وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    شمعة مضيئة في تاريخ التعليم السعودي    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خسر المنابر وربح الشعر وما زال وحيداً يتصارع مع اللغة . معتبراً أن القصيدة العربية فقدت حس المغامرة الذي صنع ألقها . بول شاوول : الشعر لا يغير العالم، إنه قضية نفسه ومصب ذاته !
نشر في الحياة يوم 18 - 02 - 2002

محاورة بول شاوول تقود إلى فخاخ الصمت، وفسحات البياض، على حافة هوّة شاهقة. كما يقود لقاؤه إلى الاصطدام الحتمي بأسوار نرجسية شفيفة لا يحتملها بعضهم، لكنها في المصاف الأخير جزء من حساسية الفنان المفرطة تجاه الاشياء والعالم. لعب هذا الشاعر اللبناني دوراً حاسماً في تحديد مسار قصيدة النثر العربيّة الحديثة، وهو حاضر اعلاميّاً إلى حدّ يقود الكثير من مجايليه إلى اغفال قيمته الحقيقيّة في عتمة النصّ، وفي أدغال اللغة. وشاوول أيضاً مسرحي ومترجم، إقترن اسمه، وارتبطت تجربته ببيروت المدينة التي بدأ فيها احد قياديي الحركة الطلابية في فورة السبعينات، وانتهى أحد نجوم حياتها الثقافيّة. ترجمت قصائده الى الفرنسية والانكليزية والالمانية والسويدية، وقدمت مسرحياته في مدن عربيّة عدّة، كما كتب للسينما حوار فيلم مارون بغدادي "بيروت يا بيروت"، وللتلفزيون عملين مميزين هما "نساء عاشقات" و"السنوات الضائعة". وفي مناسبة صدور كتابه "نفاد الأحوال" عن "دار النهار" في بيروت، كان هذا الحوار.
أنت أحد أبرز رواد قصيدة النثر، لكنك أيضاً معروف بحضورك المشاكس على الساحة الثقافيّة. لماذا انزويت في الآونة الأخيرة، واخترت الصمت، ولم تعد تخوض السجالات والمعارك الثقافيّة؟
- بالعكس تماما، لم يشارك احد في قضايا ثقافية عبر دراسات ومقالات عن الشعراء والكتاب والديمقراطية والقضايا الثقافية والحريات بمثل الكمية التي شاركت فيها.
كل القضايا التي طرحت، من قصيدة النثر الى الشعر الحر الى مفهوم الريادة. كل هذه كتب عنها مئات الصفحات، ونشرت في صحف عربية ولبنانية... لكن اذا كنت تقصد انني لا أشارك في المهرجانات الشعرية، فهذا صحيح. موقفي أخذته من سنوات، أنا لا اشارك في مهرجانات ولا ألقي الشعر فيها. وهذا كان موقف مني دفعت ثمنه اعلاميا، لكنني في المقابل ربحت الشعر. اليوم كل الذين كانوا ينادون بالقصيدة الايديولوجية والسياسية المباشرة من جيلي على الاقل، غيروا مواقفهم وصاروا يتكلمون عن مرحلة ما بعد الايديولوجيا، ويمتدحون غير الايديولوجي وغير السياسي، وهم كانوا سياسيين ومنبريين.
لكنّك تنقطع عن جزء من الجمهور...
- الجمهور تصل إليه بإنتاجك الفعلي. أنا أكثر أبناء جيلي انتاجا. هنا المحك الاساسي: ماذا ينتج الشاعر في صمته وفي عزلته؟ كتبت عشر مسرحيات وترجمت ألوف القصائد واكتشفت مسرحيات عدّة ترجمتها ونسيتها، إضافة الى الدراسات المسرحية. هذا الانتاج، الشعري خصوصا، هو الذي يحدد موقع الشاعر، وليس انخراطه في الشأن العام، وهذا ضروري. هناك مقولة خاطئة جداً، هي أن "على الشاعر ان يكتب كل يوم، وباستمرار"، هذا مفهوم تسليعي يحوّل الشاعر الى آلة، فيكتب عن كل شيء ليرسخ حضوره اليومي الوهمي. الشاعر برأيي يكتب عندما تتهيأ له تجربة استثنائية، تتراكم فيها طويلا الحالات والقراءات والتاريخ الشخصي والواقعي، وتخضع مادة هذه القصيدة للتجريبية. الشاعر الذي لا يجرب شاعر منتهٍ. والشعراء الذين يكررون قصائدهم ودواوينهم ويقعون في هذه النمطية الميتة هم منتهون ايضاً.
