أمر غير عادي يحدث في سجن مجدو العسكري في اسرائيل. فللمرة الأولى في تاريخها، قررت ادارة السجن التزام القوانين الدولية تجاه الأسرى الفلسطينيين. فقط في هذا السجن. وفقط بعد معارك ضارية وقعت بينهما، سالت فيها دماء كثيرة وانفجرت قنابل مسيلة للدموع. فقد اجتمع قادة الطرفين، إدارة السجن من جهة وقيادة السجناء من جهة ثانية، وتوصلوا الى "اتفاق سلام" مبني على الاحترام المتبادل: إدارة السجن تحترم حقوق السجناء وتتعامل معهم بانسانية، والسجناء يحترمون أنظمة السجن الاساسية ويلتزمون الهدوء التام. النتيجة، كما يقول الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي وكذلك الناطق بلسان السجناء، رائعة، إذ "هناك سلام منزلي حقيقي بيننا وبينهم منذ حوالي السنة". لكن هذا الهدوء يغيظ قوى اليمين المتطرف في اسرائيل ويقض مضاجعها. فهي تريد الهدوء إذا كان مبنياً على اخضاع السجناء بالبسطار والدوس على رقابهم. لا تطيق أي تعامل انساني معهم. وتريد ان يعاقبوا يوميا، اضافة الى عقاب حجب الحرية. لذلك يحتجون. ويجمعون الشهادات من الجنود الذين عملوا في حراسة السجن حتى يثبتوا ان هناك خللاً خطيراً في التعامل: "السجناء الفلسطينيون القتلة يعيشون ظروفا أفضل منا نحن حراس السجن"، يقولون. مع العلم أن الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي يؤكد ان ما يُقدم للسجناء الفلسطينيين ليس امتيازاً، بل التزام بالمواثيق الدولية. عندما قررت السلطات الاسرائيلية في العام 1988 فتح سجن مجدو لتزج فيه مئات الفلسطينيين الذين تصدوا لدبابات الاحتلال بالحجارة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كان سجن عتليت الذي أغلقته الحكومة الاسرائيلية قد حظي بلقب أقسى السجون الاسرائيلية، ولكن سرعان ما خطف سجن مجدو هذه الصفة ليتحول الى السجن الأكثر بشاعة وقسوة بين سجون الاحتلال. من يرسل اليه يعرف انه لن يخرج سليماً. فإن لم يعوقه التعذيب، يصاب بالمرض. فعلى مدى اكثر من عشر سنوات نجح الاسرائيليون في استعمال هذا السجن كوسيلة انتقام من الفلسطينيين فزجوهم وراء قضبانه من دون ان يوفروا فيه الحد الادنى من الظروف الانسانية. فعاش المعتقلون في ظروف قاسية جدا من الاكتظاظ وسوء العلاج واهمال المرضى بشكل هدد صحة كثيرين منهم فامضوا أياماً طويلة بلا كهرباء وماء عقاباً لهم. أما الغرف فكانت عبارة عن خيم لا تصمد أمام أشعة الشمس الحارقة في الصيف والبرد القارس في الشتاء. وفوق هذا كله تعرض السجناء لأبشع وسائل التعذيب، من سكب المياه الباردة عليهم في الطقس الماطر والمياه الساخنة في الصيف والشبح والهز والتحقيق لساعات متواصلة، وغيرها من الاساليب التي تحظرها القوانين الدولية ومن ثم المحكمة الاسرائيلية العليا. وبات هذا السجن هدفاً اسرائيلياً للانتقام من المقاومين الفلسطينيين فحولت اليه سلطات الجيش معظمهم، خصوصاً أولئك الذين تسميهم أخطر المقاومين الفلسطينيين الذي يشكلون تهديداً لأمن إسرائيل، وهم بالمئات، معظمهم متهمون بالتخطيط لتنفيذ عمليات انتحارية قتل فيها العشرات من الاسرائيليين او بوضع عبوات ناسفة او اطلاق رصاص على الجنود الاسرائيليين. أكثر من عشر سنوات اتبعت أثناءها السلطات الاسرائيلية اساليب القمع والتنكيل التي لم يعد يطيقها الاسرى. فصاروا يحتجون ويعارضون ويرفضون. بل