسطينيين بقيام دولة ذات سيادة وقابلة للحياة، ولالحاق الهزيمة بهم مرة واحدة وإلى الأبد.
وفي هذا السياق، تشكل "الوحدة الوطنية" جزءاً من سوابق تاريخية مهمة.
ما هي هذه السوابق؟
في مقال شهير نشر العام 1935 بعنوان "الجدار الفولاذي"، طوّر زئيف جابوتنسكي الأب الروحي لشارون وشامير وبيغن مبدأ أساسياً من مبادئ المؤسسة الصهيونية: الصهيونية يجب ان تجهد لإقامة دولة يهودية في كل أرض فلسطين، بغض النظر عن رد الفعل العربي.
وأدرك جابوتنسكي أن الفلسطينيين كانوا مجموعة وطنية لها تطلعات وطنية، لكنه لم يكن مستعداً لمنحهم أي نوع من الحكم الذاتي في إطار دولة يهودية تبسط سيطرتها على كل الاراضي. وهو عرف تماماً انه ليس بمقدوره تحقيق أهدافه من دون مقاومة.
كتب يقول: "كل المحليين سيقاومون المستوطنين الأجانب طالما انهم لا يرون أي أمل بتخليص أنفسهم من خطر الاستيطان الاجنبي. هكذا سيتصرف العرب وسيواصلون التصرف، طالما أنهم يملكون بصيص امل بأنهم قادرون على منع "فلسطين" من ان تصبح أرض اسرائيل".
وبالنسبة إلى جابوتنسكي، الحيلة هي في اطفاء "شعاع الأمل" هذا. ووفقاً لمبدئه حول "الجدار الفولاذي"، سيقبل الفلسطينيون بحقوق مدنية ووطنية محدودة فقط حين يتم كسر مقاومتهم. كتب يقول: "الطريقة الوحيدة للتوصل الى اتفاق تكمن في الجدار الفولاذي. أي تأسيس قوة في فلسطين لن تتأثر بأي حال بالضغط العربي. ان الاتفاقية الاختيارية لا يمكن تحقيقها. ونحن إما ان نجمد جهودنا الاستيطانية او أن نواصلها من دون الالتفات الى مزاج المحليين أي الفلسطينيين. وهكذا يمكن تطوير الاستيطان بحماية قوة لا تكون معتمدة على السكان المحليين، وراء جدار فولاذي سيكون المحليون عاجزين عن تحطيمه".
وعلى رغم ان جابوتنسكي يدمغ دوماً بأنه شخصية متطرفة، إلا أن المؤرخ الاسرائيلي أفي شلايم يقول إن مبدأ "الجدار الفولاذي" "أصبح أساسياً في ما يتعلق بمقاربة اسرائيل للفلسطينيين".
ففي خطاب له امام الوكالة اليهودية التنفيذية بعد اندلاع الثورة العربية العام 1936، قال بن غوريون، أول رئيس لوزراء اسرائيل وأب حزب العمل الحديث: "من دون شك، الاتفاقية الشاملة غير واردة الآن. وفقط بعد اليأس الشامل من جانب العرب، اليأس الذي لن يأتي إلا من خلال فشل الاضطرابات ومحاولة التمرد، وايضاً كنتيجة لنمونا في البلاد، يمكن للعرب ان يقبلوا بأرض اسرائيل اليهودية".
إن بن غوريون لم يوافق فقط على آراء جابوتنسكي، بل جادل أيضاً بأن السلام لن يكون مرغوباً فيه إلا إذا خدم جدول الاعمال الصهيوني. قال: "اننا لا نحتاج الى اتفاق في سبيل اقامة السلام في البلاد. فالسلام بالنسبة لنا وسيلة. أما الغاية فهي التحقيق الكامل للصهيونية. فقط عندها سنحتاج الى اتفاق".
تحالف "الجدار الفولاذي"
وتشير أبحاث شلايم التاريخية الى ان الالتزام بمقاربة "الجدار الفولاذي" هي الطريقة الأفضل لتصنيف الشخصيات السياسية الاسرائيلية. وهي بالتأكيد أفضل من معيار دعم اتفاقات أوسلو أو معارضتها. ويضم تحليل شلايم ما يمكن ان نسميه "عماليي بن غوريون" بما في ذلك شمعون بيريز الذين دعموا الاشتراك في حكومة شارون، والليكوديين المتحدرين مباشرة من جابوتنسكي ومراجعي مناحم بيغن. وما يوحّد بين هؤلاء هو قبولهم المشترك بمقاربة "الجدار الفولاذي" في التعاطي مع العالم العربي، ومع الفلسطينيين على وجه التحديد.
وعلى الجهة الأخرى من الجدار الفولاذي، يقف "الحمائم" المعتدلون من كل من حزبي العمل وميريتس، واليسار اليهودي الأكثر راديكالية والمواطنون الفلسطينيون في إسرائيل. اما شمعون بيريز واسحق شامير فقد وصفا بأنهما "يونيتس". وهو تعبير غامض يدمج بين تعبيري "الحمامة" و"الصقر".