رهانك أن تتغيّر مع كل تجربة جديدة، وتتجاوز نفسك؟
- هذا رهان كلّ مبدع. هناك فرق بين المبدعين والمقلّدين. لماذا أكرر اليوم تجربة "وجه يسقط ولا يصل"؟ هل عليّ ان أقلد ذاتي وأتخبط في مستنقعها؟ لو أخذت دواويني السبعة ستجد أن في كل كتاب مادة تجريبية معينة. كل كتاب يختلف عن سواه: "كشهر طويل من العشق" يختلف عن "أوراق الغائب". وهذا يختلف عن "موت نرسيس" الذي يختلف بدوره عن "الهواء الشاغر" وهذا الرهان ليس سهلاً. انه يحتاج الى صبر وانتظار وانتباه، وجهد وتعب. هذه كلها عناصر تجريبية. والمشكلة اليوم في معظم الشعر العربي الحديث انه فقد هذه المغامرة التجريبية التي صنعت مجده وألقه ذات يوم، كأن الشعراء ناموا على صفحات كتبوها في الماضي، وعلى تجارب كتبوها بلا حيوية، ولا ابتكار، ولا قلق.
هل تعدّ التجريبية في الشعر غاية بحدّ ذاتها؟ ألا تنطوي على مخاطر ومنزلقات؟
- ان الايديولوجيا، والمذاهب الشعرية، بعد تكريسها. قتلت الروح التجريبية. مثلا السريالية في بداياتها كانت تجريبية، لكن عندما صارت ايديولوجيا ونمطية، قتلت هذه التجريبية، وصارت عبئاً على الشعر والشعراء.
في مجموعاتك الاخيرة يبدو اعتناؤك البالغ باللغة، كأنما هي هدف بحد ذاته. انك تصغي بانتباه شديد الى ايقاعاتها...
- الشاعر يراكم وينتظر. لكن في فترة الانتظار ينبغي ان يهيئ ادواته اللغوية جيدا، حتى اذا جاءت الحالة يستطيع ان يصوغها، بلغة في مستواه، من دون ان تكون لديه فكرة مسبقة عما يكتب. إذا رسم بيانا للقصيدة من خلال تجارب سبقتها، عرف الطريق سلفا، اي عطّل الرحلة. في احيان كثيرة لم انجح في تجريبيتي. كنت أشتغل على قصيدة سنة او سنتين، ثم أكتشف انها فاشلة، فأرميها بلا رحمة. لأن التجريبية تتضمن امكانية الخطأ. الشعراء الذين يقلدون أنفسهم لا يخطئون، لأنهم يسلكون طريقا يعرفونها.
الرهان على الشعر لديك يتخذ طابعا جماليا، لكنّه بعيد عن الهمّ الاجتماعي والسياسي المرتبط بحلم التغيير؟
- الرهان هو على الشعر، لا على الشاعر. لا اظن ان كبار الشعراء الذين أبدعوا بنصوصهم العظيمة كبودلير ورامبو ومالاراميه وفاليري وحتى شكسبير قبلهم، لا اظن ان هؤلاء كتبوا الشعر كي يغيروا المجتمع، او سخّروه في خدمة قضيّة مباشرة. الشعر هو قضية نفسه، ومصبّ ذاته. لا ينبغي ان يفهم هنا انني ادعو الى شعر لغوي، او اتبنى نظرية الفن للفن. لا اقصد ذلك. اقصد ان القصيدة لا يهمها الموضوع، ولا تتحدد أهميتها بالموضوع. وأيّاً كان موضوع القصيدة، وأياً كانت القضيّة التي تنشغل بها، يمكن للشاعر الذي يملك حسّاً عظيماً، ان يحولها قضية شعرية. عندها وبلغة تجريبية يستطيع ان يرتفع بشعره الى طموح تلك القضية. الثيمة ليست سوى مادة اولية لبناء معماري جديد، لكنّنا حين نكتب لا نأخذ في الاعتبار من سيصفق لنا في المهرجان، ولا من سيعجبه شعرنا من اهل السياسية والقبائل والاحزاب!
