أحيت معركة السيطرة على شركة "جمبلوس" الفرنسية لتصنيع البطاقات الالكترونية المتقدمة من الجيل الجديد، هاجس "النهب" التكنولوجي لمصلحة الولاياتالمتحدة الاميركية. فالاختصاص المعبر اليوم على التقدم التكنولوجي الأوروبي عموماً، والفرنسي خصوصاً بات في الواقع، ومنذ 11 ايلول سبتمبر 2001 من أولويات الدوائر الاقتصادية والمالية، وحتى الاستخباراتية الاميركية. في الوقت الذي تقوم فيه واشنطن ببناء سوقها في مجال الدفاع أو البيو - تكنولوجيات في كل القارة الأوروبية، مع ذلك، لا تزال عملية نقل التكنولوجيا تسير في الاتجاهين. عاش الاميركيون فترة طويلة على الوهم القائل بأن الأوروبيين عاجزين عن تصميم طائرة مدنية جيدة، وبنسبة اكبر قادرين على اطلاق مركبتهم الفضائية. لكن، منذ نهاية الثمانينات، أخرج نجاح طائرة ايرباص والتجارب الجارية على قدم وساق لتطوير المركبة "اريان"، اصحاب القرار في اميركا من دائرة الوهم التي كانت تتحكم بمخيلتهم، ودفعت بهم لاتخاذ القرار بالدخول في حرب اقتصادية مع أوروبا، فمنذ عهد الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، ووكالة الأمن القومي ان اس ايه مكلفة اعتراض عودة الحيوية التقنية - التجارية الى أوروبا. وهكذا، تلقى الجهاز الأكثر سرية في الهيكلية الاستخباراتية الاميركية - وهو الذي أنشأ شبكة التنصت الشهيرة المعروفة باسم "ايشلون" - الأوامر بتحديد عدد من التكنولوجيات الحساسة التي يملكها الأوروبيون والعمل على شرائها بواسطة الرساميل المقربة من دائرة وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. هل هي اشاعات مضللة أم حقائق يجب أخذها في الاعتبار؟ مما لا شك فيه ان هناك مخاوف أوروبية من محاولات نهب التكنولوجيات "من صنع أوروبا" من قبل الاميركيين، خصوصاً في فرنسا، مع بروز الشعور المعادي لأميركا، داخل الأوساط الاقتصادية الفرنسية التي ترى في نيات القوة العظمى الوحيدة في العالم وضع يدها على شركة "جمبلوس" مسلسلاً للتجسس الصناعي. القصة بدأت في مطلع عام 2000، عندما أصبح صندوق الاستثمار الاميركي "تكساس باسيفيك غروب" تي بي جي، المساهم الرئيسي في "جمبلوس"، زهرة التكنولوجيا المتقدمة، والشركة الأولى في العالم المتخصصة بصناعة البطاقات الالكترونية ولم تصبح "تي بي جي" معروفة داخل دول الاتحاد الأوروبي إلا بعدما اشترت شركتي "دوكاتي" و"بالي"، عندها فتح مؤسس "جمبلوس" مارك لاسو ذراعيه لاستقبال صديقه الجديد القادم من تكساس دفيد بوندرمان، الذي وقع شيكاً بمبلغ 550 مليون دولار، في مقابل 26 في المئة من رأس مال الشركة الفرنسية. ولم تمر سنتان على هذه الصفقة حتى تغير الجو، وتحولت فرحة الشراكة الى كابوس وحذر متبادل. ف"جمبلوس" التي لم تستبق الطفرة في عالم التكنولوجيا المتقدمة كما يجب، وجدت نفسها متراجعة في الأسواق، اذا اختتمت عام 2001 بخسارة فاقت 100 مليون دولار، في حين شهد سعر سهمها المتداول في ردهات البورصات العالمية تدهوراً حاداً ومنتظماً. والأدهى من كل ذلك، ان لاسو وجد نفسه بين ليلة وضحاها مستبعداً من الشركة التي أسسها بقرار من