مطار الخرطوم الدولي اصبحت فيه بعض ملامح "الدولية". حافلات كبيرة تقل المسافرين العائدين الى صالة الوصول. لا توجد عبارات ترحيب. بل جندي يحمل رشاشاً ويلبس ثياباً مرقطة ويقف متحفزاً عند مدخل الصالة. صف طويل من السودانيين يزحفون على غير انتظام. جاؤوا من دول الخليج العربي في عطلاتهم السنوية. في السودان يسمونهم "المغتربون". يزحف الصف امام كشكين يوجد فيهما ضباط جوازات. ضابط ينزع نسخة من استمارة المعلومات التي ملأها الركاب، وفي الكشك الثاني ضابط يضع ختم الدخول. في السودان لا يوجد الآن شخص ممنوع من الدخول، لكن هناك لائحة طويلة من الأشخاص ممنوعون من الخروج. أولئك هم "الخونة" الذين يعتقدون بأن ماحدث في 30 حزيران يونيو 1989 حين اذاع العميد يومئذٍ عمر حسن احمد البشير البلاغ الرقم واحد، لم يكن "ثورة" بل لم تكن "ثورة انقاذ"! ما لنا والسياسة. بعد الانتهاء من ختم الجواز تبدأ عملية متعبة يسميها السودانيون على طريقتهم في اختصار الاشياء "السير". والسير، دام فضلكم، هو ذلك السير الكهربائي المتحرك الذي ينقل الأمتعة في دورة لا تنتهي الا بعد ان يلتقط كل مسافر حقائبه. سير مطار الخرطوم يمشي الهوينى وعليك بالصبر. هو سير واحد وعفش هؤلاء القوم القادمين من دول الخليج يزن أطناناً. بعد ان تلتقط "عفشك" من السير تبدأ المرحلة الأكثر تعباً. الجمارك. قرب طاولة الجمارك تكدست جبال من الحقائب و صناديق خشبية وكراتين. أي والله جبال. وبينما أنت في حيرة من أمرك يظهر واحد من عمال المطار ليقترح عليك هامساً: أتريد ان تخرج بسرعة؟ طبعاً. وهل هناك من يرغب في البقاء في هذه الصالة الشبيهة بالفرن. قاعة من دون تكييف في الخرطوم التي تتراوح فيها درجة الحرارة بين 45 درجة و45 درجة. نعم ما بين 45 و45 يتقلب ناس الخرطوم تحت الشمس. تقول لذلك العامل، الذي ارتدى مثل الآخرين قميصاً أزرق اللون بهت لونه من فرط الحرارة، كيف السبيل للخروج من هذه الصالة؟ يأتي عامل ثانٍ ثم ثالث ويطرحون عليك السؤال نفسه: هل تريد ان تخرج بسرعة. ويزيدون "يا أستاذ". كل سوداني يعمل في الخارج يصبح "استاذاً". تولى العمال الثلاثة نقل حقائبنا الى حيث توجد ضابطة جمارك. الحكومة دمجت الجمارك ورجال المطافئ وحراس الصيد البري والغابات كلهم في الشرطة. اذا أردت جواز سفر أو عربة مطافئ أو ان تلقي القبض على لصوص أو أسد أو فيل عليك بالشرطة. سألتنا ضابطة الجمارك: ماذا في داخل الحقائب؟ أجبنا: "ملابس وبعض الهدايا... و تفاح". قالت: اذا كان تفاحاً من لبنان فهو ممنوع. قلنا: الحمدلله من المغرب. لكن لماذا منعت حكومة السودان التفاح اللبناني؟ لا جواب. سألتنا ضابطة الجمارك: هل معك أجهزة الكترونية؟ قلنا لا. ألصقت على كل حقيبة ورقة صفراء اللون، كاشارة ان الجمارك راقبت أمتعتنا. حمل العمال الثلاثة الحقائب وهم في حالة انتشاء. "شايف يا استاذ لم يصادروا أي شيء". اذن هناك مصادرات. قلت كم هي "الأتعاب"؟ أجاب أحدهم "مئة دولار، لكن انت وذوقك". قلت: اذا كان كل مسافر تحملون حقائبه من فوق السير الى حيث توجد الجمارك يدفع لكم مئة دولار لتركت الصحافة واشتغلت معكم. دفعنا لهم خمسين دولاراً تضامناً ضد الحاجة والفقر. عندما تخرج من المطار تكتشف ان الخرطوم تغيرت كثيراً. اللوحات الاعلانية بدأت تغطي على شعارات "ثورة الانقاذ". اللافتات المضاءة بالنيون في كل الشوارع. أول ما يلفت نظرك ان تلك الصفوف الطويلة المتراصة امام محطات الوقود حيث كان السائقون يمضون الليالي وهم نيام في سياراتهم حتى يحصلوا على وقود، اختفت. محطات الوقود نظيفة ومضاءة ولا توجد صفوف سيارات تزحف. تسأل فيأتيك الجواب "ألم تسمع أن السودان اصبح دولة نفطية - يقول أحدهم بفخر - نحن الآن مرشحون للأوبك". يقول آخر: "البنزين رخيص والغاز بتراب الفلوس والناس تركت طهو الطعام على مواقد الفحم". ما يقال صحيح. أمران تغيرا تغييراجذرياً في الخرطوم: الاتصالات الهاتفية التي اصبحت خدماتها تضاهي الاتصالات في العواصم المتقدمة. وتوافر وسائل النقل. وعلى ذكر هذه اصبحت أحياء الخرطوم ترتبط بخمسة أنواع من وسائل النقل. وهي حسب الترتيب، كالآتي: حافلات صغيرة مستوردة من آسيا يطلق عليها السودانيون اسم "أمجاد". وهو اسم الشركة التي بادرت لاستيراد هذه الحافلات التي تتسع لسبعة ركاب. تحملهم جميعاً من منطقة الى اخرى بسعر الف جنيه سوداني أقل من نصف دولار. اما اذا كنت ترغب في استعمال حافلة "الأمجاد" على غرار سيارة أجرة فذلك ايضاً متاح. تسأل السائق عن سعر المشوار. فيكون الجواب: "المعقول يا ابن العم". يطلق السودانيون على أنفسهم اسم "أمة الأمجاد" اشارة الى الاستعمال المتزايد لهذه الحافلات. والاسم مشتق من مطلع أغنية وطنية سودانية يقول "أمتي يا أمة الأمجاد والماضي التليد". الفقراء واصحاب الدخول المحدودة يتنقلون بواسطة الحافلات وهي حافلات تتسع لحوالي 22 راكباً. ومستوردة من الصين. الصينيون الذين يستخرجون النفط في السودان اغرقوا البلد بسلعهم وبضائعهم. حتى محطات الوقود تملكها شركات صينية. شيئان لم يستطع الصينيون تسويقهما في السودان هما الأرز... والحديث بصوت خافت. السوداني يتحدث وهو يزعق. كل شيء واضح. حتى حين يلعن الحكومة يلعنها بصوت مرتفع. أما النوع الثالث من وسائل النقل التي بات السودانيون يستعملونها بكثرة، خصوصاً في التنقل بين الأحياء، فهي دراجة نارية مستوردة من الهند بثلاث عجلات. قام السودانيون بتغطيتها وتجهيزها فاصبحت تتسع لثلاثة أشخاص اضافة الى السائق. ويستعمل الناس الاسم نفسه الذي يستعمله الهنود فاطلقوا عليها اسم "الركشة". يجد الزبائن راحتهم في هذه "الركشة". يتحدثون مع السائق ويلغطون فيما بينهم. ومشوار "الركشة" في حدود أقل من الفي جنيه أقل من دولار. وتستعملها النسوة بكثرة، لذلك ازدهرت من جديد عادة التواصل بين الناس بعدما كانت فترت بسبب غلاء وسائل المواصلات وانعدامها. السوداني يستعمل بضعة انواع من وسائل النقل ليقوم بواجب العزاء لأحد معارفه. احياناً يخرج منذ الصباح الباكر ويعود بعد مغيب الشمس من أجل ذلك. أما النوع الرابع من المواصلات فهو سيارات الأجرة، وهي صفراء اللون ومعظمها بات في حالة سيئة بعد انصراف الناس عنها، لغلاء أسعارها أو بسبب توافر وسائل أخرى أفضل. والنوع الخامس هو العربات المجرورة بالدواب "الكارو". وتستعمل هذه في أحياء الفقر والإملاق أي الأحياء الهامشية والمهمشة. لقد اصبحت الخرطوم، بسبب الحروب والجفاف، قبلة لهجرة قروية كثيفة، بل وهجرة نازحين من خارج السودان. قادمون