لكن التركيز على اللغة ملمح بارز في قصائدك الأخيرة. فهل يكفي البحث اللغوي المحض لإنتاج الشعر؟
- اللغة وحدها لا تصنع قصيدة. وبعض الحداثيين تكلموا عن اللغة، وكأنها كائن منفصل عن الانسان. بهذا المعنى نقع في تشييء القصيدة، في لا انسانيتها، في جفافها. اللغة ليست فقط اداة، وليست هدفا. إنّها جزء من اكتشاف الحالة الانسانية العميقة. اللغة هي الدليل احيانا، لكنها ليست وحدها دليل ذاتها. انها اشارة الى عمق التجربة، وعمق شكل التجربة. اللغة التي تمشي وحدها تحت شعارات تفجير اللغة وهتكها، واعدام التراث، واعدام كل ما هو قديم، تزجّ بنفسها في طريق مسدود. صار الشاعر في مكان، واللغة في مكان، لا ينبغي للغة أن تكون اقوى من الشاعر. القصيدة ممارسة عنيفة سادية، لكن بسادية نبيلة على اللغة. اللغة لا تشكل الشاعر كما كان يفهمها الرومنطيقيون، وليست أقوى من الشاعر كما فهمها السرياليون. اللغة هي هذه المادة التي تخضع لتجربة الشاعر وازميله واصابعه، يخرجها من التعميم الشائع او السائد او التراث، ويدخلها في خصوصيته.
ترفض مرجعيّة التراث إذاً؟
- التراث، سواء كان قديما او حديثا، هو قصة ذاتية لا جماعية. والتراث هو قضية خاصة لا عامة. إنّه قراءة الشاعر له في الحاضر. وأظن ان الشاعر الحديث يقرأ التراث افضل، لأنه يقرأه بهواجس الحاضر، وبهواجس الابداع وبهواجس الذات، فبعض التراثيين يفسر التراث كما يفسر الماء.
أين أنت من "قصيدة البياض" التي اقترنت بها تجربتك في مرحلة معيّنة؟
- ليست هناك طريقة واحدة للعمل على اللغة، اظهار قوة اللغة هو نوع من الشغل المتعدد. كل كتاباتي فيها شغل على اللغة. ديوان "وجه يسقط ولا يصل" 1977، مثلاً، يمثل افتتاحا لقصيدة البياض. بعدها كانت القصائد الطويلة، وبعدها بدأ الشغل على النحت التقطيري للقصيدة، وهناك ايضا شغل على علاقة البياض بلغة القصيدة. و"الهواء الشاغر" 1985 تطوير لتجربة قصيدة البياض. في "أوراق الغائب" خفّضت صوت اللغة حتى الصمت، وكتبت قصيدة طويلة قائمة على التوازيات، بلغة مصفّاة حتى الهمس. هذا شغل على اللغة، هذا شغل أصعب. هناك قصيدة بدأتها العام 1986 وأنهيتها العام 1992، ونشرت منها اجزاء في "الكرمل" و"السفير"، ثم صدرت مكتملة في ديواني الشعري الاخير "كشهر طويل من العشق". حاولت في القصيدة ان اختبر مادة شعرية اخرى. لعبت لعبة التراث، وحوّلت هذا الموروث المنغرز فيّ بأنفاسه وأحيانا بتراثيته، لأكتب قصيدة حديثة جدا، مع الشغل على ايقاعات الجمل، وعلاقة المفردات والحروف ببعضها، إلخ. وهذه كانت تجربة وعرة جدا، لأنني عندما انتهيت من "اوراق الغائب" بعد 6 سنوات، لم أستطع التخلص من سطوتها، ولهذا قلت سأكتب شيئاً مختلفا جدا، بنبرته اللغوية وبتركيبته وبمعجمه وببيئته الصامتة. وانتظرت، كما قلت لك، حتى جاءت هذه التجربة، فكتبتها بشكل مختلف.
في ديوانك "كشهر طويل من العشق"، تتجلى المرأة بعوالمها المختلفة المتناقضة، بحضورها وغيابها، وتنبثق الانفاس الإيروسيّة عبر هذه الغلالات الشفيفة.