جعلوه اكثر السجون التي شهدت حالات تمرد ومقاومة فوقعت عشرات الصدامات التي أدت إلى اصابة معتقلين وسجانين. وكانت ادارة السجن تدفع بقوات كبيرة من الجنود والشرطة الى غرف المعتقلين فينهالون عليهم بالضرب، وعندما لا ينجحون في اخماد غضب المعتقلين كانوا يحضرون الغاز المسيل للدموع وانابيب المياه ومن ثم يبدأ العقاب الجماعي بزج المعتقلين داخل زنازين انفرادية لايام طويلة ومن دون السماح لهم بالخروج منها حتى للراحة ساعة في اليوم. ولم يسلم من العقاب حتى أهالي الأسرى، فهؤلاء الذين كانوا يصلون الى السجن بعد ساعات طويلة من السفر تعترضهم خلالها قوات الاحتلال وتفرض عليهم سلسلة من عمليات التفتيش والتأخير والاذلال، وعندما يصلون الى السجن تبدأ مرحلة اذلال أخرى بتركهم تحت أشعة الشمس أو في الطقس الماطر ينتظرون ساعات طويلة حتى يسمح لهم بالدخول وأحياناً يمنعونهم من ذلك بحجة ان ابنهم المعتقل محروم من الزيارة بسبب مشكلة معه او لوضعه داخل الزنزانة. وحتى عندما يدخلون لم يسمحوا لهم بالبقاء طوال الفترة المسموحة. هذا الوضع ميز سجن مجدو طوال أكثر من عشر سنوات وجعله يتصدر عناوين وسائل الاعلام الاسرائيلية بشكل مستمر أكثر من بقية السجون الإسرائيلية العسكرية الخاصة بالسجناء الفلسطينيين الأمنيين. ولكن سجن مجدو هذا لم يعد ذلك السجن الذي عرفناه خلال الفترة الزمنية الطويلة، على رغم ان معظم المعتقلين الفلسطينيين هم انفسهم الذين عايشوا تلك الفترة. فقد انقلب الوضع رأساً على عقب. كيف؟ السر في هذا التغيير يكمن في تعيين ادارة جديدة للسجن حملت معها سياسة جديدة، وقررت ان تحاول اتباع أسلوب انساني مع الأسرى الفلسطينيين، لعل ذلك يضع حداً للصدام الدائم بين الطرفين الذي يكلف اسرائيل ثمناً باهظاً، معنوياً وسياسياً واقتصادياً. ووجدت لدى السجناء الفلسطينيين اذاناً صاغية. فهم أيضاً بدأوا يتغيرون ويشعرون بالحاجة الى سلام منزلي، "فهذا افضل للطرفين"، حسبما قال احدهم. وبدت النتيجة واضحة. تحية فلسطين في سجن مجدو يوجد اليوم 1180 سجيناً، 470 منهم من حركة "فتح" و430 من "حماس" و110 من "الجهاد الاسلامي" و170 من الديموقراطية والشعبية. بين هؤلاء هناك 30 فتى في جيل يراوح عمره بين 14 و16 عاماً. مشكلة الاكتظاظ لم تعد موجودة كما كانت سابقاً. بعضهم موجود في غرف وهناك من ينام داخل خيم، لكنها، كما يقولون، غير مزعجة ولا يشعرون بفرق عن الغرف. المعتقل معتصم أحمد داوود الذي يقضي خمس سنوات في السجن وهو عضو في لجنة الحوار التي تمثل المعتقلين وتضم ممثلين عن جميع الفصائل الفلسطينية، يقول إن التفاهم بين اللجنة والادارة جعلت ظروف المعتقلين أفضل مما كانت عليه سابقا. ويضيف: "في مطلع العام 2001 وقعت مواجهات شديدة بين المعتقلين وقوات من الجيش والشرطة وكانت أعنف المواجهات التي عرفناها في السجن، أصيب خلالها عدد كبير من المعتقلين والشرطة. بعد ذلك لم يكن أمام الادارة إلا الجلوس مع المعتقلين والتفاهم معهم ووجدنا، نحن والادارة، ان الافضل التفاهم وايجاد صيغة اتفاق وقواعد وانظمة تمنع مثل هذه الصدامات. وطبعاً الأمر الأساسي يبقى في ضمان حقوقنا وعدم استعمال اساليب التنكيل والعقاب والحرمان. وكما يبدو فإن ادارة السجن وصلت الى قناعة ان القوة والعنف لا يأتيان بنتيجة بل يزيداننا عنفاً ومقاومة. ولا