يستحق المعرض البانورامي الذي تقيمه "المكتبة الوطنية" في باريس أكثر من زيارة. ولعله من الفرص النادرة التي يمكننا فيها مقارنة ما وصل إليه "التيار الحروفي" من تراجع وانحطاط، بموجاته الاستهلاكية التي احتشدت في دكاكين الثقافة التشكيلية السائدة، مع التاريخ الزاهي ل "صناعة الكتاب العربي"، وهو عنوان المعرض الذي يقام في مكان عريق من معاقل الثقافة الفرنسيّة، يدفع إلى طرح عدد من التساؤلات حول سرّ تفشّي النزعة الاستشراقية في واقعنا التشكيلي الراهن. تطالعنا في المعرض صور الخطاط العراقي غني العاني ممسكاً بقصبة التخطيط يحيك عبارة: "الخط لسان اليد". ونقرأ الترجمة بالفرنسية على النحو الأعجمي الآتي: "فن التخطيط هو لغة اليد"، فيخسر المعنى من زخمه، ويضيع في الارتباك الاستشراقي الذي تفرضه التورية الأدبية، هذه حال المعرض، مادته الثرية موشحة بالكثير من الأحكام الاغترابية المسبقة. وهذه أيضاً حال من كانوا يرطنون باللغة العربية، فوضع لهم أبو الأسود الدؤلي مساعدات الكتابة ومبسطات النطق عن طريق اختراع "التنقيط" وبدعة "التحريك" وسواهما. هكذا خرج الخط العربي من إنغلاق طرازه الكوفي الحجازي الأول، ليقفز بطرزه وأقلامه الجديدة عبر القارات والحضارات. كان أول هذه الطرز "الطومار" في العهد الأموي، وكان آخرها ديوانيات الأستانة والباب العالي، عبوراً بمحطات أقلام النسخ والثلث والريحاني والرقع والنصطليق الفارسي والنيسابوري والمغربي الأندلسي. ثم تزاوجه مع الزخارف في العهد المملوكي، حتى توصّل مع الكوفي المربّع الى أحابيل ألهمت فنون "الوهم البصري"، خصوصاً لدى فازاريللي ومدرسة "الباوهاوس". ولعل أبلغ هذه الطرز كان "النسخي"، قعّده الوزير العباسي الخطاط ابن مقله، ليسهّل بدوره القراءة ونسخ القرآن الكريم، واحتفظ بالنسخة الأم في الديوان المركزي قبل ان يعتمدها في النسخ التالية، وهي محفوظة اليوم في مكتبة دوبلين. كما نحفظ تدريباته الورقية وفق عدد ومسافات النقط. ورغم التلهف الكبير الى تلمّس ما حفلت به كنوز الكتب في مخازن المكتبة الوطنية فإن تعسف التنظيرات الاستشراقية أوقعت هذه الثروة سبعة آلاف ومئتين من أمهات كتب العلوم وسواها من جديد تحت سنابك هولاكو. كانت بغداد آنذاك قبلة البشر الوافدين من آفاق حضارية متباعدة، وكانت من أكثف حواضر المعمورة، إذ وصل سكانها إلى المليونين وتجاوز عدد مكتباتها العامة المئة. وإذا بهولاكو يحوّلها اهرامات من الجماجم، ويرمي برماد ومداد مكتباتها في مياه دجلة حتى اصطبغت بلون الحداد. ونجت مكتبات الأندلس لبعدها عن الهجمة، وظلت مكتبة قرطبة وجامعاتها مأمناً لما بقي من نسخ البيروني وابن رشد وابن سينا وغيرهم. واليوم، ونحن نقف أمام تجربة العاني، نستعيد العصر الذهبي للخط العربي. فهو المنشد الجوال و"التروبادور" الخطاط الذي تحمل يده وقلبه وصيّة آخر فرسان الخط. المعلم هاشم الخطاط او البغدادي، لقنه أصول قلم الثلث سلطان الخطوط، لذا نستعيد في المعرض مناخات مكتبات الأندلس ودمشق والقاهرة. وعندما طلبت ادارة المعرض التعاون مع غني العاني، كان عزاؤه الوحيد معاقرة رفيف