بعد خمسة أيام من المناقشات في مجلس النواب أقرت موازنة عام 2002 بغالبية كبيرة بلغت نحو ثلثي أعضاء المجلس، لم تكن يوحي بها مسار تلك المناقشات. وبمقدار ما بدا لحكومة الرئيس رفيق الحريري ان هذا التصويت هو تصويت على الثقة، تعامل النواب على انه تصويت لليرة ولموازنة الدولة اللبنانية لأن لا بديل من اقرار الموازنة. وهو في اي حال الفارق بين كل من مجلس النواب والحكومة في تعاطيها مع هذا الاستحقاق الدستوري الدوري. على ان هذا الفارق يشير كذلك الى المعطيات الآتية: 1- حاجة حكومة الحريري الى ثقة متجددة من مجلس النواب نتيجة للحملات القاسية التي تواجهها من الأوساط السياسية ومن الشارع بفعل الاجراءات الاقتصادية الأخيرة، لاسيما منها الضريبة على القيمة المضافة التي ضاعفت من أسعار كل السلع في الأسواق دفعة واحدة بنسب عشوائية وفوضوية من غير ان يكون في وسع الحكومة ضبط هذه الفوضى، لتصل الأزمة الى المحروقات، مما زاد في التردي الاجتماعي والاقتصادي في المداخيل الفردية. ولذا فإن حاجة الحكومة الى ثقة كبيرة من مجلس النواب، لا مجرد غالبية عادية، تعني حصولها على غطاء سياسي من المجلس بغية تجاوز الاعتراضات الشعبية. 2- طوت غالبية ثلثي أعضاء المجلس بالتصويت على الموازنة فكرة استعجال اجراء تعديل حكومي او تأليف حكومة جديدة كانت ترددت أصداؤها في الأسبوعين الأخيرين وبدت انها جدية. وتالياً فإن ثقة 83 نائباً أيدوا موازنة حكومة الحريري من 113 نائباً حضروا الجلسة في مقابل 18 نائباً عارضوا و12 امتنعوا عن التصويت يشير ايضاً الى موافقة هذه الغالبية على السياسة المالية والاقتصادية التي تعتمدها الحكومة، كما يشير الى التخلي عن ضرورة اسقاطها بسبب الانتقادات القاسية التي وجهت الى هذه السياسة. لكن هذا التصويت عكس من جهة اخرى المأزق الذي يتخبط فيه مجلس النواب، وهو ازدواجية موقفه التي تتراوح بين توجيه الانتقاد القاسي وبين الرضوخ لمطالب الحكومة والموافقة على ما تريده. الأمر الذي أشاع انطباعاً بعدم صدقية البرلمان اللبناني في طريقة تعاطيه مع الحكومة الحالية كما مع سواها من الحكومات المتعاقبة حيث تقتصر مهمته في العلاقة معها على مراقبتها من غير محاسبتها. وهو بذلك يستخدم نصف الصلاحيات الدستورية المنوطة به ويتخلى عن النصف الآخر. فكان ان تكشّف للرأي العام اللبناني الذي تتبع مناقشة الموازنة عبر محطات التلفزيون المحلية ان اكثر من 60 نائباً هاجموا الحكومة بعنف وطالبوا برحيلها او بإسقاطها وحمّلوها مسؤولية الانهيار الاقتصادي، اذا بهم مع أكثر من عشرين آخرين يقترعون للموازنة التي تشكّوا منها ما خلا بضعة معارضين كانوا منسجمين مع مواقف التحفظ التي أبدوها في المناقشة. على وفرة ما قيل من ان هذا الاقتراع هو للموازنة وليس للحكومة ولا للثقة بها ولا للسياسة المالية التي تنتهجها. على ان حصيلة الاقتراع تقود في نهاية الأمر الى حيث تريده الحكومة، وهو خروجها من مجلس النواب منتصرة وقد كسبت ثقة جديدة تمكّنها من مواجهة غضبة الشارع وحملات المعارضين. 