شك ان الافضل لهم الابتعاد عن أي اسلوب استفزازي للسجناء وهذا ما حصل". ويقول محدثنا ان السجناء سعوا إلى عدم إحداث أية مشكلة بينهم وبين الادارة وعليه "أقمنا نظاماً خاصاً بنا يتمثل بوجود لجنة حوار تمثل السجناء تجاه الادارة، والأخيرة لا تتدخل في شؤون السجناء الا بواسطة اللجنة". النظام الاسرائيلي داخل السجون لا يسمح بتدخل اي سجين في مشكلة تتعلق بزميل له في السجن، فوقوع أية مشكلة يعني فتح ملف للسجناء ذوي العلاقة بالمشكلة وتفرض عليهم الادارة العقاب الذي تجده مناسباً ولا يوجد أي نظام خاص لكل غرفة او ممثل عنها. فالسجان يملك صلاحية دخول الغرفة في أي وقت واجراء تفتيش واحصاء السجناء حسب النظام المتبع في السجون. أما في سجن مجدو فالوضع يختلف تماماً بفضل هذا الاتفاق. السجان يدخل الى الغرفة واذا كان المساجين نياماً فلا يوقظهم، كما هو متبع، إنما يقوم بتعدادهم وهم في أسرتهم. وفي حال قيام سجين بتصرف لا يرضي السجانين، فإن حل المشكلة يكون عبر الشاويش، بكلمات أخرى كل مشكلة تنتهي بمصالحة مع السجناء. ولا يقتصر هذا الاحترام في التعامل على السجانين، بل على مدير السجن ونائبه، وكما قال معتصم داوود ابو مروان، فإن لجنة الحوار تجري كل شهر اجتماعاً مع مدير السجن ونائبه ويتم الاتفاق على كل القضايا في محاولة لمنع أية مشكلة. ويضيف: "بصراحة نحن هنا توصلنا الى قناعة بضرورة التفاهم مع الادارة فمعظمنا يقضي فترات طويلة من السجن من مؤبد وعشرات السنين الى 7-8 سنين في الحد الأدنى. ونحن بحاجة ان نعيش في وضع نستطيع فيه تحمل هذه السنوات القاسية بعيداً عن عائلاتنا وأولادنا ولا عيب بالتفاهم". ويقول ابو مروان إن الاتفاق بين كل التنظيمات داخل السجن يقضي بعدم احداث ردود فعل على ما يجري في الخارج بين الإسرائيليين والفلسطينيين". ويضيف: "دخلنا السجن بسبب مواقفنا الوطنية وقناعتنا بضرورة تحرير الأرض من الاحتلال وقدمنا قسطنا من هذا النضال ووصلنا الى السجن ووجودنا هنا هو بحد ذاته نضال، فعلى الأقل علينا الحفاظ على أنفسنا حتى نخرج من هذا السجن أقوياء. لقد شاهدنا العشرات من السجناء الفلسطينيين الذين دخلوا السجون الاسرائيلية أقوياء كالصخر وخرجوا منها لا حول لهم ولا قوة، لذلك توصلنا الى قناعة بضرورة التفاهم واتباع سياسة ديبلوماسية خاصة مع الادارة نستطيع من خلالها قضاء وقتنا بشكل مريح من دون التنازل عن أي حق لنا والسعي دائماً لضمان حقوقنا في ظروف جيدة ونوم مريح وطعام مفيد وعلاج صحي يمنع تدهور صحة المرضى". في ساعات الصباح ينهض المعتقلون في الوقت المريح لكل واحد، وفي ساعة محددة متفق عليها يخرجون الى ساحة السجن، يقفون صفاً واحداً يؤدون السلام لتحية للوطن فلسطين ثم يبدأون يومهم. وجودهم في الساحة مسموح طوال ساعات اليوم خلافاً للنظام المتبع في كل السجون الاسرائيلية، حيث يحدد وقت السجناء في الساحة. هم المسؤولون عن طبخ الطعام للسجناء. الادارة توفر المطبخ والادوات والخضروات واللحوم، وهم يعدون الطعام. لذلك فهو متوافر لديهم دائماً. وهو أفضل من طعام جنود الاحتياط الذين يخدمون في هذا السجن، الأمر الذي يثير غضبهم. كميات الخبز التي تصل الى السجن كبيرة تكفي حاجات الجميع. المشروبات الباردة متوافرة بكل اصنافها وبكثرة. الشوكولا والحليب والحلويات أيضاً متوافرة بشكل