بدأت القصة في مدينة ايفري الصغيرة في ضاحية باريس التي لا يميزها عن غيرها من الضواحي الفرنسية سوى انها تقطنها أقلية مهاجرة من اصول عربية باتت مع الزمن فرنسية المواطنية وان حافظت على عاداتها وتقاليدها. وتنبّه عمدة المدينة الاشتراكي مانويل فال يوماً الى ان سوبرماركت مملوك من تاجرين من أصل عربي، يعمل تحت العلامة التجارية "فرانبري"، بشكل "فرانشايز"، لا يعرض للبيع، بخلاف المحلات الاخرى التابعة للعلامة التجارية نفسها، والمنتشرة في كل أنحاء فرنسا، الكحول ولا لحم الخنزير، فكتب لإدارة المتجر ينبّهها الى ضرورة إعادة عرض بيع الكحول ولحم الخنزير منعاً للتمييز بين الزبائن الذين يترددون على المتجر. لكن التاجرين رفضا في بادئ الأمر الخضوع لأوامر رئيس البلدية الذي يتمتع بحق إغلاق المتجر بحجة تهديد الامن الاهلي. وأصدرت الشركة المالكة للاسم التجاري بياناً تندد بتصرف التاجرين، وأرسلت اليهما كتاباً مضموناً تدعوهما لعرض "كل ما تبيعه الشركة في المحلات الاخرى". لكن الإدارة اعترفت وكذلك السلطات المحلية، بحق البائع في عرض ما يشاء من سلع داخل متجره! وانتهى الامر بأن قرر التاجران بيع المحل والانتقال للعمل في مكان آخر وتحت اسم تجاري مختلف. وانتهت القضية من دون اللجوء الى القضاء، بخلاف قضية الحجاب التي ما زالت تعود بين حين وآخر الى ساحات المحاكم. ووجدت القضية من يريد إعطاءها أبعاداً تتجاوز أبعادها الحقيقية. فعمدة المدينة وهو في الوقت نفسه نائب المنطقة في البرلمان، أراد ان يلعب على سجل العلمانية ومدح العلمانيين، مع انه من المستبعد ان يكون أحد سكان البلدة قد تقدم بشكوى رسمية له تطالبه بالتدخل لإجبار تاجر على بيع سلعة لا يبيعها في متجره. فشكوى من هذا النوع تقدم عادة الى وزارة الاقتصاد، خصوصاً ادارة حماية المستهلك ومنع الاحتكار. وأمسكت بعض الاوساط الاسلامية المتشددة بالقضية ووضعتها ضمن سياق الجو العام المناهض للاسلام في الغرب ومحاولة التلويح بها كرمز للتمييز الذي يتعرض له المسلمون في الغرب عموماً وفي فرنسا بشكل خاص. والتقطت القضية اوساط يمينية عنصرية لتلوّح بالخطر الاسلامي الزاحف على الغرب وبعدم إمكان المسلمين الفرنسيين التعايش والاندماج في المجتمع الفرنسي والعيش حسب قوانين الجمهورية العلمانية. والواقع ان الامر أقل خطورة مما أراد بعضهم الإيحاء به، فهو محصور في تطبيق قوانين وفلسفة التسويق بواسطة ال"فرانشايز"، وأخطأت الاطراف كافة بشكل او بآخر، او ان الحجج التي قدّمتها لا تنطبق على واقع الحال كما وردت. فتدخل رئيس البلدية جاء بشكل غير مبرر قانونياً وإن كان يستطيع تبريره سياسياً وفلسفياً. والشركة حاملة الاسم التجاري اخطأت في تبريراتها على رغم انها الطرف الوحيد المتضرر فعلياً من الامر بسبب الانعكاسات السلبية على اسمها التجاري، أكان تجاه العلمانيين الذين يمكنهم اتهامها بتشجيع التمييز على اساس الدين في محلاتهم التجارية، ام امام المسلمين حتى غير المتطرفين الذين يمكنهم مقاطعة محلاتها باعتبارها لا تحترم تقاليدهم الدينية، فهي برّرت الامر بضرورة مراعاة الزبائن الآخرين عوضاً عن الاعلان صراحة ان اسباباً تسويقية فقط تتعلق بالاسم التجاري تمنعها من السماح للتاجر، مستثمر اسمها التجاري، بعدم بيع اي نوع من البضائع وليس الكحول او لحم الخنزير بشكل خاص، لانه من المعروف ان صاحب أي اسم تجاري يستطيع بيع اسمه التجاري، اي اجراء عقود "فرانشايز" بسبب السمعة التجارية للإسم، وفيما يتعلق بالسوبرماركت المنتشرة في الاحياء فإن أحد أهم مقومات شهرتها وجود كثير من السلع المعروفة فيها بحيث يستطيع الزبون تأمين كل مشترياته من داخلها. وفي حال بدأت هذه الصورة بالتفسّخ، او دخل الشك في نفس الزبون من إمكان شراء او عدم شراء سلعة ما أياً كانت السلعة المفترض ان توجد فإن القيمة التجارية للاسم التجاري تتراجع. وبالنسبة الى اصحاب المتجر الذين دفعوا غالياً ثمن الاسم التجاري فإن هذه الاسباب التي امتنعت الشركة عن تقديمها والتي تعطيها الحق الكامل امام أي محكمة باسترجاع اسمها بسبب مخاطر تراجع قيمته التجارية، كانت وراء شرائهم للاسم التجاري. فإذا كانوا يودون الاكتفاء ببيع السلع الحلال، وهذا ما يكفله لهم القانون، ويوجد في فرنسا العديد من المحلات التي لا تبيع إلا السلع المخصصة للمسلمين، خصوصاً لحم الحلال، كما توجد محلات مخصصة لليهود، فما كان عليهم ان يعمدوا الى شراء اسم تجاري بنى كل شهرته على بيع تشكيلة واسعة جداً من السلع الاستهلاكية التي تسد حاجة زبائن المناطق السكنية. ويتعلق الامر كذلك برخصة عمل السوبرماركت في فرنسا وغيرها من الدول التي أقرت قوانين لحماية المحلات الصغيرة، فعدد السوبرماركت المسموح بها محصور لا يمكن ان يتجاوز العدد الذي تقرره السلطات، ومناطق تواجدها محصورة ايضاً مثل الصيدليات ومحلات بيع السجائر لحماية المحلات الصغيرة، وفي حال ترك الامر لكل سوبرماركت ان يبيع فقط مواد معينة دون غيرها، في الوقت الذي يمنع فتح اي سوبرماركت آخر على مسافة معينة منه، فان ذلك يعني ان عدداً من السلع لن يكون متوافراً ضمن مساحة الاجازة المعطاة للسوبرماركت ما يجبر الزبائن على الانتقال بعيداً لشراء السلع التي يحتاجونها وهذا ما تعتبره ادارة حماية المستهلك إخلالاً بالتنافس المشروع وضرراً للمستهلكين، وكان أجدر للأطراف الثلاثة اللجوء الى القانون عوضاً عن اقحام الدين في الامر