من الأرياف لم يستطيعوا الدخول ولا قبلوا العودة من حيث أتوا وظلوا في اطراف العاصمة يصنعون حولها حزاماً من البؤس والضنك والفاقة. معظم هؤلاء يقومون باعمال يدوية في الأسواق أو المنازل وبناتهم ونساؤهم يعملن في المنازل. مريدون وامتيازات وفي موازاة أحزمة البؤس اضحت في الخرطوم أحياء للميسورين، وهم إما من "المغتربين" أو من الذين ساعدهم النظام على امتلاك الثروة بعدما امتلكت جماعتهم السلطة. ومن السياسات التي اتبعتها الحكومة سياسة "الخصخصة" كما تسمى أو "الخوصصة والتخصيص" في دول اخرى. لكن أغرب ما في سياسة الخصخصة السودانية انها تتم على مرحلتين: الحكومة تقرر بيع إحدى المؤسسات. ثم الذين يشترون، وهم أناس تختارهم الحكومة من "المريدين". وفي اطار "دعم" المريدين فان البنوك تمنحهم قروضاً ضخمة. واحياناً يكتب في خانة الضمانة المصرفية المطلوبة من أي مقترض "رصيده من الايمان يكفي"! وهناك بالطبع امتيازات التصدير والاستيراد التي تمنح فقط وللعلم "للمريدين". هذه حقيقة. هل فهمتم كيف تكونت طبقة من الأغنياء والأثرياء في السودان. مع تكوّن هذه الطبقة بدأت تظهر عادات استهلاكية جديدة. كأن تقام دعوات الى العشاء أو الغداء في الأندية الخاصة. ثم ان السوق أغرقت بالمواد الاستهلاكية. وهي في متناول اصحاب "الجيوب المنتفخة" أو "التماسيح" وهي المرادف السوداني "للقطط السمان". اغراق السوق مكن من توفير رغيف الخبز الذي كان يتراص له الناس امام المخابز منذ الفجر في كل حي. لذلك ستصادفك لافتات مثل "مخبز تركي" و"مخبز شامي" و"مخبز ماليزي" و"مخبز اندونيسي". ليس بالضرورة ان يكون الخبز مصنوعاً على غرار الخبزالماليزي أو الخبز الاندونيسي، بل في بعض الأحيان تكون آلات المخبزة مستوردة من هذا البلد أو ذاك ليقال "خبز كوري" مثلاً. واذا دخلت بقالة في أحد الأحياء الراقية في الخرطوم. حي العمارات مثلاً حيث عاد الأقباط السودانيون بكثرة لتجارة البقالات الصغيرة بعدما كانوا تعرضوا لمضايقات شديدة في "سنوات الانقاذ الاولى" ستجد جميع انواع السلع والمواد الاستهلاكية. و"جميع" هذه ليست صيغة مبالغة. في حي العمارات هذا تراصت مجموعة من الدكاكين على غرار أكشاك بيع الصحف تبيع الفواكه. ستجد في هذه الأكشاك بالضبط كل شيء بما في ذلك التفاح اللبناني الذي يستفسرون عنه في جمارك مطار الخرطوم. في الخرطوم الان كل شيء موجود لكنه في متناول "الميسورين والمغتربين". الحكومة عبدت كثيراً من الشوارع لكن، ولأن جميع حكومات السودان المتعاقبة منذ الاستقلال، والذي للعلم فقط مرت عليه حوالي نصف قرن، لم تهتم بحفر مجار، فإن هطول الأمطار يحوّل "العاصمة المثلثة" كما تسمى تتكون من ثلاث مدن هي الخرطوم وام درمان وبحري الى برك ومستنقعات. وليس على سبيل المزاح فإن السودانيين جميعاً يستمعون في الليل الى نقيق الضفادع في جميع الأحياء الفقيرة والغنية، خصوصاً هذه الأيام حيث تتهاطل أمطار الخريف على البلد. الضفادع وحدها تساوي بين سكان الخرطوم. البرك والمستنقعات هي التي جعلت من مرض الملاريا مثل صداع الرأس في عواصم أخرى. كل الناس تغشاهم الملاريا في هذا الفصل. وزائر الخرطوم سيلاحظ ان العيادات والمستشفيات الخاصة توجد في جميع الأحياء. هناك المستشفيات