أثار غياب المطرب السوداني سيد خليفة موجة من الحزن في عدد من العواصم العربية التي عرفته منذ مطلع الخمسينات ممثلاً للغناء السوداني، بسحنته السمراء، وخفته المميزة على خشبات المسارح، وأغنياته التي كان ينتقي كلماتها وألحانها وموسيقاها بحرص شديد لتستقر في ذاكرة المستمع أياً كانت جنسيته. في أحد مستشفيات العاصمة الأردنية توفى السيد علي محمد الخليفة الأمين عن عمر يناهز 75 عاماً، بعد معاناة من مرض القلب. لم يصدق كثيرون أنها لحظة الرحيل الحقيقي هذه المرة. ففي مطلع العام 1989 أصيب خليفة بأوجاع حادة في القلب، نقل على أثرها بقرار من الحكومة السودانية الى القاهرة حيث تم تبديل شرايين قلبه. وكانت غرفة مستشفاه منتدى للسودانيين بألوانهم السياسية المتصادمة. واشتهرت يومئذ حادثة المصادفة التاريخية بين الرئيسين السابقين جعفر نميري وأحمد علي الميرغني اللذين جاءا في لحظة واحدة ليعودا سيد خليفة. كانت فرحة السودانيين كبيرة بعودة سيد خليفة من القاهرة. تم تكريمه في حفلة كبيرة أقامها إتحاد الفنانين للغناء والموسيقى في داره في أم درمان. واستضاف التلفزيون الحكومي الفنان الراحل في سهرة امتدت بضع ساعات، زادته رهقاً وعناء، لكنها أعادت العافية الى قلبه العليل إذ جمعته بعشاق أغنياته بعد غياب طويل. وما لبث أن بدأ برنامجاً مكثفاً للزيارات والرحلات الفنية الى الخارج. ومنذ ثلاثة أسابيع بدأ سيد خليفة يخسر معركته مع مرض القلب. لم ينجح الأطباء السودانيون في لجم المرض. بدأت صحته تتضاءل. تقرر نقله الى الأردن حيث دخل في غيبوبة لم يفق منها مطلقاً. وكان نبأ رحيله صاعقاً على السودانيين الذين اعتادوا صيحاته و"قفشاته" ومواويله نحو نصف قرن، الى درجة أن القناة الفضائية الحكومية قطعت بثها المعتاد لتنعاه. وبادر رئيس الجهورية الفريق عمر حسن البشير الى إصدار بلاغ يحتسب فيه الفقيد، مشيرا إلى دوره في صياغة وجدان الشعب وإثراء قيمه والتغني بأمجاده. ووصفه وزير الخارجية مصطفى عثمان بأنه كان سفيراً فوق العادة للبلاد، إذ لا يعرف كثير من مواطني الدول العربية السودان إلا من خلاله. ولد السيد علي محمد الخليفة الامين في بلدة الدبيبة التابعة للريف الجنوبي لمحافظة الخرطوم. وهي منطقة دينية ذات جذور عرقية وتاريخية راسخة. وكان مولده في أسرة تنتمي الى الطريقة "الختمية" التي يتزعمها آل الميرغني، ولهذا السبب سماه والده "السيد علي"، تيمناً بزعيم "الطريقة" الذي لعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية في البلاد منذ عهد الاستعمار. وكانت هذه النشأة الدينية سبباً وراء موافقة الأسرة على السماح لسيد خليفة بالسفر الى مصر، نحو العام 1946، على أمل أن يتمكن من الإلتحاق بالجامع الأزهر ليعود "خليفة" مثل والده. غير أن الامور مضت بالصبي في اتجاه آخر. فقد أقنعه من استمعوا الى صوته من السودانيين في القاهرة بضرورة الالتحاق بمعهد الملك فؤاد الأول للموسيقى معهد الموسيقى العربية حالياً. واستطاع بمعاونة البارزين من افراد الجالية السودانية الحصول على منحة من الملك فاروق لتغطية كلفة