يجد السينمائيون بيسر، في المحن الكثيرة، موضوعات تقارب السياسة وخطاباتها. بعضهم يبررويفخم البطولات، حتى وان كانت على حساب الحقيقة، وآخر يلعن ويتهم، في مسعى لكشف التواطؤات والجريمة أمام الضمائر التي لم تعفنها الخيانات. وفي كلتا الحالتين يبقى النص السينمائي مدعاة للسجال والتنابز، من حيث اصول حكاياته وقدرتها على اقناع مشاهدها او على الاقل حرف قناعاته في إتجاهات قريبة لصناع هذا الشريط او ذاك. ليس هناك فيلم غير سياسي. هذه مقولة بديهية، لكن ليس كل متفرجيه سياسيون او على قدر معتبر من فهم معطيات السياسة التي تتخفى تحت غطاء قصص الحب او الاستعراض او المغامرات وغيرها. المشكلة هنا تكمن في الدسيسة الفنية التي تسربها شركات الانتاج وموظفوها بدءاً من الفنيين وانتهاء بكتاب الاخبارفي صحافة النميمة، والتي تتذاكى وتتلون وتتخذ أشكالاً لا حصر لها، مستفيدة من الثورة التقنية الرقمية التي سهلت امكانات اعادة الاجواء لحقب ماضية، لتستفيد من تحريف التاريخ او تجيير مراحل لحساب آخرى امتازت بالغدر وتعميم القتل والتغييب. ليس هناك فيلم غير سياسي، لانه يحمل بين طياته الفنية مهما كانت مستوياتها بذرته الدعائية، وهو بالتالي مصنوع بتبرير السياسة ومن أجل غاياتها. هنا نماذج سينمائية عرضت اخيراً في مهرجان لندن السينمائي RLFF تجتمع على الموضوعات المسيسة من دون ان تغفل سهامها الايديولوجية. في شريط "حرب" للمخرج الروسي آلكسي بالابانوف تتضح حرب الشيشان باعتبارها جحيماً مصنوعاً على يد حفنة من مرتزقة اسلاميين، هدفهم الابتزاز والقتل والغدر. إنهم قوم همج، دمويون، متخلفون، لا رأفة في قلوبهم. في حين يصور بالابانوف ولد في العام 1959 ودرس اللغات قبل أن يلتحق بسلاح الجو السوفياتي، وعرف الشهرة عبر شريطه "شقيق" 1997 الطرف الروسي المحتل "دونكيشوتياً"، يحمل مفردات حضارته التقنية كومبيوتر وانترنت، من أجل وقف الارهاب ومنع اتساع رقعته نحو الارض الام. بيد أن دسيسة هذا المخرج تتضح بجلاء عبر إدخاله العنصر البريطاني كطرف في هذه الحرب الضروس، بواسطة الاسيرين جون الممثل ايان كيلي وخطيبته مارغريت التي ستقع في غرام الجنرال الروسي لاحقاً. وهو اي المخرج يسعى عبر هذه المزاوجة الى الايحاء بضرورة تدويل هذه الحرب "لخير العالم المتحضر وعدم افساح المجال للارهاب ان يعم". يلتقي البطل الروسي الشاب ايفان تمثيل ألكسي تشادوف مع جون في الأسر، ليعطيهما القائد الشيشاني، الذي أظهره الفيلم كمجرم محترف، فرصة حرية من أجل تأمين ثمن فدية الشابة الحسناء. ترفض الحكومة البريطانية إلحاح جون، الذي سيجد القناة التلفزيونية الرابعة مستعدة لتمويل بعض مال الصفقة شريطة أن يصور "بطولة" إنقاذ الأسيرة. مشكلة هذا البريطاني الساذج بمحنته أن طريق العودة لن يكون سهلاً كما تصور، وعليه أن يشحذ الهمة الوطنية للشاب القوقازي ايفان كي يرافقه في عملية إطلاق الأسرى، ولكن على طريقة رعاة البقر الاميركيين وحفيدهم رامبو! يتدجج الاثنان بالاسلحة والعزيمة، فيحلان الازمة بكثير من الرصاص والقنابل التي تخترق جثث "الارهابيين المسلمين" كما لو كانت اكياساً من القش. فالبطولة القصوى ليست للذكاء القوقازي الذي أصر عليه المخرج بالابانوف، بل "للتعاون الدولي" الذي قاد الى النصر! ينتهي الفيلم بمشهد ذي مغزى: البطل البريطاني وهو في قاعدة جوية عسكرية، يراقب بعين الرضا خطيبته وهي ترافق الحبيب الروسي. لقد خسرها على رغم تفانيه في انقاذها. انها ضريبة الحروب القذرة التي حولته من عاشق الى مرتزق حروب! فيلم "حرب" مدسوس لانه يغالط المنطق التاريخي، فالحرب التي طالت، بدأت منذ قرون روسية، ومازال أوارها مستعراً على يد الجيش الروسي، وهو أي الشريط لا يضع في حسبانه الأحقية السياسية للطرف المحتل في هذه الحرب. فوصفة الارهاب جاهزة لأسباغها على إي نضال سياسي لشعب محتل مثل أهل الشيشان. فهل يمكن لشريط يقلد افلام هوليوود بأكثر المواقف السياسية رجعية ان يكون منصفاً؟ الممثل الاميركي جون مالكوفيتش "علاقات خطرة" لفريرزو "بورتريه سيدة" لكامبيون وغيرها لعب ادواراً عدة على الشاشة كمخرج سينمائي، كما حدث تحت ادارة البرتغالي مانويل دي اولفيرا في "انا ذاهب الى البيت" واللبناني الاصل أ. الياس مرهج في "ظل مصاص الدماء" والايطالي مايكل انجلو انتونيوني "خلف الغيوم"، لكنه هذا العام قرر ان يكون مخرجاً حقيقياً لينجز باكورته "راقص الدور العلوي". هذا الشريط نخبوي التوجه، عبر اعتماده على حكاية ذات طابع سياسي بحت تتركز على الارهاب، ولكي يجعلها أخف وطأة، ادخل فيها قصة حب ومكيدة بين ضابط الاستخبارات ريخاس الاسباني خافيير بارديم المكلف القضاء على حركة نضالية مسلحة تهدف الى قلب نظام الحكم في بلده الاميركي اللاتيني، ومعلمة الرقص التعبيري يولاندا الايطالية لاورا مورانته حيث تدرس ابنته تحت اشرافها. يشرق الحب في قلب هذا الرجل الملتاع بين ارتقائه في منصبه "الدموي" ورعونة زوجته وتصابيها وفراغ شخصيتها، ليجد الأنس لدى المعلمة الحسناء الرقيقة. لكن تلك الابتسامة البريئة ستحمل الويل لريخاس، فالرأس المحرك للتنظيم "الملعون" يقطن في شقة الدور العلوي فوق مدرسة الحبيبة!. والاستفادة من براءة المكان لاخفاء المجرم الاول يعد في نظر النظام، الذي راقب علاقتهما عن كثب، جريمة قصاصها ثقيل. يتنازل البطل ، ضمن مقايضة، عن أكبر حلم في حياته: الترشيح لمنصب اكبر، من أجل تخفيف وطأة السجن على الحبيبة الخائنة! دسيسة مالكوفيتش ولد عام 1953 بانت في الادانة السياسة التي اخطأت وجهتها، اذ جعل مناضلي تلك الحركة قتلة لايتورعون عن استخدام الحيوانات الداجنة كوسائط لنقل المتفجرات، او استخدام الاطفال لحمل يافطات "الشتائم" السياسية، او استخدام الطلبة الصغار كدروع بشرية لحماية القائد والتمويه على مكمنه الخفي، في غياب مطلق للرؤية الايديولوجية لهؤلاء الشباب ونوعية السجالات التي تدفع بهم وتحرضهم على هذا النوع من "الكفاح المسلح". فهم عند مالكوفيتش حفنة من زعران شوارع يأتون من الاحياء القصديرية ليشيعوا الرعب في احياء الاغنياء والمتنفذين. يقتل ريخاس ويعتقل الكثير منهم، فهو ابن الدولة والنظام والمؤسسة. حاميها وراعيها، يظهرها مالكوفيتش كقلعة لايمكن تهديمها بسهولة، من دون ان يغض النظر عن "بعض" الفاسدين فيها. البطل الايجابي الوحيد في "راقص الدور العلوي" هو رجل الاستخبارات ريخاس، اما الآخرون فهم خونة مؤجلون! حقق المخرج السويدي لوكاس موديسون وهوايضا شاعر وروائي ولد في مالمو عام 1969 العام الماضي شهرة عالمية عبر شريطه "معاً" الذي أمتاز بروح تهكمية نادرة سويدياً، حول حقبة هيبية الستينات. في جديده "ليليا الى الابد" يقارب موضوعاً سائداً اليوم: الهجرة الاوروبية الشرقية وصناعة الدعارة بين نسائها وفتياتها، عبر حكاية الشابة الحسناء ليليا 16 عاماً الحالمة في التخلص من يوميات مدينتها الكئيبة التي تقع في احدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق من دون ان يسميها الفيلم. لهفتها للانعتاق من فقر يقف ضد تحقيق رغبات مراهقتها تقودها الى براثن شاب تبدو عليه إمارات الثراء، لتعرف طعم الحب للمرة الاولى. وعندما يقف هذا الشاب الرقيق عند لوعاتها، يكشف عن خطته: جواز سفر، وأحد الاقرباء في انتظارك في مطار استوكهولم، وعمل مجز في شركة كبرى! وحين تصل الشابة