مميز عن أي سجن آخر، فبالإضافة الى ما يوفره السجن، تقوم السلطة الفلسطينية والمؤسسات الفاعلة لدعم الأسير مختلف الحاجيات لهؤلاء الاسرى. أحد جنود الاحتياط الذي وصل للخدمة في هذا السجن يتحدث بحقد ويقول: "ببساطة انهم ملوك. نحن نتناول طعام الجيش، وهو معروف لكم، وهم، المعتقلون الأمنيون، يتناولون افخر الطعام وبكميات كبيرة يذهب معظمها الى سلة المهملات. ببساطة نحن نأكل انفسنا من الغيرة عندما نشاهد حياتهم داخل السجن". ويتحدث هذا الجندي عن حادث وقع الشهر الماضي في سجن مجدو اعتبره دليلاً على سيطرة المعتقلين، وقال: "الويل إذا تأخر موعد وصول حاجيات المعتقلين من طعام وغيره. فقبل فترة تأخر المسؤول عن ايصال البندورة فاحتج المعتقلون ورفضوا ان تجري عملية العد المتبعة يومياً، وفقط بعد مفاوضات طويلة معهم، خلالها وصلت كمية البندورة، تمكن السجان من تنفيذ عملية العد". هذا التعامل ينسحب أيضاً على مدير السجن ونائبه اللذين يتعاملان باحترام مع المعتقلين. فخلال عيد الفطر المبارك عندما كان المعتقلون الأمنيون في سجن "هداريم" يحتجون أمام الإدارة لمنعهم من تأدية صلاة العيد كان مدير سجن مجدو يحضر الحلويات ويقوم بجولة مع نائبه على كل غرف المعتقلين لتقديم المعايدة لهم. "صحيح انهم يتعاملون معنا بهذا الشكل ونحن نحاول أن نخفف قدر الإمكان من معاناتنا لقضاء هذه السنوات القاسية"، قال ابو مروان، واضاف: "لكن السجن يبقى سجناً. كل منا بعيد عن عائلته. في كل يوم نسمع الأخبار ونشاهد الصور التي تقشعر لها الابدان عن معاناة شعبنا، ونحن نجلس داخل سجن لا نعرف متى ستستمر هذه المعاملة معنا. ربما يتغير مدير أو تأتي إدارة كلها جديدة عندها سنحرم حتى من شرب المياه. لا يغيب عنا ولا للحظة واحدة اننا وراء القضبان واننا في نهاية المطاف داخل سجن الاحتلال" وحدة خاصة لقمع التمرد في الوقت الذي يعيش فيه سجن مجدو ظروفاً مريحة نسبياً، وهذه حالة نادرة، انكبت مصلحة السجون الاسرائيلية على اعداد فرقة من الجنود لقمع التمرد الفلسطيني المتوقع داخل هذه السجون. وسجن مجدو عسكري، تابع للجيش مباشرة. لكن بقية السجون تابعة لمصلحة السجون الخاضعة لنظام بيروقراطي قديم ينخره سوس العداء والاستعلاء في عظمه. لذلك، وعلى عكس الادارة العسكرية في مجدو، فإن إدارة مصلحة السجون اقامت وحدة عسكرية خاصة مقاتلة مهمتها تصفية أي تمرد بالقوة. وتدعى الوحدة "نحشون" وتضم 122 مقاتلاً، وهي تعمل منذ بضعة أشهر. في البداية قالوا إن مهمتها قمع التمرد. ولكن، عندما لم يكن هناك تمرد ولم تكن بالتالي حاجة للقمع قرروا تشغيلها وعدم ابقائها عاطلة عن العمل. فكلفوها بعمليات تفتيش وتحقيق مع السجناء، فإذا غضب سجين وشتم سجاناً تم استدعاء هذه الوحدة، فيسحبونه من داخل غرفته الى الزنازين، بعد اشباعه ضرباً. وقد اقتحموا، بحجج واهية، خمسة سجون على الأقل منذ ان اعلنوا عن تشكيل هذه الوحدة القتالية. والحبل على الجرار. إذ أنهم يريدون كسر شوكة السجناء وتغيير انظمة حياتهم. يريدونهم اذلاء. هنا لا احترام للمواثيق الدولية أو لحقوق الإنسان أو الأسير، والأمور التي تم الاتفاق على تقديمها للسجناء الفلسطينيين في سجن مجدو، تعتبر من المحرمات في السجون، والمطالبة بها او الاحتجاج على عدم تحقيقها يعتبر جريمة تتدخل وحدة "نحشون" لمعاقبتهم عليها.