المساهم الاميركي الجديد. ففي خضم هذه التحولات، تم إلغاء 1100 وظيفة، ما دفع العاملين في الشركة الى اطلاق صفارة الإنذار، فالشركة الأميركية تعمل على الاستفادة من الأزمة لتحكم سيطرتها الكاملة على "جمبلوس"، ونقل مصانعها ومكاتبها الى الولاياتالمتحدة. المهم، حسب رأي الخبراء الاميركيين، ليس عملية التحويل الجغرافي هذه، بل نقل براءات الاختراع التي تملكها، والتي تعتبر بمثابة منجم ذهب. فالبطاقة الالكترونية المتقدمة من الجيل الجديد التي تنتجها الشركة تستخدم في أكثر من ثلث البطاقات المصرفية والهاتفية الموزعة في العالم 34 في المئة حسب التقويم الإحصائي لمؤسسة داتا كويست. اضافة الى ذلك، فإن الشركة الفرنسية نجحت بتموضعها المسبق في مجال البطاقات الالكترونية مع زيادة استخدامها في مجال اصدار بطاقات الهوية ومختلف وسائل التسديد المالي، التي تشهد منذ اشهر تنوعاً غريباً عجيباً. فلم يعد هنالك ضرورة لقراءة كتاب "الأخ الأكبر" لتصور أبعاد وانعكاسات الحماية الأمنية للبطاقات المعروفة باسم "آي دي كارد"، وهي أنواع من الجوازات المصرفية التي تسمح بقبول أو رفض، ليس فقط دخول الأفراد الى منطقة مصنفة حساسة، بل ايضاً أثارهم. وتؤكد المؤشرات منذ 11 ايلول سبتمبر، حاجة أميركا الملحة الى هذا النوع من البطاقات التي على رغم قوة الولاياتالمتحدة التكنولوجية، غير موجودة بكثافة في السوق المحلية نتيجة الاعتراض الدائم للنظام المصرفي لناحية توسيع رقعة انتشارها لأسباب مالية بحتة. ف"جمبلوس" هي الهدف المثالي، لكن فقط على الورق. اما الشركتان الفرنسيان المنافستان داخل هذا القطاع، فمن الصعب منافستهما حتى الآن. فشركة "سي بي 8" التي اشترتها شركتا "شلومبرجيه" و"اوبيرتور كارد سيستيم" من "بول" تمتلك رأس مال من الصعب اختراقه من قبل أي طرف اجنبي. ظلال ال"سي آي ايه" ومنذ نهاية شهر آب اغسطس الماضي والحديث عن "المؤامرة الأميركية" يتنقل من قطاع إلى آخر في أوروبا. فالقضية تبدو جدية للغاية استناداً إلى المعلومات المتوافرة التي تفيد بأن عدداً من شركات "ستارت - أب" التي أعلنت افلاسها مرتبطة بالاستخبارات الأميركية، ومنذ دخول الشركة الأميركية في رأسمال "جمبلوس" لم يعد هنالك سوى هدف واحد يتلخص بكيفية تحويل قوات هذه الأخيرة إلى الولاياتالمتحدة مع براءات اختراعاتها القيمة. من هنا، يسود الاعتقاد إلى حد الجزم بأن هناك عملية مدبرة للسيطرة على التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة، ويتقاطع هذا الاعتقاد مع نظرية الرئيس المبعد لاسو الذي يرى أن الحقيقة تكمن في نية "تي بي جي" السيطرة الكاملة على "جمبلوس" من دون دفع الثمن في المقابل، إنهم، حسب قوله، يريدون التكنولوجيا. على أي حال، وجد هذا التخوف الذي رافقه دق جرس الانذار تجاوباً من الحكومة الفرنسية التي قررت الاهتمام بهذا الملف عن كثب. ونتيجة لذلك، قامت الدائرة الاقتصادية في الاستخبارات العامة بفتح تحقيق للتأكد مما إذا كان بعض التكنولوجيات الدقيقة ذات الأهداف العسكرية خصوصاً، ليس ضمن دائرة الخطر لناحية تحويله إلى أميركا. في