ضمن اطار المعركة التي خاضها للحفاظ على كوكب الأرض، وجعله محبوباً اكثر وأكثر من ابنائه، انطلق البحار بيتر بلاك اواخر العام 2001 في المرحلة الثانية من حملته التي اطلق عليها اسم "بلاكسبيدشن"، في حوض نهر الأمازون. وغطى المصور فرانك سوت تلك المغامرة التي خاضها البحار الشهير، في مناطق الاحتكاك مع الهنود، ولكن ايضاً مع النباتات والحيوانات الاستثنائية، وذلك قبل ايام من اغتيال بلاك. "ماء جيد حياة جيدة. ماء بائس، حياة بائسة. لا ماء، لا حياة". ذلك كان الشعار الذي رفعه بيتر بلاك بعدما تجول في بحار الأرض كافة، وفي كل الاتجاهات، وبعدما ربح سباقات الزوارق الشراعية كلها، من مسابقة "وايت بريد" - الخبز الأبيض وهي عبارة عن جولة حول العالم يخوضها فريق الى مسابقة "كأس اميركا" مروراً بجائزة "جول فيرن" جولة حول العالم من دون تحديد تتم خلال اقل من 80 يوماً. فهو بعد ذلك كله قرر ان يعود الى واحدة من امنياته القديمة: العمل في سبيل حماية المياه. منذ العام 1994، كان القومندان كوستو قد اختار بيتر بلاك لخلافته، لكن بيتر كان في ذلك الوقت منهمكاً في مسابقة كأس اميركا التي فاز بها، ومن بعيد، لدى الأميركيين في العام 1995، لذلك لم يرغب في ان يخوض أي مشروع آخر قبل ان يدافع عن تلك الجائزة في وطنه في العام 2000. ولكن كوستو لسوء الحظ، توفي قبل ايام من موعدهما الأول، وخلافة بيتر له لم تعد مؤكدة. عند ذاك راح بلاك يبحث عن مركب قادر على مساعدته في تحقيق البرنامج الذي حدده لنفسه. وهو عثر على المركب في العام 1997، حين باع جان - لوي اتيان مركبه "انتتاركتيكا" وحين حصل بلاك على المركب، اطلق عليه اسم "سيد البحار" سي ماستر. والمركب عبارة عن كاسحة جليد قطبية شراعية يبلغ طولها 36 متراً، ومصمم بشكل يسمح له بالتوغل في المناطق الأكثر عزلة. كان المركب عبارة عن 180 طناً من المعدن جاهزة لتحدي بحار العالم كلها. كانت الشروط مجتمعة ليبدأ بلاك حملته، وهكذا بعد حملة اولى في اعماق الجنوب، ما بعد درجة العرض 39، وفي مناطق لم ترسم خرائطها بعد، وبمعاونة فريق ضئيل العدد، كانت هناك حملة "الأمازون" التي اتاحت ل"سيد البحار" ان يستعرض كل ما لديه من قوة وإمكانات، ومن اجل تلك الحملة تم يومها جمع 18 بحاراً من بضع جنسيات. وتتالت الحملات: المحيط المتجمد الجنوبي، الأمازون، ممر الشمال الغربي، حاجز المرجان الكبير ثم المحيط الجنوبي مرة اخرى. وكان هذا برنامج "حملة بلاك" الأولى خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وفي كل مرة كانت الأمنية بسيطة: مجرد ملاحظة حال كوكبنا وجسّ نبضه. من دون دروس ومن دون صراعات عنيفة. فقط توعية الناس بأن كوكبنا يموت حقاً، وبأن القوة لا تفيد من اجل تغيير هذا الواقع. كان بلاك يحب ان يقول: "ان المرء يهتم، على الدوام، اكثر بما يحب، لذلك علينا ان نجعل الناس يحبون هذا الكوكب". وكان يتمنى أيضاً ان يتوجه الى الأطفال، لأنهم هم الذين يملكون قوة التغيير. من هنا، بعدما انجز الحملة في المحيط المتجمد الجنوبي، عند مطلع 2001، بدأ حملة نحو الأمازون والأورينوك. بالنسبة الى حملة الأمازون لم يكن لبلاك اية طموحات زائدة عن الحد، لأنه اذا كانت المحيطات ما عادت تملك