3- ان قرار اسقاط الحكومة هو سوري مئة في المئة. وتالياً لا يستجيب له السوريون الا بمقدار اعتقادهم بملاءمة الظروف الاقليمية خصوصاً لإحداث تغيير حكومي في لبنان. اذ ولسنوات طويلة، ومنذ عام 1992 على الأقل أصبح التغيير الحكومي رهن الارادة السورية، بحيث يكتفي المسؤولون اللبنانيون، لتبريرها، بالقول ان الظروف الاقليمية غير ملائمة. لكن الواقع ان هذا التقويم هو سوري تماماً، حتى وإن بدا ان دمشق قلّلت كثيراً من تدخلها في تسمية الوزراء التي تتألف منهم الحكومة الأخيرة كما الحكومة التي سبقتها في مطلع عهد الرئيس إميل لحود. بيد ان ما ظل يعنيها من أي تركيبة حكومية هو امتلاك السوريين غالبية ثلثي أعضاء الحكومة سواء كانوا حلفاء لها او أصدقاء بمعزل عن الأسماء. ولهذا تعثرت محاولات تغيير الحكومة الحالية مرات عدة في الأشهر الستة الأخيرة على الأقل: - فرئيس الجمهورية إميل لحود يعتقد بأن الحكومة فقدت مبرر وجودها ومهمتها الرئيسية هي معالجة الوضع الاقتصادي مما بات يقتضي ابدالها بأخرى أكثر فاعلية، ولم يتردد قبل نحو أسبوعين عشية مباشرة مناقشة الموازنة في مجلس النواب في توجيه انتقادات قاسية للوزراء في جلسة مجلس الوزراء اعتبرها بمثابة "صرخة ضمير" بسبب الأخطاء التي يرتكبونها وعدم تنفيذ القرارات. وهي المرة الأولى التي يجد لحود نفسه يضع مسافة ملموسة بينه والحكومة ويساهم في رفع الغطاء السياسي عنها. - ورئيس الوزراء رفيق الحريري، على رغم الانطباع المعاكس الذي يشيعه، هو مع تغيير جزئي للحكومة يطاول الوزراء الذين يُنتقد أداءهم، وقد سبق له ان أثار هذه المسألة مع رئيس الجمهورية، ولكن من غير ان يقود تعديل حكومي جزئي كالذي يقترح الى اعادة النظر في كل التركيبة الحكومية ولا في امتلاكه غالبية ثلثي الأعضاء، وقد نجح تكراراً خصوصاً منذ التصويت على مشروع "سوليدير" في أيار مايو الماضي انه يمتلك الغالبية المقررة في مجلس الوزراء. والواقع ان رئيس الجمهورية بدوره لمس هذا الأمر، وبات يميل الى التفاهم مع الحريري على جدول الأعمال سلفاً تفادياً لعرض أي بند على التصويت، بحيث يتوافقان على مشروع القانون بغية إقراره برضاهما. وهو مبعث الاعتقاد بأن هذا التفاهم عُطّل تماماً، فمنذ أيار الماضي، دور مجلس الوزراء. ومنذ ذلك التاريخ لم يطرح اي مشروع قانون على التصويت. غير ان هذه الحقيقة لا تحجب حقيقة موازية هي اصرار الحريري على بقاء الحكومة الحالية كونها منبثقة من انتصاره الكبير في الانتخابات النيابية صيف 2000 مع اعادة نظر جزئية في بعض وزرائها تتيح له اخراجهم بغية تحقيق أفضل انسجام بينه وبين معاونيه. وهذا ما لا يوافقه عليه رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري اللذان يريان المشكلة في "الذهنية" التي تدار بها الحكومة لا في وزراء يتخذون بعض المواقف السلبية من رئيسها. والواقع ان حسابات دمشق في التعاطي مع الموضوع الحكومي ليست حكماً حسابات الحريري. ولهذا تعارض اي تعديل وزاري، وحكماً