صفحات ابن البواب وابن مقله والمستعصمي التي طالما حلم بأشباحها، محاولاً كل مرة الاختلاء في معتكفات هؤلاء الذي نذروا أنفسهم للقلم. كما استعاد بلا شكّ سيرة الوزير العباسي ابن مقله الذي قطعت يده اليمنى بنميمة حاسديه، فنسخ ستين نسخة من القرآن الكريم قبل ان تقطع يده اليسرى ويموت. ونلاحظ هنا كم أن ضرائب هذه الحضارة الخطية والكتابية باهظة، وكم دفع أهل صناعة الخط من البلاء والتنكيل. وها هو "خطاطنا التائه" يعاني اليوم من تعسف المؤسسة الاستشراقية. يضللنا مستشرقو المكتبة الوطنية في بدايات كل ما يتعلق بالخط العربي. فمن المعروف بخصوص "الورق"، انه انتقل الى المسلمين من الصينيين الذين أسروا في سمرقند العام 751 م، فباحوا بأسرار صناعته. وكان أن تأسس هناك أول مصنع للورق، قبل ان ينتشر بسرعة في مختلف الحواضر المتباعدة. لا ينفي المعرض ذلك، لكنه يؤكّد أن الصينيين لا يحتكرون هذا الاختراع وأنه "ربما"، و"قد يكون"، و"ليس مستبعداً": ان تكون فلسطين أسبق! هكذا من دون أي اثبات مادي، ما يتركنا معلّقين بحبال الهواء شأننا في ذلك شأن حكاية هيكل سليمان. ولا شك في أن المقصود من هذا الادعاء التمهيد لنسب اختراع الورق إلى العبريين! ولكن كيف بإمكانهم انتزاع فلكية الورق والحرير التي ترجع على الأقل الى أول القرن الميلادي، ثم ارتباطه برسومهم، وعملاتهم الورقية الأولى في العالم والتي تدعى، حسبما يروي ابن بطوطة "الكاغد"، يروي كذلك انهم يصنعون من الورق الملوّن زهور الصيف والشتاء، أما العسس منهم فيوزعون صورة العابرين للتحقق من حركتهم وهكذا. كان للصينيين شراكة في ازدهار فن المنمنمات العربي والاسلامي، للنظر الى عيون الشخصيات الواسطي الصينية، ولنتذكر صناعهم في بلاد التصوير المغولي والصفوي وحتى العثماني. يكفي ان نقارن صورة العنقاء - السيمورغ بطائرهم الخرافي حتى ندرك ان اغفال شراكتهم، خصوصاً في طرز الخط هو نوع من الجحود العنصري. أما بخصوص الكتابة العربية، فمن العبث وضع حدود لميلادها مثل أية أبجدية سامية، انطلقت من نسغ النبطية نقش فمارة وشاهدة امرئ القيس، مباشرة قبل ان توحدها مصاحف عثمان حتى لا يرطن الأعاجم بكتابتها. من البديهي اتصالها بخط المسند - الجزم الجنوبي الثمودي القحطاني قبل الميلاد بقرون، واتصالها البعيد بالخط السينائي، والأصل النبطي يقودنا الى الشجرة الآرامية - السريانية، وهي كتابة المسيحيين العرب حتى اليوم النساطرة واليعاقبة والموارنة. وهذا ما دعي جملة وتفصيلاً بالمالكية، والعلاقة هنا توحيدية تشبه حفاظ الواسطي في المقامات على أهلة الأيقونات حول رؤوس أبي زيد وجمعه. يراوغ المعرض في رسم هذه الشجرة فيفرق بين الكتابة الأولى ومنهجها التالي، كأن العربية ولدت من تنقيط الكوفية الحجازية! ويتناسى ان الآرامية النبطية لغة كتابة القبائل العربية قبل الاسلام. فهل يسعى منظمو المعرض إلى الايحاء بأن الكتابة العربية لم تعرف تراكماً لغوياً او حضارياً. ومن حقّ النقد الموضوعي أن يأسف لضحالة مثل هذه الدراسات في دولة تعرف أهميّة اللغة في بناء الحضارة. مفارقات حول الطباعة الآلية يدّعي معرض