المقابل، يطبق الصمت المقصود على هذه القضية لدى الجانب الأميركي. لكن دومينيك فينيون، الرئيس الحالي لمجلس إدارة "جمبلوس" يندد بالاشاعات القائلة بأن الأميركيين يريدون نقل مقار ومصانع هذه الأخيرة من فرنسا، وان براءة اختراع "مورينو" وقعت في يد القطاع العام، وان الأميركيين يسيطرون منذ فترة على تكنولوجيات البطاقات الالكترونية. وإذا لم يتم حتى الآن الشروع باطلاقها، فذلك بسبب الكلفة العالية لتجديد البطاقات المصرفية والتي تفوق كلفة عمليات الغش وانعكاساتها. ويؤكد هذا المسؤول أن "تكساس باسيفيك غروب" يتبع فقط المنطق المتداول من قبل صناديق الاستثمار، والذي يتلخص بالسيطرة على الشركة التي تملك آفاقاً واعدة لناحية حجمها المالي وقدراتها وبنياتها، والتي من الممكن تطويرها تمهيداً لبيعها للذي يدفع أكثر. فإذا كان هدف "تي بي جي" هو هذا، فإن هذه الأخيرة تكون فوتت الفرصة عليها، لأنه مع انهيار قيمة أسهم "جمبلوس"، يكون الصندوق الأميركي قد خسر اليوم 400 مليون دولار بالمقارنة مع الاستثمار الأصلي. وتعطي قصة شركة "أكتيف كارد" مثلاً صارخاً في مجال تحويل التكنولوجيا لأميركا، حتى لو لم تأخذ حجمها الإعلاني. فهذه الشركة التي تأسست في العام 1987 من قبل إيف أودوبير، أحد المسؤولين السابقين في شركة "طومسون سي اس اف"، المتخصصة أيضاً بالبرامج الالكترونية لإدارة بطاقات التعريف والهوية، بدأت تهم الأميركيين بشكل لافت، إلى حد قول أحدهم إن "اكتيف كارد" تشهد عملية نقل سرية. فالشركة الموجودة في ضواحي باريس والمطروحة أسهمها في بورصة "ناسداك" الأميركية، تعيش مرحلة محاولة السيطرة على رأس مالها من قبل فرعها الأميركي "اكتيف كارد كورب". وفي هذا السياق، يمكن القول أنه ليس هناك أدنى شك لناحية وجود ظل ال"سي آي ايه" هنا. ففي تشرين الأول اكتوبر من عام 2000، تمكنت "أكتيف - كارد" من انتزاع عقد على قدر كبير من الأهمية من وزارة الدفاع الاميركية يتعلق بتصنيع مليوني بطاقة هوية رقمية مخصصة لموظفي القوات الاميركية المسلحة. وبعدها بعام، تم استبعاد المؤسسين الفرنسيين، ايف اودوبير وجان جيرار غالفيز لمصلحة رئيس مجلس الإدارة الجديد ستيفن هامفريز ما سمح لاكتيف كارد بالحصول على عقود اخرى مع البحرية الاميركية ومع عمالقة الصناعة "نورثروب غرومان" و"مايكروسوفت"، الأمر الذي عزز مواقع المساهم الرئيسي في "اكتيف - كارد"، اي صندوق التعاضد الاميركي "فيدليتي" 12 في المئة من رأس المال، خصوصاً انه من المتوقع ان تحقق المبيعات أرقاماً قياسية مع انتقال الشركة الى الولاياتالمتحدة. الأجهزة في الواجهة لقد أوجد هذا التحدي المترافق مع عمليات "الذهب التكنولوجي" الكثير من العمل لأجهزة الاستخبارات الفرنسية. ففي 6 تشرين الأول اكتوبر الماضي، أرغمت رئيسة المجموعة النووية الفرنسية "آريفا" آن لوفوجيرون على تكذيب التنازل عن النشطات المرتبطة بمجالات الدفاع التي كشفتها احدى وسائل الاعلام المحلية. وكان أن دار الحديث حول قيام الاجهزة الأمنية الفرنسية بوقف عملية البيع لأن الشريك كان اميركياً، وبالتالي توجيه اللوم لرئيسة