السكن والمعيشة. توطدت خلال تلك الفترة علاقة الطالب السوداني الموهوب بنجوم الموسيقى العربية. وكان طبيعياً أن يبدأ حياته الفنية في القاهرة وليس الخرطوم. مستفيداً من علاقاته مع عازف القانون احمد فؤاد حسن قبل ان يقود الفرقة الماسية، وعازف الابوا النحيل عبد الحليم حافظ شبانة، والعازف المتخصص في تدوين النوتة الموسيقية نصر عبد المنصف. ولاحت فرصته الذهبية في الالتماع حين قررت السلطات المصرية افتتاح إذاعة موجهة للسودان ضمن خدمات الإذاعة المصرية العام 1948، وهي المحطة التي لا تزال تسعى الى التقريب بين شعبي وادي النيل على رغم تقلبات السياسة. أفاد خليفة في القاهرة من ألحان الموسيقار السوداني اسماعيل عبد المعين. واعتمد كلياً في بداياته على الشاعر الغنائي عبد المنعم عبد الحي الذي استطاع على رغم إقامته في القاهرة أن يكون الأكثر إسهاماً في رفد الاغنية السودانية المعاصرة التي مرت بتحولات جذرية في مستهل العقد الرابع من القرن العشرين، بعد افتتاح إذاعة استعمارية في السودان، وتحول المطربين الى الآلات الموسيقية الغربية بدلاً عن الشكل التقليدي للغناء. وحين عاد سيد خليفة الى الخرطوم في 1951، كان مطرباً مكتملاً. لم يواجه صعوبة تذكر في تثبيت أقدامه وسط النجوم الذين رسخت شهرتهم رواداً للغناء والموسيقى منذ بدء بث الاذاعة الوطنية السودانية العام 1940، ومنهم احمد المصطفى وحسن عطية وعثمان حسين والتاج مصطفى. برز سيد خليفة منذ بدايته فارساً في مجال الاغنية الخفيفة. وكان يدرك أن التنوع مفتاح النجاح في فن الغناء. لذلك سعى الى عدد من الشعراء الغنائيين فتعاون معهم: حسن عوض أبو العلا، اسماعيل خورشيد، اسماعيل حسن، وغيرهم. وعزز أواصر الصداقة مع الملحن المقتدر برعي محمد دفع الله الذي زوده عدداً من الالحان التي لا تزال - بعد نصف قرن من مولدها - تأسر مسامع الشيوخ والصغار. والتفت سيد خليفة الى الاثر الكبير للغناء في تعزيز التلاحم الوطني في بلاد تتعدد ثقافاتها وأعراقها وأديانها، فاختار عدداً الاغنيات الحماسية مما اصطلح السودانيون على اعتباره "شعراً قومياً" زادت شعبيته الى درجة كبيرة. وانتقى ايضاً عدداً من القصائد المنظومة بالعربية الفصحى من نظم كبار شعراء العربية في السودان، كالتيجاني يوسف بشير وإدريس جماع، ليطلق بذلك تنافساً بين المطربين أدى الى تعزيز الرابط بين الغناء واللغة والتعليم. وكان سباقاً بحكم إقامته في مصر الى تقديم أغنيات خفيفة سهلة الفهم لتعريف غير السودانيين بالاغنية المحلية. وبدأ ذلك بتقديم أغنيته الأكثر شهرة "المامبو السوداني" التي كتبها الشاعر عبد المنعم عبد الحي خصيصاً ليتسنى لصديقه أن يشارك بها في فيلم "تمر حنة" الذي قامت ببطولته الممثلة نعيمة عاكف. وقدم في 1956 أغنيته الشهيرة "إزيّكم ... كيفكم" التي وجدت ذيوعاً منقطع النظير في العالم العربي وبلدان القرن الافريقي. ونجح سيد خليفة في استقطاب اعجاب مستمعيه من غير السودانيين بأدائه المميز على خشبات المسارح، معتمداً على جمل موسيقية غير معقدة وغير مطولة. وعلى رغم أنه ترعرع فنياً في