المكتبة الوطنيّة أن الطباعة الآلية لم تصلنا حتى نهاية القرن التاسع عشر، اي مع التنوير الاستعماري. لكن مخطوطات المعرض نفسها تدحض هذه المقولة: نعثر على نماذج طباعية عربية في جنوى منذ أوائل القرن السادس عشر، وكذلك اسطمبول، ثم لبنان مع بداية القرن السابع عشر. ويتناسى المعرض ان تأخر الطباعة الآلية كان اختياراً طوعياً بسبب زهو مهنة النساخ والخطاطين. فقد أصبح "حي الوراقين" منذ القرن السابع الميلادي أي منذ بناء البصرة والكوفة أساساً في خطط المدينة الاسلامية، ولم تدمر هذه الأحياء الا أخيراً مثل حي "المسكية" و"البحصة" في دمشق: الأول كان خاصاً بالوراقين والثاني بالخطاطين. يغضّ المعرض الطرف عن كلّ هذه الحقائق، على رغم تبيانه التوثيقي لدور الكاتب في هذه المجتمعات وازدهار أدواته: أقلامه ومحابره ومقالمه ومقاعده ومساند القرآن وغيرها. ويتحمّس المعرض لأطروحة التحريم المطلق للتصوير والتي لا يزال يطلقها المعادون للفنون، وهو ما يناقض فتوى الشيخ محمد عبده منذ بداية القرن العشرين، إذ فنّد هذه الدعوى جملة وتفصيلاً. يثبت المعرض نفسه أن الحضارة العربية حضارة صورة وتصوير، وليس كما يشيع المستشرقون والحروفيون بأنها حضارة رقش وكلمة. يكفي ان ننصت الى هنري ماتيس يقول: "ان الحضارة الاسلامية هي الوحيدة التي اقتصرت في التعبير التشكيلي على اللون". أما المعرض فينزلق إلى السهولة، عبر تكريسه نزعات التهجين الحروفي الحداثي الذي يشكل اليوم هولاكو جديد، بمعنى أنّه يلغي اللوحة التعبيرية أو يحاصرها، ليحل محلها فولكلور اللوحات الحروفية، الاستهلاكية غالباً... والملتبسة أحياناً. وهنا نصل إلى القسم المعاصر في هذا المعرض، الذي يبدو أنه اعتمد على "قسم الفنون التشكيلية" في "معهد العالم العربي" بباريس في تكوين مادته. ولا بدّ هنا من التعبير عن أسف آخر، هو إصرار المعهد على الترويج لعدد من الهواة في شتى المناسبات، إذ يمزجهم من دون معايير مع بعض الأسماء المحترفة. وقد ضاعت هذه المرّة، كالعادة، أعمال ضياء العزاوي ومهدي مطشّر وكمال بلاطه وإتيل عدنان، في زحمة الفوضى التشكيلية، خصوصاً الحروفي منها. يفاخر حسن المسعودي بتواضع معرفته في أصول الخط، فيرسم كلمات ركيكة المبنى والمعنى تنخلع في الفراغ المحجّم الثلاثي الأبعاد، بظلال مفتعلة فيحقق الابتذال الاستشراقي بخروجه عن أبرز تقاليد الخط، وهو الفراغ الإقليدي والاقتصار في التوقيع على السطوح. ونعبر مع شطحات "القريشي" الى حقل ألغام آخر، يفرد على الورق عدم إلمامه بذاكرة الخط العربي، إذ يكتبه بالعكس من اليسار الى اليمين، وجهله تقنيات الخط الصيني. هكذا يضيف تهجيناً على تهجين، فيلتقي بالحياكة الكتابية السهلة لزميله قطبي. ومع ثرثرات نجا المهداوي المنمطة، نكون بلغنا أقصى دركات الاستهلاكية الفرانكوفونية التي تفضّل الكتابة من اليسار الى اليمين. ولعل هؤلاء هم الأحفاد الأكثر تفريطاً بوصية ابن مقلة وابن البواب والمستعصمي. ولو قدر لهؤلاء العمالقة ان يبعثوا من جديد، لفضلوا العودة الى القبور هرباً من التردّي الحروفي الذي آله اليه التشكيل العربي اليوم