تشهد باريس في هذه الأيام أحداثاً موسيقية طريفة، فعلى سبيل المثال، زارها وودي آلن مع فرقة موسيقية من نوع "الجاز باند" لإحياء سهرتين صاخبتين فوق خشبة مسرح "شانزليزيه". وإذا كانت عبقرية آلن السينمائية ليست موضع شك، إلا أن عزفه على الكلارينت متوسط جداً، غير أن آلن يحيط نفسه بموسيقيين موهوبين إلى أبعد حد، وعلى العموم فالجمهور يقبل على سهراته الموسيقية بهدف رؤيته أكثر من سماعه. الحدث الآخر المشابه للأول هو قيام المخرج دافيد لينش، صاحب الأفلام المعقدة الفائزة بجوائز عالمية في أكبر المناسبات، باحتلال خشبة قاعة "اولمبيا" الباريسية الشهيرة لسهرة واحدة بيعت كل بطاقاتها قبل شهر من يوم الحفل، من أجل اعطاء "كونشرتو" من الموسيقى الحديثة مع عازف ثانٍ. وهنا أيضاً يأتي المتفرج ليرى لينش أكثر من سماعه، خصوصاً أنه يعزف بشكل أقل جودة من زميله وودي آلن. ودافيد لينش هو أحد عباقرة السينما في العالم، يستوحي من فرويد وعلم النفس سيناريوهات أفلامه ويطرح بواسطة الدراما الساخرة مشاكل الإنسان في قلب المجتمع. وفي حياته الشخصية عرف لينش ألف مشكلة وفضيحة حينما وقع في غرام ايزابيلا روسلليني، ابنة النجمة الراحلة انغريد برغمان والسينمائي الايطالي الراحل روبرتو روسيلليني، إذ رفعت زوجته في ذلك الحين دعوى قضائية ضده بتهمة الخيانة، وانتهى الموضوع بدفع لينش نفقة باهظة لمطلقته، لكنه في المقابل استطاع الزواج من ايزابيلا، الأمر الذي لم يمنعه من الانفصال عنها في ما بعد. ووصفته روسلليني بأنه عبقري بين العباقرة، فهو الرجل الذي يصور أفلامه مثلما يرسم الفنان لوحته الزيتية يعبر فيها عن جنونه وخياله المستحيل ولا يطلب من غيره أن يفهم هذا التصور أبداً. فأفلام لينش معروفة بغموضها التام الذي يكلل جمال لقطاتها. والذي فعله الرجل اثر زواجه من روسلليني هو تسخيرها لخدمة فنه أمام الكاميرا، فأعطاها الدور الرئيسي في أحد أهم أفلامه إلى اليوم "بلو فلفت". وكان هذا الدور كافياً لايزابيلا كي تمرض ويختل توازنها النفسي، إلى درجة أنها احتاجت إلى علاج دام سنتين حتى تستعيد قواها العقلية كاملة. وسبب الحكاية أن مضمون الفيلم صعب، فكله جنون بجنون، ولقطاته الاباحية لا أول لها ولا آخر وكلها تظهر فيها ايزابيلا وتعاني فيها من سادية الرجال الذين يحيطون بها، والشيء الذي أدى إلى اختلال ايزابيلا أكثر من غيره وقوف زوجها وشريك حياتها وراء الكاميرا يديرها ويطلب منها إعادة المشاهد مرات ومرات إذا لم يعجبه الأمر. وفي النهاية لم تستطع روسلليني أن تتحمل عبقرية لينش وتصوره للحياة الزوجية والتداخل الذي يفرضه بين الحب والعمل، فغادرته مكرهة. وفي مهرجان "كان 2002" ترأس لينش لجنة التحكيم بعدما عرض فيلمه الأخير "مالهولاند درايف" بنجاح في العام 2001 وفاز بجائزة أحسن سيناريو. والطريف في حكاية لينش أنه على رغم عبقريته المعترف بها في العالم، فهو لا يعثر على أي تمويل لأعماله السينمائية، خصوصاً في بلاده