أية أسرار، فإن الأنهار، ومهما كانت ضخمة، لم تكن لتكف عن طرح اسئلتها عليه، بنزواتها وغموضها. لذلك كان يريد ان يعرض امام العالم اماكن بسيطة الجمال، ومليئة بالحياة الضارية، لكي يدرك كل انسان ثراء كوكبنا، بأبسط ما يمكن من الطرق. وهنا ايضاً ليس في الأمر خطابات فخمة. ولا دروس. فقط ملاحظات ودهشة، والتأكيد ايضاً ان كل انسان في إمكانه ان يستشعر جمال بيئتنا وأحوالها. كان على تلك الحملة ان تتواصل عبر حملة في زورق نهري صغير تعبر نهر كازيكيير، حين لا يعود "سيد البحار" قادراً على التوغل اكثر "وهذا الأخير كان عليه ان يأتي ليلتقطنا عند نهر اورينوك، بالنظر الى أن من خصائص الكازيكيير ان يربط بين ريو نيغرو وأورينوك. ونحن، اذ انطلقنا من بيليم، صعدنا نهر الأمازون، ثم ريد نيغرو. مخرنا نهر الكازيكيير طوال ثلاثة اسابيع قبل وفاة بلاك المأسوية، وكانت تلك الأسابيع مركز الثقل في حملتنا، سواء أكان ذلك من وجهة نظر رصدنا لحياة الحيوانات، أو لحياة الجماعات السكانية هناك، اضافة الى اوضاعنا المعيشية بالقرب من تلك الأمكنة" يقول اهل الرحلة قبل ان يفسروا، في النص التالي، وقائعها وأحوال المنطقة. قناة كازيكيير يقع نهر الكازيكيير عند الحدود بين فنزويلا وكولومبيا داخل منطقة الأمازون، ومن خصائصه انه يشكل القناة الطبيعية الوحيدة في العالم. وهو يربط بين نهر ريو نيغرو الذي يسمى أيضاً "روح الأمازون" وهذا النهر الأخير هو اقدم أنهار الدائرة الأمازونية، ويعود اسمه الى كون مياهه تبدو سوداء اللون بفعل "التلاقح" بين نباتات الأدغال المجاورة. والكازيكيير، إذاً، يربط بين ريو نيغرو ونهر الأورينوك، وهو النهر الرئيس في فنزويلا. إن قناة الكازيكيير، التي اكتشفهاالمرسلون اليسوعيون في العام 1744، ودرسها العالم الألماني الكسندر فون هومبولد عند بداية القرن التاسع عشر، هي النهر الوحيد في العالم الذي يملك مصبين ولا منبع له. ولقد رأى فون هومبولد ان طوله يبلغ 322 كلم، غير ان اجهزة القياس المعاصرة تتحدث عن 354 كلم، في مقابل عرض لا يزيد عن 400 متر، ومن هنا فإن أول سؤال يخطر في البال هو: "في اي اتجاه يسير هذا النهر؟" من الأورينوك الى ريو نيغرو أو بالعكس؟ لقد اعطى الكسندر فون هومبولد تفسيراً، من المؤسف انه لم يوفق فيه، مع انه لا يزال معتمداً في ايامنا هذه، وفحواه ان اتجاه مجرى النهر يتبدل تبعاً لتغير مواسم الأمطار في حوضي الأورينوك من ايار - مايو - الى تشرين الثاني - نوفمبر وفي ريو نيغرو بين تشرين الثاني - نوفمبر - وشباط - فبراير. ويكون معنى هذا انه النهر الوحيد في العالم الذي يملك اتجاهين. بيد ان الرصد البصري الذي يقوم به أدلاؤنا المحليون الذين يزرعون منطقة القناة طوال العام، وكذلك الأقيسة الطوبوغرافية الحديثة، تكذب هذا التأكيد، مبرهنة ان الكازيكيير يسير من الأورينوك الى ريو نيغرو فقط. وهو بهذا يستحوذ على ثلث مياه نهر الأورينوك عند نقطة الاتصال ليرميها في ريو نيغرو. والقياسات الحديثة تنحو ايضاً الى البرهنة على ان هذه الظاهرة تتنامى، بحيث ان مياه الأورينوك، على المدى البعيد، ستصب في ريوغراندي. بمعنى ان "روح الأمازون" تنمو اكثر وأكثر يوماً بعد يوم. اما في الوقت الحاضر