لأشهر بقي المراقبون يتوقعون تدهوراً ما في وضع الارجنتين. لكن ما ان انفجرت المشكلة قبيل نهاية السنة الماضي، حتى فوجئ الجميع. لماذا؟ بسبب الاجماع على ان عصر الخضّات والملاحم الكبرى قد انتهى!؟ مع هذا يبدو ان ما تشهده الارجنتين ىبقى جزءاً لا يتجزأ من سياق اميركي لاتيني أعرض. فمنذ سنوات قليلة والحركة المناهضة للعولمة، في جنوب القارة، تقوى ويشتد عودها. والحال ان المنطقة كلها تلوح أحياناً كأنها على شفير انفجار كبير. فالقوى التي ترفض أرثوذكسية السوق الحرة وأصوليتها منتشرة في كل مكان، وما من مكان يبدو فيه ان العولمة قد انتكست وفشلت كما هي حالها في اميركا اللاتينية. لهذا غدا جنوب القارة جذاباً ومثيرآً للاشتراكيين القدامى كما للناشطين الجدد ضد العولمة. ففي مقالة ظهرت أخيراً، ناقش جيمس بتراس، وهو ماركسي أميركي معروف، الاحتياطي الثوري في "الانتفاضة" الكولومبية و"التذمر القومي واليساري المتنامي في بلدان أساسية مجاورة". وبدوره كتب ريتشارد غوت، الصحافي البريطاني الذي نقل خبر مصرع تشي غيفارا في 1967، عن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز و"طموحاته الثورية" بحماسة، معتبراً ان عداءه "للقوى النيوليبرالية وللعولمة تساعد على إدراجه في تحالف غير منظور" مع متظاهري سياتل. ذاك ان العولمة قد تكون "داء العصر الجديد"، لكن "القوى المناهضة التي تصارعها تنمو شيئاً فشيئاً". الى أي حد يصح هذا الكلام؟ والى أي حد أضرت العولمة بأميركا اللاتينية فعلاً؟ وهل يحمل المناهضون لها هناك أي جواب؟ الأسئلة كثيرة، وليس هذا مجال الإجابة عنها، لكن ما لا شك فيه هو وجود مثل هذا التيار الراديكالي في القارة الجنوبية. ففي كولومبيا يسيطر مقاتلو حرب العصابات - التي يتم تمويلها من عائدات تجارة المخدرات - على أجزاء واسعة جداً من البلد. وفي البلد المجاور، فنزويلا، هناك الرئيس شافيز، الضابط الكاريزمي الذي نفذ محاولتي انقلاب فاشلتين في 1992 قبل ان يصل كرئيس منتخب في 1998. والى الجنوب من فنزويلا هناك البرازيل، وفي هذا البلد الأضخم اقتصادياً ومساحةً، يبدو ان "الحزب العمالي" الذي شكلته المعارضات النقابية الأكثر جذرية للحكومات العسكرية في السبعينات والثمانينات، قريب من تسلم السلطة. أما قائده ايناسيو لويز داسيلفا، وهو عامل صناعي فقد أصبعه في المعمل في سن ال14، فأفضل سياسيي البلاد وصاحب الاسم الذي تتوقع الاستقصاءات فوزه في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، لا سيما وان الحزب العمالي يسيطر الآن على محافظات عدد من المدن الكبرى في البرازيل. وفي اميركا الوسطى اذا صح ان الساندينيين الذين حكموا نيكاراغوا في الثمانينات، فشلوا في ان يوصلوا قائدهم ومرشحهم دانيال اورتيغا الى الرئاسة، على ما دلت نتائج الانتخابات الرئاسية في تشرين الأول اكتوبر الماضي، إلا ان اورتيغا والساندينيين نجحوا في تفادي العزلة بعد خسارتهم السلطة، نجاحهم في صبغ المعارضة العريضة، الشعبية والرسمية، بهم. وهناك اشارات الى ان بعض المجموعات الاهلية، الهادئة