ويقول البروفسور هالبر إن كتلة شارون - بيريز - بن اليعيزر تعتقد بأنه من الممكن بناء "الجدار الفولاذي" الجابوتنسكي. ومثل هذه القراءة للخريطة السياسية تقودهم، كما الأمر العام 1993، الى المحصلة بأن الفلسطينيين قد هزموا. فإسرائيل تتمتع بدعم اجماعي تقريباً من جانب الكونغرس والاعلام الاميركي، وكذا من جانب ادارة بوش. والدعم الاميركي يجعل الاحتجاجات الدورية من الأطراف الدولية الاخرى، بما في ذلك الامم المتحدة والاتحاد الأوروبي، غير ذات شأن. وحاجة الدول العربية والاسلامية الى الولايات المتحدة وأوروبا، اضافة الى المصالح المهمة المشتركة مع اسرائيل، تقود عمليا الى محوهم من الخارطة.
وهكذا فإن اسرائيل تعيش في فقاعة محمية بالمطلق.
ويعتبر تحالف "الوحدة الوطنية" ان السلطة الفلسطينية فقدت ثقة شعبها بها وباتت على شفير الانهيار. وكما حدث في العام 1993، لن تكون السلطة الوطنية مفيدة إلا إذا ما قررت أخيراً "تسوية" أمورها مع اسرائيل. وحتى الآن، يظل الشارع الفلسطيني هو القوة الفعالة الوحيدة لاحباط مقاربة الجدار الفولاذي. ولذا فهو يقمع بلا رحمة.
بما ان جابوتنسكي "خرج من قبره" ليقود حروب "مملكة داوود" الجديدة، وبما ان سيطرة اسرائيل على الاراضي المحتلة هي عمليا القضية الوحيدة التي يمكن ان تستند اليها "الوحدة الوطنية"، ليس من المفاجئ، الا يكون لحكومة شارون أي برنامج سياسي عدا العمل على حمل الفلسطينيين على الاستسلام.
وكما يقول المعلق الاسرائيلي دون روبنشتاين: "لم يكن لدينا أبداً حكومة لأسباب متشائمة كما مع هذه الحكومة. فجدول اعمالها مخفي تماماً وغير معروف. إنها لا تقدم أية وعود غير استعادة الأمن".
هناك خلاصتان لكل هذا الذي يجري. الأولى كما يقول هالبر هي ان غالبية الاحزاب في الكنيست ملتزمة بمقاربة "الجدار الفولاذي"، الأمر الذي سيجعل تصعيد القمع ضد الفلسطينيين الأمر الأكثر احتمالاً. والخلاصة الثانية هي انه حتى لو كان لحزب العمل خطة تتجاوز الجدار الفولاذي، فإنه على الأرجح لن يتمكن من تشكيل حكومة تستطيع أن تضع هذه السياسة موضع التطبيق. ولذا سنرى على الاغلب حكومات وحدة وطنية عدة في اسرائيل سواء رسمياً أو كأمر واقع لفترة من الزمن. اما السلام العادل والشامل فهو لن يولد من داخل اسرائيل. وحده الضغط الدولي يمكن أن ينقذ الفلسطينيين من ان يسحقوا تحت ضغط الجدار الفولاذي.
الآن، وإذا ما كان الاسرائيليون يتصرفون على أساس ان الصراع الراهن هو امتداد لصراع عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، فماذا عن الفلسطينين؟
إنهم يفعلون في الواقع الشيء نفسه، ولكن مع إضافات بالغة الأهمية.
فالانتفاضة الفلسطينية الراهنة لا تشبه إلا قليلاً انتفاضة 1987-1993 التي انتهت بتوقيع اتفاقات أوسلو. وكل طلقة رصاص عبر معبر نيزاريم، هي مسمار آخر يدق في نعش هذه الاتفاقات. والمعركة ضد الاحتلال الاسرائيلي تتحول شيئاً فشيئاً الى ما يشبه النزاع الاهلي الذي قد يدوم أشهراً وربما سنوات. إضافة إلى أن الانتفاضة الجديدة تحدث تموجات في كل انحاء الشرق الأوسط، وتهز الأنظمة العربية غير الفعّالة. كما انها تشجع أنظمة متصلبة مثل النظام العراقي وتضعف سلطة ياسر عرفات. والاهم من هذا وذاك انها تدق النواقيس في وجه اسرائيل التي سيكون عليها قريباً أن تختار بين الاقامة السريعة لدولة فلسطينية ذات سيادة تشمل بطريقة ما القدس الشرقية، وبين استمرار نزاع طويل ومستنزف .