فإن الكازيكيير يعتبر نهراً بالمعنى الحرفي للكلمة. وأول ما يمكن ملاحظته فيما يخصه، ان حموضة مياهه البالغة 5،3 حموضة الخل تبلغ 4 درجات والتي تجعل من المستحيل تقريباً نمو البعوض وغيرها من الحشرات غير المرغوبة، في محيطه، لا أثر فعالاً لها هنا، حيث يتوجب علينا ان نناضل يومياً ضد غزو الذباب والبعوض والناموس والذباب الأسود المسمى بوري بوري، والذي، على رغم ان طول الذبابة منه لا يزيد عن 2 الى 3 ملم، يبقي بقعاً من الدم فوق اي موضع من الجسم يبقى مكشوفاً علماً بأن المواد المضادة للبعوض، ومهما كانت قوية، ليس لها اي تأثير على "آكلات البشر" هذه. في الكتابات التي تركها، يتحدث فون هومبولد عن "عضات الحشرات السيئة" التي تضاف الى واقع اننا هنا على مبعدة لا تزيد عن 300 كلم عن خط الاستواء حيث معدل درجة الحرارة 38، ورطوبة النهر تصل الى 95 في المئة. في مثل هذه الوضعية ندرك بكل سهولة لماذا لا يوجد سكان حول هذا النهر، حيث لا يعيش اكثر من 20 جماعة تتوزع على ضفتيه، كلها ذات اصول هندية وتنتمي اساساً الى قبائل كوريباكو ويانومامي وباري. اما العدد الإجمالي للسكان فلا يزيد عن 600 نسمة، اما الجماعة الأكبر فهي طائفة كورموتو، المنتمية الى جماعة يانومامي، ويبلغ تعداد افرادها 120 نسمة تقريباً. اما الطوائف الأخرى فتجتمع، عموماً، في عائلتين أو ثلاث تمثل كل منهما عشرين شخصاً. وتعتمد في عيشها على الصيد والقنص اساساً، وقطاف نبات المانيوك. اضافة الى مساعدات تأتيها من الدولة. من هنا فإن حظها الأكبر، في العيش، يكمن في قدرتها على الاعتماد على الطبيعة الغنية التي تزودها بأنواع ممتازة من سمك القط التي تزن الواحدة منها عشرة كيلوغرامات، والبط البري الذي يسمى هوكيرا، اضافة الى أنواع من الفواكه البرية طيبة المذاق مثل الماناكا التي يصنع منها عصير منعش، والميري التي تؤكل ثمرتها، وتحفظ نواتها لكي تحمّص ويصنع منها جوز الكاجو، وجوز الهند، والأناناس الأصلي الذي ينم شكله عن انه لم يقطع لكي يُدخل قصراً في العلب. خارج اطار هذه الثمار، يكاد يكون من المستحيل الاعتماد على الأدغال التي هي من الكثافة بحيث لا تترك للسكان امكان زراعة اكثر من بضعة دونمات، تزرع تبغاً أو نبات المانيوك، في ارض تسوّى يدوياً، ومن المؤكد انها ستعود للانضمام الى الغابات الصعبة خلال سنوات قليلة. من هنا لا يبدو ان يكون بعض روافد النهر، مثل رافد السيابا، قد ظل عصياً على الاستكشاف حتى نهاية القرن العشرين، وأن هذه المنطقة تبقى فردوساً حقيقياً بالنسبة الى الحيوانات والنباتات، بما في ذلك الفراشات التي تترعرع بعشرات الألوف، والببغاءات من شتى الأجناس، وأسماك المياه العذبة والدلافين الوردية أو حيوان الكايمان، من دون ان ننسى الحيوانات الضخمة كالفهود أو البوما، التي على رغم ندرتها والقوانين التي تحميها تقتل بالعشرات من قبل السكان المحليين الذين يمثل بيعها بالنسبة إليهم مصدر عيش. إذ من المعروف ان جلد الجاغوار يباع بأقل من 500 دولار، ما يمثل مدخول اشهر عدة بالنسبة الى واحدة من عائلات هذا المكان. وهو الجلد نفسه الذي يعاد بيعه بألف دولار في كاراكس، ليصل في السوق الأوروبية أو الأميركية الى ما يقارب 3 آلاف دولار.