والصامتة حتى وقت قريب، شرعت تتململ ضد العولمة واصلاحات السوق الحرة. ففي الاكوادور كاد صعود المنظمات المحلية والاهلية ذات الأصولية الهندية مطالع العام الماضي، ان يطلق انقلاباً عسكرياً. وفي المكسيك نجح "كومندنتي" ماركوس و"جبهة التحرير الوطني الزاباتية" في عسكرة ولاية شياباس الجنوبية منذ قادوا في 1994 انتفاضة قصيرة العمر إنما عنيفة. وفي الخلفية يقف، بالطبع، فيديل كاسترو كمرجع ومثال تاريخيين، خصوصاً ان فنزويلا - شافيز تزوده بجزء كبير من حاجة بلاده الى النفط. وما من شك ان الصلات بين هذه الحركات والقوى تزعج واشنطن وتُقلقها. فعلاقات شافيز بكاسترو وتسامحه حيال حضور الثوار الكولومبيين في فنزويلا، فضلاً عن زيارته الأخيرة للعراق، تجعله وجهاً مكروهاً في الولاياتالمتحدة. وعلى الأقل يمكن القول ان أحداث الارجنتين مرشحة لأن تقوي همزة الوصل بين الراديكالية الاميركية اللاتينية والقوى الأوروبية والاميركية الشمالية المعادية للعولمة. فشهرية "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية، مثلاً، هي الصوت الفكري والثقافي لمنتدى بورتو اليغري البرازيلي المضاد لمنتدى دافوس. وبالنسبة الى زاباتيي المكسيك يُعدّ الناشطون الأوروبيون المعادون للعولمة حلفاء لا يقدرون بثمن في المعركة لنيل حقوق الهنود المكسيكيين. فقد مارس هؤلاء، مثلاً، ضغوطاً على الحكومات الأوروبية لتعطيل المفاوضات في شأن اتفاق تجاري لإقامة سوق حرة، بين المكسيك والاتحاد الأوروبي ما لم تُقدَّم تنازلات لإقليم شياباس. والزاباتيون، مثلهم مثل مناوئي العولمة الغربيين، يستخدمون الانترنت لتنسيق تحركاتهم. فحين اطلقوا مسيرتهم من شياباس الى نيومكسيكو العام الماضي، وقّت ماركوس خطاباته بحيث تتزامن مع نشرات الاخبار الأوسع جمهوراً في التلفزيونات الأوروبية. كذلك فرومنطقيته الثورية تخاطب خصوم العولمة الغربيين. ف"الزاباتية - كما كتبت أنا كاريغان في مقدمة لترجمة انكليزية لكتبه واشعاره - ليست حزباً ولا قوة حرب عصابات. انها عنصر تحفيز وتحريك وخالقة للامكانات". ما ينبغي الاعتراف به ان اصلاحات السوق الحرة في اميركا اللاتينية لم تحل مشاكلها. لا بل، وفي وجوه عدة، باتت الأمور اسوأ مما كانت أوائل التسعينات. فالفقر الذي كان يتم تقليصه ببطء آنذاك، تزايد في العامين الأخيرين. وتظهر الدراسات التي قدمتها لجنة الاممالمتحدة عن اميركا اللاتينية إكلا ان اكثر من 200 مليون اميركي لاتيني من أصل 745 مليوناً يحصلون على مداخيل لا توفر لهم حاجاتهم الاساسية، في حين ان قرابة 70 مليوناً لا يحصلون على الغذاء الكافي. وبعد ان نجحت المكسيك ابان التسعينات في تقديم نموذج ناجح عن مكافحة الفقر، فإن احصاء العام 2000 يظهر ان اكثر من 40 مليون انسان يعيش واحدهم على دخل يومي من 3 دولارات أو اقل، فيما يعيش 14 مليوناً في بيوت ذات أرضيات قذرة، و6 ملايين في بيوت صفيح وتنك. وفي ظل نمو سكاني معدله السنوي 1.3 في المئة، ينبغي ان تحقق اقتصادات اميركا اللاتينية نمواً بنسبة 5 في المئة، من أجل ان تتغلب