والمراكز الحكومية لكنها لاتقدم شيئاً للمرضى سوى جدران الغرفة والطبيب. بعض المرضى عليهم احضار حتى السرير، اما الدواء والأمصال فلابد من احضارها أيضاً. وعليك ان تتخيل في مستشفى الخرطوم المركزى مريضاً يحمل سريراً فوق رأسه وكيساً به الأدوية والأمصال وحتى خيوط رتق الجروح. واتخذت العيادات والمستشفيات الخاصة اسماء لها من اسماء كبار النطاسين مثل ابن سينا والفارابي وابن خلدون. ونظراً الى الخبرات المتراكمة للسودانيين في مجال الطب إذ ان كلية الطب في الخرطوم بدأت تدرس طلابها في مطلع العشرينات، فان الأقل تكلفة هو أجرة الطبيب يتقاضى الطبيب الذي يعمل مع الحكومة حوالي 35 دولاراً في الشهر. لكن تكلفة أقل عملية جراحية في المستشفيات الخاصة لا تقل عن الف دولار. القادرون فقط هم الذين عليهم ان يمرضوا أو يتمارضوا. في قلب الخرطوم ارتفعت بنايات وجاءت شركات أجنبية من كل حدب وصوب.لكن المتاجر الراقية والبقالات الكبيرة رحلت الى حيث توجد أحياء "الأغنياء". ثمة فنادق شيدت. لكن أجمل فنادق العاصمة ويسمى "فندق السودان" بات حكراً على موظفي ومهندسي "الشركة الصينية الوطنية للبترول". يمنع على السودانيين دخول هذه القلعة الصينية الحصينة والمحصنة التي تطل على أجمل مشهد. مشهد يلتقى فيه النيل الابيض القادم من منابعه فى اوغندا مع النيل الأزرق القادم من منابعه في مرتفعات اثيوبيا، ليوحدا مسارهما انطلاقاً من الخرطوم في نيل واحد باتجاه الشمال. أما الفندق الثاني وكان يسمى "الفندق الكبير" الذي شيده الانكليز عام 1909 ليقيم فيه كبار موظفيهم في السودان فقد اصبح من نصيب شركة ماليزية اطلقت عليه اسم "هوليداي فيلا". وغير بعيد عنهما يوجد "هيلتون الخرطوم" حيث تتم صفقات الخصخصة داخل الخصخصة. خبراء الكهرباء الناس في كل ارجاء المعمورة عندما يلتقون يبدأون الحديث اذا لم يكن لديهم موضوع معين بتناول أحوال الطقس. في الخرطوم ما ان يلتقي سودانيان حتى يتحدثا عن الكهرباء! اصبح جميع السودانيين يفهمون في الكهرباء. في الكيلواط والميغاواط وجيرانهما. التيار الكهربائي هو شاغل ناس الخرطوم ومكدر حياتهم. بسبب قلة حجم الكهرباء المنتجة سواء من السدود او المولدات فان إمدادات الكهرباء تأتي للأحياء إما في النهار واما في الليل واحياناً تغيب ليل نهار. الميسورون والمتشبهون بهم لجأوا الى مولدات كهربائية خاصة. حتى في الأسواق اذا قادتك قدماك الى "السوق العربي" مثلاً، وهو سوق شعبي يتوسط الخرطوم، فان أزيز المولدات الكهربائية سيصم أذنيك. يلتقي سوداني بآخر فيبادره بالسؤال: "هل كانت لديكم كهرباء امس؟". فيجيب: ابداً وانتم؟ منذ الامس لم تأت. جميع سكان الخرطوم يعرفون حالياً ان حاجة السودان من الكهرباء هي في حدود 500 ميغاوات وما ينتج حالياً في حدود 250 ميغاوات. جميع سكان الخرطوم يعرفون ان السد المزمع تشييده في شمال السودان في منطقة مروي ويعرف باسم "سد مروي" سيوفر 1250 ميغاوات، أي مرتين ما يحتاجه السودان. ومنطقة مروي هذه هي التي عاد اليها مصطفى سعيد بطل رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" بعد سنواته الصاخبة في لندن. ترى هل كل مصطفى سعيد يعرف ان مدن السودان وقراه ستضاء من سد بالقرب من المكان الذي نزح اليه؟!