- الإيروسيّة جزء من التجربة، الكتاب كله مرثاة، قصيدة نساء، مرثاة للمرأة واحوالها واوضاعها وخيباتها. وحتى في عز هذه الايروتيكية، نراها محملة بالحروب وبالهزائم وبالجنس، وبالنشوة، وبالرغبة. ولكنها ليست رغبات صامتة. لا اكتب قصيدة بورنوغرافية، كل علاقة عميقة بالمرأة جزء منها إيروسي، هذا لا ينفصل عن علاقتك بالمرأة من ناحية العشق والرغبة. هناك عشق مجنون، ورغبة مجنونة، وما بينهما معاناة. هناك من قال من النقاد انني عدت الى الينابيع التراثية لأوازي غريزة الموت وغريزة الشهوة، فتلتقي غريزتان: اللغة بنبضها الاول، والشهوة اللامحدودة.
"نفاد الاحوال" هو الآخر ديوان يذهب الى الينابيع التراثية ويجمع بين الشعر والنثر والمسرح. انه نص صعب ووعر.
- النص صعب، كما تقول، ووعر، لأنه ينتمي إلى تجريبية جديدة مختلفة. انه نص بنفس واحد من ثمانين صفحة، خلفيته العميقة درامية، معبّر عنها بإيقاع مجنون، قاس، متفلّت، موتور، حنون، ضعيف، سادي، إذ يتقمص الشاعر فيه كل شخصيات الحروب والنساء التي عرفها. كأنه هنا يرى نفسه في الضحية والجلاد، والقاتل والمقتول والمسحوق والساحق والجنرال والميليشيا والطفل، كأنه اراد ان يثأر من كل الذين عرفهم في هذه الحروب. انه كمن يبصق دماً. وهذا الانفلات دائما مضبوط عندي، لكنه مضبوط اقل مما في كتبي السابقة. تركت لعنفي ان يصرخ على كل المسافة المتاحة، ولا ادري اذا كانت التجربة نجحت. قرأت الكتاب بعد صدوره، وصفنت طويلاً. وكما تعرف عندما يصدر الكتاب يصبح الكاتب منفصلا عنه، ويفقد الشاعر النقد الذي يرافقه اثناء الكتابة. بدوت امام الكتاب أعزل وجاهلا، لم أستطع ان اميز إذا كان ما قلته جيداً أو رديئاً. لا اعرف، صدقني. وهذه متعة، وهي جزء من الشعر والشاعر، وهذا دليل حيوية ايضا، لأن الشعراء الذين يفقدون حسهم النقدي الذاتي على نتاجهم هم شعراء منتهون، او نرجسيون منتهون. صحيح ان النرجسية، اساس الابداع، ولكن كفعل داخلي عميق، وليس لتنزيه الشاعر عن نقده، وعن نقد الاخرين. أنا أفكّر: اذا كان نصي اوقعني في حيرة وانقسام، فما بالك بالآخرين؟ الشعر يقسم الناس ولا يجمعهم، فبقدر ما يستثير النص تعددية قراءات وانقسامات في الرأي، بقدر ما يكون جيداً.
ضجر المسرح الزمني
كيف تتخلص أثناء الكتابة للمسرح من الحس الادبي؟ أين موقع الخشبة من كتابتك؟
- أنا لا أكتب نصاً ادبياً في المسرح. للمسرح لغة خاصة، درامية هي لغة الخشبة. كتبت عشرة نصوص، نفذ منها للمسرح أربعة او خمسة. وكل نص يطرح على المخرج اسئلة جديدة، لانني لا أكتب نصا تقليديا او شائعا، لست كاتبا كلاسيكيا، بالنسبة إليّ المسرح لحظة امام هاوية، امام صدام، امام خطر، وليس قصة. لا احب المسرح السردي، مع تقديري لعظمائه، لأنه يقترب من الرواية، في رأيي المسرح لحظة متفجرة، تكون فيها الشخصيات امام واقع محيّر ملتبس، امام نهاية ما. بهذا المعنى يقترب المسرح من الشعر من حيث لا زمانيته، اي عدم تطوره بالمعنى التقليدي. المسرح الزمني يضجرني من حيث رسم الشخصيات وتطور الحبكة، وتقديم الحل. كل مسرحياتي تنتهي في الاسطر الاولى، في البداية ثم تتحرك في هذه البداية - النهاية، تماما كما يتحرك خنجر في جرح.