الى هناك ستُرغم على ممارسة الدعارة قبل ان تفلت من سجنها وقدرها الذي رسمته لها عصابة دولية. تركض ليليا في بداية الفيلم وهي مدماة، وسننتظر حتى النهاية كي نكتشف انها تركض نحو مصير مجهول في ارض غريبة! لا شك ان موديسون اراد ان يقارب هذه الظاهرة من الباب الميلودرامي، لكن ما غُيب هنا هو الدافع السياسي الذي انتج مثل هذه الظاهرة وقوامها: ان تفكيك الكتلة الشرقية على يد الغرب لم يضع في حسبانه الوحش الفاسد الذي رفعت عنه القيود. موديسون غفل بارادة وتصميم الشق السياسي والايديولوجي لتجارة الرقيق الابيض، وحول مأساة ليليا الى ندب شخصي بحت. عانت البطلة الشابة في مدينتها الاصلية من الغربة العائلية بعد تخلي والدتها عنها وسفرها مع أول عشيق، فيما ستكون رفقتها القصيرة مع ذلك الصبي المدمن على استنشاق مادة الغراء والذي حاول مراراً ثنيها عن السفر، بمثابة الحيز الضيق للبراءة المهدورة. وستعاني ليليا لاحقً من غربة اخرى في منفاها الفخ تُحجز في شقة فارغة بعد ان يُمارس عليها الاغتصاب الدوري، لكن المخرج يصر على القدر الاعمى لهذا المنفى المفروض عليها، اذ حين تسنح بعض الفرص للهروب، تعجزالشابة عن استكمال حريتها وتعود بارادتها الى محنتها، وكأن موديسون يصر على استغفال مشاهده بضعف ارادة بطلته، فهي نموذج سيىء لحالة اكثر سوءاً. على المنوال نفسه يقدم المخرج البريطاني ستيفن فريرزصاحب "غسالتي الجميلة" 1985 قراءة مبتورة، كثيرة التزويق والادعاء لما يجب ان يكون اطلالة على احوال مهاجري العالم الثالث في بريطانيا في شريطة "امور صغيرة قذرة"، لكنه اختزل كل الظاهرة بين شخصيتين: سيناي اداء مفتعل من الفرنسية اودري توتو التي اشتهرت عبر فيلم "أميلي" الشابة الكردية التركية واوكوي الطبيب الشاب القادم من نيجيريا يعملان معاً في فندق ضخم وسط لندن ويقعان في الحب. الشابة هربت من الاضطهاد العرقي وتحلم بالهجرة الى الولاياتالمتحدة، فيما يحاول البطل تأمين المبالغ اللازمة لتهريب عائلته التي خلفها تحت تهديد النظام العسكري، وعليه يعمل اوكوي سائقاً لتاكسي صباحاً ونادلاً في الفندق مساء. ولكي يضفي المخرج فريرز بطولة نادرة على شخصيتيه يعمد الى توريط الطبيب المهاجر في الكشف عن عصابة يقودها احد مدراء الفندق، تغري مهاجرين سذجاً للخضوع الى عملية جراحية في احدى الغرف لأستئصال احدى الكليتين لبيعها لاثرياء. والاكثر غرابة ان ذلك المدير تمثيل الاسباني سيرجي لوبيز سيعتدي على الحبيبة كي يسلمها جواز السفر المزور، ليتكاتف الحبيبان على تخدير المدير الفاسد ويستأصلان كليته! اما سيناي فبعد تعرضها لمطاردة شرطة الهجرة، تلجأ الى العمل كخياطة عند تاجر آسيوي سيفرض عليها ضريبة جنسية كي يحميها، وبعد بضع جلسات تنتقم منه بدموية. كلا الشخصيتين يقدمان الولاء بطريقتهما الشخصية: النيجيري يفضح جريمة كلى الافريقيين، والتركية تحترم القانون من دون ان تفقه شيئا من فقراته، خصوصا تلك التي تحمي حقوقها وانهاء اشكال اقامتها من دون ان يعني عدم أحقيتها في عبور حاجز المطار بجواز السفر المزور نحو أميركا. في مشهد الوداع يتصل البطل بعائلته ليخبرهم بعودته. وبين رحيله وسفر سيناي دلالة سياسية تفوح منها رائحة الدسيسة: بريطانيا ذات صدر واسع للجميع، لكن هل سيجد المهاجر آمانه الداخلي وقناعته الشخصية بالاستقرار بين أهل هذه الجزيرة؟ وماذا عن الاوطان ، هل هي حقا رديئة الى هذا الحد الذي يدفع بالملايين الى الهروب. لا يجيب فريرز على اسئلة كثيرة: لماذا لم تظهر شخصية بيضاء عنصرية؟ وهل اختزال السلطة في شخصيتي المخبرين المضحكين كافية للدلالة على تسامح بلد تطل العنصرية في مختلف زواياه؟