على الفقر في آخر المطاف. والواقع ان تشيلي وحدها، خلال النصف الأول من التسعينات، والمكسيك في السنوات الأربع الأخيرة، هما اللتان تمكنتا من بلوغ هذا المعدل، بينما تراوح نمو باقي البلدان بين 2 و3 في المئة سنوياً. كذلك جاء النمو مشوباً بالتوتر المالي وتالياً النفسي. فمنذ 1990 أصيبت اميركا اللاتينية بثلاث أزمات مالية كبرى. ففي أواخر 1994 تم خفض قيمة البيزو المكسيكي بما اطلق هجرة رساميل من المنطقة كلها. ولم تعد الثقة ومعها المستثمرون والنمو الا بنتجية العملية الانقاذية التي نفذها بيل كلينتون في 1996. لكن مع انتشار أزمات آسيا وروسيا ووصولها الى البرازيل في 1997 و1998، عاودت الرساميل هربها من القارة. والآن هناك الارجنتين ذات الأفق الأسود والكالح. ولئن لا تزال أثار أزمتها محصورة فيها، يبقى ان سمعتها كنموذج للاصلاح الليبرالي انهارت. ثم وبمعزل عن الارجنتين، فإن البطالة تتصاعد والبرامج الاجتماعية تتقلص في سائر اميركا اللاتينية، فيما ينمو التفاوت الاجتماعي الحاد اصلاً بسبب خليط من التاريخ والعرقية والحقبة الاستعمارية. والحال انه خلال الخمسينات والستينات والسبعينات جذبت الصناعة أعداداً لا تحصى من المهاجرين الريفيين الى مدن اميركا اللاتينية حيث استقر كثيرون منهم في مدن صفيح ضخمة. وفي الماضي اختلفت انماط حياة هذه الجماعات الأفقر عن حياة العمال المدينيين ومهنيي الطبقات الوسطى. وهذا ما جعل لاقتصادات المنطقة هامشاً "غير رسمي" عريضاً جداً، حتى بات واحد من كل اثنين يعيش على عمل اما متقطع أو مشبوه. لكن خلال العقد الأخير إمّحى الكثير من الفوارق بين القطاعين الرسمي المشروع وغير الرسمي غير المشروع. ففي بعض البلدان تقلصت تقديمات الضمان الاجتماعي المشوب أصلاً بفساد ونواقص كثيرة. وفي بلدان اخرى عملت الخصخصة وانهيار الصناعات التقليدية على اضعاف النقابات والروابط الاجتماعية التي تولت في السابق صيانة التضامن الاجتماعي. وهكذا استشرى شعور معمّم بعدم الامان في التسعينات. وقد بينت استقصاءات الرأي العام، مثلاً، ان 8 في المئة فقط من الارجنتينيين يؤيدون الخصخصة. فمثل الروس من ذوي الحنين الى نمط الحياة الشيوعي، يرى الاميركيون اللاتينيون ان حياة آبائهم وأجدادهم ما بين الاربعينات والسبعينات كانت أفضل من حياتهم. وهم، بمعنى ما، صائبون. ففي العقود الثلاثة الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، تدخلت الحكومات الاميركية اللاتينية لإحداث النمو. هكذا رُفعت التعريفات الجمركية وساد عرف اقتصادي فحواه دعم الشركات المحلية والتأكيد على الملكية العامة. وعلى خلفية نمو عالمي متسارع ما بين 1945 و1973، توصعت اقتصادات المنطقة بمعدل سنوي بلغ 5.3 في المئة، فيما ارتفع الدخل الفردي بمعدل 3 في المئة سنوياً. وهذه كلها حجج في جعبة المناهضين للعولمة، لا بل في جعبة سائر الراديكاليين الذين يتوقعون ان تكون اميركا اللاتينية الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية العالمية، ومن ثم الحلقة التي تنكسر لمصلحة اليسار!؟ .