المجموعة. انه فصل آخر من فصول هذه الحرب السرية للسيطرة على التكنولوجيا الحساسة. وضمن التوجه نفسه، قامت وزارة الدفاع الالمانية بخطوات للحد من مخاطر تحويل التكنولوجيا بشكل أحادي الجانب، بعد شراء الشركة المصنعة للغواصات "اتش دي دبليو" من قبل الصندوق الاميركي "وان ايكويتي بارتنر". ويشارك هذا التخوف المتنامي، الخبير في الشؤون الاقتصادية لدى مؤسسة "ايفري" المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، فريدريك شوالد الذي يركز على هجرة الأدمغة ويعتبرها حقيقة لا يمكن نكرانها وتجاهل خطورتها. لكنه من جهة اخرى يرى بن تحويل التكنولوجيا يسير في الاتجاهين. فحوالى 80 في المئة من براءات الاختراع مسجلة اليوم في الولاياتالمتحدة. في الوقت الذي تسعى فيه الشركات الأوروبية الى شراء تكنولوجيا ما وراء الاطلسي أو انشاء مختبراتها الخاصة. لكن واشنطن حريصة باستمرار على عدم السماح بتصدير التكنولوجيات التي تمس أمن الولاياتالمتحدة. لكن على رغم كل الشكوك الدائرة وحتى المعلومات المتوافرة، لم يتمكن أحد من تقديم الدلائل الحسية على دور "سي آي ايه" في تخطيط عمليات نهب التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة الأنظمة الدفاعية في الحضن الاميركي إذا كان الزعماء السياسيون الأوروبيون يريدون خلق "أوروبا الدفاع" فإن الاميركيون قاموا بهذا العمل بالفعل. ففي هذا السياق، حاول شارل ايدلستين، رئيس مجلس ادارة شركة "داسو - للطيران" شرح ملابسات نجاح الصناعيين الاميركيين المختصين في مجالات الدفاع جعل أوروبا حقل اختبار لمنتجاتهم. ففي ميدان الملاحة الجوية العسكرية، نجح هؤلاء في الحصول على التمويل اللازم من قبل عدد من الدول الأوروبية بريطانيا والدنمارك والنروج وايطاليا وهولندا لتمويل جزء من كلفة تطوير طائرتهم المقاتلة من طراز "إف - 35" الذي وصفه المسؤول الأول في "داسو" بأنه زاد على 4 بلايين يورو أي 85 في المئة من كلفة تطوير طائرة "رافال" الفرنسية. ويرى المحللون ان هدف الولاياتالمتحدة يتلخص بالدرجة الأولى في تهميش صناعة الطيران الحربية الأوروبية ومن ثم احكام السيطرة عليها من خلال تقديم الخدمات التي تحتاجها على الصعيد التقني. وتجدر الإشارة الى انه ليس هنالك قطاع من القطاعات الدفاعية ومنها الفضائية، نجح في التهرب من "شهية المجموعات الاميركية" بشراء 100 في المئة من رأسمال الورشة البحرية الألمانية "اتش دي دبلليو" الأولى عالمياً في تصنيع الغواصات المتقدمة، من قبل "وان ايكوتي بارتنر" هو الدليل الأخير الساطع على الاستراتيجية الاميركية. من جهة اخرى، قام الاميركيون بعملية تقديم عرض عام للشراء، يتعلق هذه المرة بالسلاح البري الأوروبي. وشهدت السنوات الخمس الاخيرة، انتقال أربع شركات مهمة الى السيطرة الاميركية وهي: السويدية "بوفورز"، والاسبانية "تسانتا باربرا" اللتان اشترتهما "يونايتد ديفينس" و"جنرال ديناميك" في العام 2000 والسويسرية "مواغ" من قبل "جنرال موتورز" في العام 1999، والنمسوية "ستاير" من قبل "جنرال ديناميكس" في العام 1998 والحبل على الجرار.