استقالة الحكومة برمتها ما لم يكن ثمة اتفاق مسبق على البديل. علماً ان دمشق ترى في التوازنات السياسية الحالية داخل الحكومة ما يعبّر عن تمثيلها معظم القوى الرئيسية. فللحود وبري والحريري ممثلون فيها وكذلك لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط. على ان أي اعادة نظر جديدة في الوضع الحكومي ستفتح الباب أمام أزمة استيزار جديدة تجد دمشق نفسها في غنى عنها، خصوصاً مع نشوء "لقاء قرنة شهوان" الذي بات قوة سياسية تمثيلية أساسية لم يعد في وسع المعنيين بأي تركيبة حكومية محتملة تجاهله. 4- ان التقاط النواب اشارات رئيس الجمهورية في انتقاده الوزراء أخيراً ومضيهم في حملة عنيفة ضد الحكومة لم يكن يشير بالضرورة الى ان هذه الاشارات هي مفتاح تغيير حكومي واقع فعلاً، ولم يكن ليشير كذلك الى ان ما أحجم لحود عن مكاشفته صراحة عبّر عنه النواب، وباتت حكومة الحريري على قاب قوسين او أدنى من الاستقالة. بل بدت اشارات رئيس الجمهورية - ومن غير ان يتعمد ذلك - فرصة للنواب لتهشيم الحكومة الحالية من غير ان يفضي ذلك الى اسقاطها في مجلس النواب، ولا الى دفع الحريري الى الاستقالة. فالرجل لا يبدو زاهداً في السلطة أبداً، ولا هو في وارد الاستقالة، كما ان رئيس الجمهورية يعرف كذلك ان لا بديل من الحريري في رئاسة الحكومة، وفي رئاسة أي حكومة جديدة، كما ان لا بديل من الدور الاقتصادي للحريري في تعويم الأزمة التي يعانيها البلد خصوصاً وان هذا الدور بات مهمته الحصرية في هذه الحكومة بعدما بات الأمن والسياسة الخارجية في عهدة رئيس الجمهورية حصراً. ومعطيات كهذه يسلّم بها الرؤساء الثلاثة كفيلة لتأكيد - وان على نحو غير مباشر - رغبة السوريين في ادارة لبنان من ضمن هذا التوازن، وتحديداً من خلال الحكومة الحالية، وهو في الواقع ما يعنيه امتلاك دمشق الغالبية النيابية في البرلمان والغالبية الوزارية في الحكومة. وبسبب ذلك لا تجد حكومة الحريري غضاضة في صمّ أذنيها عن غضب الشارع والمعارضة في خضم هذا الكمّ من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة وفوضى الأسواق، الى الحد الذي يشعرها انها، بدعم سوري واضح، باقية في السلطة حتى اشعار آخر. على ان الحريري إزاء كل هذا السجال الحاد الذي سمعه من نواب يتعرضون لحكومته بانتقادات قاسية يعرف انها لن تطيحها، رغب من منبر المجلس وفي كلمة مكتوبة، في ان يعبّر عن هواجس أخرى غير تلك التي قالها النواب، هي توجيهه رسائل ذات بعد اقليمي ودولي مهم عندما ركز على تحديد موقف لبنان من الارهاب الدولي وتنديده به، وتأكيده ان لبنان لن يدخل في مواجهة مع واشنطن على موضوع مكافحة الارهاب مع حرصه على التعاون معها، ليميّز بين المصالح الأميركية والمصالح الاسرائيلية. وهي مواقف مكتوبة تفادى الحريري اي ارتجال في التعبير عنها، ليظهر من جهة أخرى اهتمامه بوطأة الانتقادات التي توجهها الادارة الأميركية الى لبنان لدعمه "حزب الله". في بساطة كان الحريري في مكان ومجلس النواب في مكان آخر .