الجزأرة
ويشير هنا الكاتب الاميركي كريس ريكوننغ "فورين أفيرز" كانون الثاني/ يناير 2001 إلى ان الضفة الغربية وغزة تحولّت الى النسخة الشرق أوسطية من بلدات جنوب افريقيا خلال النظام العنصري. فالفلسطينيون يتعرضون الى كل المظالم التي تعرض اليها السود هناك: نقص التمثيل الانتخابي، التبعية لإسرائيل في العمل ورخص السفر، حظر التجول، مصادرة الاراضي، الاعتقالات التعسفية، والتهميش الاقتصادي.
ويضيف ان إسرائيل تهدد الآن بفرض "الانفصال من جانب واحد" في الأراض المحتلة. أي تسوير "البانتوستات" الفلسطينية وضم المستوطنات الاسرائيلية في الضفة. وفي مثل هذا السيناريو، أفضل ما يمكن لاسرائيل أن تأمله هو هدنة ما حالما يستسلم الفلسطينيون. واذا ما فشل هذا التكتيك في تركيع الفلسطينيين، فسيكون على اسرائيل اللجوء الى نوع من النشاط العسكري الهجومي الذي يحبذه العديد من القادة العسكريين الاسرائيليين.
لكن بالنسبة إلى الفلسطينيين، لم تعد عملية السلام تقدم استقلالاً أكبر عن إسرائيل، وهي لن تفعل ذلك الى ان ترحل المستوطنات اليهودية. كما ان الفلسطينيين يعتبرون ان الاحتلال الاسرائيلي لن ينته الى ان يستطيعوا السيطرة على طرقاتهم، وحدودهم واقتصادهم. فالسلام القابل للاستمرار يتطلب السيادة على القدس الشرقية والمسجد الأقصى الذي كان في حوزة العرب منذ القرن السابع وحتى العام 1967. ومن شأن تسوية مقبولة ان تقدم اما اتفاقية لعودة اللاجئين الفلسطينيين او التعويض عن الممتلكات والمنازل التي تركوها وراءهم.
وما لم تظهر هذه التغييرات، فسيواصل الفلسطينيون القتال، خصوصاً بعد فشل اتفاقات اوسلو.
ويشّدد ريكوننغ على ان صعود درجات التصعيد نحو حرب استنزاف، لن يكون أمراً خطراً بالنسبة إلى إسرائيل، بل أيضاً للولايات المتحدة. فالعالم الاسلامي نحو 20 في المئة من سكان العالم لن تكون لديه مشكلة في اقامة خلايا عسكرية لمضايقة المصالح الاميركية ومهاجمتها، إذا ما اعتبر ان الولايات المتحدة منحازة كثيراً إلى إسرائيل.
إن الموقف الفلسطيني تصلب الآن، مما يضعف الفرص للعودة الى اتفاقات اوسلو. والقادة الفلسطينيون يتحدثون الآن فقط عن قرار مجلس الامن الرقم 242 الذي يدعو الى انسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلتها العام 1967.
ويقول مروان البرغوثي، أحد زعماء "فتح" في الضفة الغربية، ان "هذه الانتفاضة غيّرت أساس المفاوضات. إننا لن نعود الى طاولة محادثات نكون فيها رهائن لدى الاسرائيليين والاميركيين. هدف الانتفاضة واضح: عودة اللاجئين، انهاء الاحتلال، ونيل الاستقلال والسيادة الفلسطينية على القدس".
إن اسرائيل بدلاً من أن تهزم الفلسطينيين، تهزم بالتدريج نفسها. والاحلام الصهيونية انقلبت الى احتلال يجد الاسرائيليون من الصعب عليهم التخلص منه. وعلى عكس حربي 1967 و1973، تقاتل اسرائيل اليوم ليس ضد جيوش، بل ضد عدو هو الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
وهنا يمكن عقد المقارنة مع حرب الاستقلال الجزائرية في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. فالفرنسيون قاتلوا بشراسة ووحشية في الجزائر. وهم ربحوا عسكرياً، لكنهم في النهاية خسروا سياسياً. والتكاليف السياسية والعاطفية والمالية بالنسبة إلى فرنسا كانت باهظة.
والمقاومة الفلسطينية القوية تفاجئ الاسرائيليين الآن. ومع تصاعد الاشتباكات بين الانتفاضة وبين القوات الاسرائيلية وتزايد عدد الضحايا الفلسطينيين، لا يستبعد ان يلجأ المليون عربي في اسرائيل والذين لم يخدموا في الجيش الاسرائيلي ويشعرون بأنهم غرباء على أرضهم، الى تفجير العنف في داخل اسرائيل.
ما يحدث الآن في فلسطين هو خطوة اولى، مجرد خطوة اولى، على طريق "جزأرة" هذا الصراع.
ولذا، وعلى رغم ان النزاع الراهن يشبه الى حد كبير نزاعات العشرينات، إلا أن هذا يحدث في ما يتعلق بمنطلقات الصراع فقط. ببداياته. اما نهاياته، فإنها لن تتوج بالضرورة بما حدث العام 1948، بل بما تم توقيعه في إيفيان، حين اعترفت فرنسا بالاستقلال الكامل للجزائر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.