كيف تتصوّر تحقيق العلاقة بين النص والممثل والمخرج؟
- هناك اتجاهات عرفتها الكتابة المسرحية، كالبرشتية وغيرها. ومنذ عقدين يحاول المخرجون الغاء النص عبر السينوغرافيا او الرقص او الكومبيوتر، وبهذا يعدمون العناصر الاساسية في المسرح: النص والممثل والمخرج. ينبغي ان يعود النص، لا كنص جامد، ولكن كمعطى أساسي للمادة الاخراجية. لا يحقّ في نظري للمخرج لدى تأويل النص الخروج على ما فيه، أي لا يحقّ له أن يجعل من "هاملت" عاجزا جنسيا، لأنه عاش مع أوفيليا بهذه الطريقة، او من عطيل عاجز جنسيا لأنه قتل ديدمونه. لا ينبغي ان نقتل الكاتب. ينبغي ان تكون علاقة المخرج بالنص أقرب إلى لقاء مخيلتين تتصارعان ولا تحل الواحدة محل الاخرى. لا بدّ من ان "نقرأ" النص، لكن لا يحقّ لنا أن نلغيه، فشكسبير ليس ملكا لهؤلاء الذين يشوهونه كل يوم.
دخلت في خصومات مع شعراء كبار، من بينهم أدونيس. ما السبب؟
- ادونيس ما يزال صديقا، ولو من طرف واحد، لكن ادونيس لا يؤمن بالصداقة. قد يكون ادونيس شاعرا كبيرا عند بعضهم، ولكن حتى في عز صداقتي لم اقل له يوما إنني احب شعره، واظن ان هذا ازعجه ولو بشكل باطني. والشعر يقسم الناس، انا لا أستطيع ان اعادي كل من لا يحب شعري. يصبح هذا مرضا، وما زلت اطمئن على صحته بكل صدق، لان العلاقة الانسانية شيء والشعر شيء آخر. أتساءل دائماً: هل يستحق الشعر ان يخسر الانسان اصدقاءه. مثلا محمود درويش في السنوات الاخيرة ازدادت صداقتنا بطريقة غريبة. كان محمود درويش جاري قبل ان يغادر بيروت، وعندما رأيته أخيراً قلت له: "ليتك احتفظت بهذا البيت. انت الذي عرفت بيروت بحلوها ومرها، وعانيت من الغزو الصهيوني". ولكن علاقتي الشعرية بمحمود درويش في الثمانينات والتسعينات، كانت سيئة جداً. لقد كان يرفض شعرنا، وكتب مقالة في "السفير" البيروتية العام 1982 قال فيها: "أنقذونا من هذا الشعر". وانا شخصيا لدي نظرة محدّدة إلى الشعر. الشعر لا يغير العالم، انه تجربة خاصة جدا. وهذا يفسّر ردّ فعلنا على شعر درويش السياسي. كما كان لدرويش رأي في شعرنا عندما كنا شباناً.
وهل تغيّرت نظرتك اليوم إلى شعر درويش؟
- في السنوات الاخيرة صرت اقرأ لدرويش نصوصا مهمة جدا، ولما التقيته في القاهرة كان شفافا ودودا. وقلت له: "منذ ديوانك "لماذا تركت الحصان وحيدا" صرت الشاعر العربي الوحيد الذي يتحول من الداخل، والذي احدث تطورا نوعيا في لغته الشعرية". أحب شعر درويش الاخير كثيرا. صار يعنيني، صار يمس جلدي، اللغة الحية عنده متجددة.
والشعراء الآخرون؟
- هناك شاعر أحبه هو أنسي الحاج، صديق عمري. عندما كنت صديقاً لأدونيس لم اكن اعرف انسي الحاج، ومع هذا اخترت في السبعينات "قصيدة النثر وانسي الحاج" موضوعا لرسالة تخرجي، وكانت اول دراسة جامعية عن قصيدة النثر في الشعر العربي. توثقت العلاقة مع انسي، وانا احب شعره، هناك ألم، وخوف، وهذا لا تراه عند ادونيس. انا احب الحركة الداخلية في شعر انسي الحاج. أما سعدي يوسف، فعلاقتي به جيدة وحميمة، وشعره شفاف، لكن أظن ان عليه ان يتجاوز الصيغة الشعرية التي يكتبها منذ سنوات. اظن ان عليه ان ينتقل الى مرحلة جديدة، مع اني احب الفجيعة الداخلية في شعره التي يعبر عنها بأدوات جيدة. سعدي صديقي في بيروت وقبرص


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.