أميركا. ولولا السينما الفرنسية والمنتج آلان سارد لما شاهد الجمهور أي فيلم من اخراج لينش. فالشركات المنتجة في هوليوود لا تحبذ المجازفة العفوية غير المدروسة وغير المبنية على احتمال الربح الوفير من وراء كل دولار مصروف. أما المنتجون الأوروبيون والفرنسيون بشكل خاص، وإن كانوا يفتشون بطبيعة الحال عن المكسب المادي، فهم عموماً لا يترددون عن مواجهة المجازفة في حال وقوعهم في غرام سيناريو محدد أو فنان معين عبر أعماله السابقة. ولا يكف لينش عن حصد الجوائز أينما تردد في المهرجانات والمناسبات السينمائية الدولية، وهو أمر مفهوم إذا عرفنا أنه صاحب أفلام "توين بيكس" و"ايرازرهيد" و"اليفانت مان" و"بلو فيلفت" و"لوست هايواي" و"وايلد آت هارت" و"ستريت ستوري"، وغيرها من الأعمال الناجحة التي رفعت مخرجها إلى مرتبة فنان عالمي يعمل على هامش السينما الهوليوودية ويصور أفلامه بموازنات زهيدة بعيدة عن فخامة الأعمال الأميركية من نوع "تايتانيك" أو "حرب الكواكب" مثلاً. ولا تمنع الوسائل المادية المحدودة دافيد لينش من اللجوء إلى أكبر نجوم هوليوود، مثل باتريسيا اركيت بطلة فيله قبل الأخير، وبيل بولمان ونيكولاس كيج ولورا ديرن وجون هورت، وهم يقبلون الظهور في أفلامه بأجر بسيط وبصدر رحب. "الوسط" سعت إلى لقاء لينش في باريس لاجراء حديث مع السينمائي المحترف والعازف الهاوي، يدور حول الفن السابع أكثر مما يتناول مشاريعه الموسيقية. سؤال موسيقي واحد قبل أن ندخل في تفاصيل حياتك وأعمالك السينمائية، فما هو سبب قدومك إلى باريس لاحياء سهرة في قاعة "اولمبيا" التي استقبلت على مدى نصف قرن أكبر عباقرة الغناء والعزف؟ - أنا أعرف ان الجمهور، وحتى أهل الإعلام وزملائي من الفنانين، لا يعيرون أي أهمية حقيقية لنشاطي في عالم الموسيقى، لكنني أعشق الموسيقى وأتدرب عليها بشكل يومي منذ عشرين سنة. فأنا أهوى البيانو وآلات النفخ وحتى الغناء، لكنني لا أتمادى إلى درجة أن أجرح آذان جمهوري بممارسة هذا النشاط الأخير فوق المسرح. وهذا الشيء يكمل هواياتي الفنية بشكل عام، فأنا رسام ونحات وسينمائي وموسيقي، وأنا مقتنع جداً بكل ذلك حتى إذا كانت موهبتي في الاخراج أكبر أو على الأقل نالت شهرة أكبر من قدراتي الأخرى. وأنا سعيد جداً بالعزف في باريس وفي مسرح "اولمبيا" بشكل خاص في إطار جولتي الأوروبية الحالية. بالنسبة إلى السينما أنت تمنح صورة عن الوسط الفني، خصوصاً السينمائي في أفلامك الأخيرة، لا سيما "مالهولاند درايف" و"لوست هايواي" تتلخص في السهرات الصاخبة، فهل تناسب هذه الصورة الواقع الهوليوودي الحالي؟ - نعم إلى حد ما، مما يلا يعني أن جميع أهل الفن يعيشون بهذه الطريقة طبعاً، لكن هناك فئة لا بأس بها، ليس فقط من الفنانين، بل أيضاً من نجوم السياسة والرياضة والأعمال، يطمعون في النجومية من دون أن يحبوا عملهم أو يحاولوا استحقاق شهرتهم. إنها نجومية رخيصة جداً تفتح أمامهم أبواب الملذات الرخيصة أيضاً، وهذا ما أفضحه في أعمالي. من الواضح أنك تسخر من النجومية بشكل عام، وأنت نجم مرموق عالمياً، فما الذي لا يعجبك في هذا الوضع؟ - أنا فعلاً مشهور، لكنني نادراً ما أظهر في برامج تلفزيونية لأتحدث عن هذا الشيء أو ذاك، ولأبدي رأيي في السياسة والمشاكل الاجتماعية أو حتى الأعمال الفنية. وأكره أن يتبعني المصورون أينما توجهت مثلما فعلوا في "كان" العام الماضي عندما جئت لأقدم فيلمي "مالهولاند درايف". إن النجومية في حد ذاتها لا تضايقني، ولكن الأمر الذي يزعجني والذي ألاحظه في هذه الأيام، وعلى رغم كوني لا الاحظ أي شيء عموماً، هو اصابة رجال الأعمال والذين يعملون في ميدان القضاء وأصحاب المطاعم والمتاجر الكبيرة وغيرهم، بمرض النجومية الذي تتلخص أعراضه في القدوم إلى التلفزيون لتفسير الكثير من القضايا التي لا تخصهم على الاطلاق، وكأن الطباخ الماهر الذي يعمل لحساب فندق فاخر يفهم أيضاً في السياسة الدولية والموسيقى والفلك والطب لمجرد أنه نجح في ميدان محدد. ولأنني شخصياً لا أفهم ما الذي يحدث مع حال الجنون التي تصيب مجتمعنا الحديث، لا سيما في الولاياتالمتحدة، أشعر بحاجة ماسة إلى التعبير عن هذه الظاهرة بشكل سينمائي، لذلك أخرجت "توين بيكس" ومن بعده "لوست هايواي" وثم "مالهولاند درايف" حول الموضوع. ولماذا أخرجت الكثير من لقطات "لوست هايواي" مثلاً بطريقة التصوير البطيء؟ - يرمز التصوير البطيء في ذهني إلى الرومانسية، ولأن حبكة الفيلم مجردة تماماً من أي رومانسية على غرار مجتمعنا الحالي، فكرت في ضرورة التلميح من خلال التصوير إلى الحلم الذي يدور في خيالي وتسليط الضوء على التناقض الموجود بين الواقع وما أتمناه. ألا تعثر أبداً على الرومانسية في الولاياتالمتحدة؟ - أنا ولدت في أميركا وعرفتها في الأربعينات والخمسينات، وأؤكد لك أن بعض الأماكن هناك كانت تفوق باريس من ناحية الرومانسية، بينما تحولت الآن إلى ملتقى رجال الأعمال والفنانين الذين يسعون وراء الشهرة بأي ثمن. من المعروف عنك انك تشرك أكبر النجوم في أفلامك ولكن بأجر زهيد لا علاقة له بما يطلبونه عادة، فكيف تنجح في اقناعهم بالتعاون معك؟ - لا بد من توجيه سؤالك إليهم، فأنا شخصياً لا أحاول اقناعهم وكل ما أفعله هو عرض أحد الأدوار عليهم وتحديد شروطي المادية غير القابلة إلى إعادة النظر منذ البداية. أما عن سبب قبولهم بلا تردد فلا أعرفه ولا يهمني أن أعرفه في الحقيقة طالما انني أحصل على ما أريده. وماذا عن اختيارك ايزابيلا روسلليني، زوجتك في حينه، بطلة لفيلمك "بلو فيلفت"؟ - أنا أواجه هذا السؤال في كل لقاء صحافي أعقده، وأكرر دوماً الاجابة نفسها، وهي انني فكرت في تعيين ايزابيلا في الفيلم المذكور قبل أن أتزوجها. والفيلم هو صاحب الفضل أساساً في وقوعنا في غرام بعضنا البعض، فلا علاقة بين زواجنا واختياري لها بالمرة. وبالمناسبة أود التأكيد أنها، وإن كنا قد انفصلنا، امرأة هائلة وكريمة لا تنسى الأصدقاء والأحباء