القاهرة، فهو كان يرفض تذويب نفسه في الشخصية الفنية المصرية، متمسكاً باللون السوداني في الغناء الذي يعتمد على السلم الخماسي. وبقدرما كان ذلك التفرد مثار إعجاب، فإن كثيرين كانوا يسخرون من سرعة الايقاعات والنغمات الخماسية والحركات الأدائية التي كان يقوم بها سيد خليفة. لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة الطواف على الدول العربية والافريقية والغربية ساعياً الى التعريف بفنون بلاده. وكان يتمسك بأن التطوير الحقيقي للأغنية السودانية يجب أن يتم داخل إطارها الخماسي المميز، وأي تطوير يحيد بها عن طابعها كان - بنظره - إنسلاخاً من الهوية الوطنية. ومن ذلك المنطلق تعتبر مساهمة سيد خليفة في التعبير عن الذات والهوية السودانية الاكبر بين أبناء جيله. وبعد نحو ست سنوات من بدء سيد خليفة نشاطه في الخرطوم، برزت الأصوات التي انضمت اليه لتهيمن مجتمعة على الساحة الفنية السودانية هيمنة مستمرة حتى اليوم. جاء ابراهيم عوض وصلاح محمد عيسى 1953 ومحمد وردي 1957، وصلاح مصطفى 1958 وصلاح بن البادية 1959، وعبد الكريم الكابلي 1961. وتنوعت مضامين الاغنية المعاصرة، وتنوعت قضاياها، وتعددت أسماء شعرائها وأساليبهم في النظم. وكان طبيعياً أن يسعى سيد خليفة الى مواكبة منافسيه الجدد. قدم أغنيات تمجد المرأة، وتعينها في معركتها ضد التخلف والجهل والمرض والعادات الاجتماعية الضارة. وذهب الى شعراء جدد متطلعاً الى الرومانسية الجديدة في الشعر الغنائي. وقدم أناشيد تتغنى بحب الوطن "في وجودي أحبك وغيابي / يا وطني يا بلد أحبابي". وتفاعل مع الثورة الموسيقية التي عمت العالم نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، فجاءت أغنياته "روك سوداني" و"سامبا" و"رومبا". والتمس معاني الإنسانية والعاطفة التي لا تحدها حدود في قصائد أحمد رامي خاصمتني وصلاح عبد الصبور مقرن النيلين وغيرهما. لم يكن سيد خليفة فناناً سياسياً قط. لم يغن للأنظمة السياسية، وإن كان قد ردد في مطلع حياته الفنية في القاهرة أغنية تمجد الملك فاروق الذي كان يسمى رسمياً آنذاك "ملك مصر والسودان". لكن شائعات قوية ربطته بالرئيس السابق جعفر نميري الذي كان أبرز المشاركين في تشييع سيد خليفة الاسبوع الماضي في الخرطوم. وتردد أن نميري حين تمكن من الهروب من قصره أثناء الإنقلاب الشيوعي على نظامه في 1971، صادف سيد خليفة وهو يقود سيارته، فنقله الى حيث القوات الموالية له التي مكنته من دحر الانقلاب الشيوعي واستئناف حكمه. ونفى سيد خليفة تلك الرواية كلياً. وربما زادها إلتصاقاً في أذهان السودانيين أن سيد خليفة ساند نميري في حملته لانتخابات رئاسة الجمهورية 1972 في أعقاب الانقلاب الشيوعي الدموي. وظهرت آنذاك أنشودته الشهيرة التي تتغنى بخصال النميري "جِبْتَ الموية للعطشان وجِبْتَ اللقمة للجيعان"، وهي الأغنية التي استخدمتها أجهزة الاعلام الحكومية أداة لاستقطاب أصوات الناخبين الذين أبقوا نميري رئيساً حتى العام 1985. وبعد عودة سيد خليفة الى الغناء في 1990، بدت دلائل تقدم العمر تزحف الى صوته. ومع ذلك أنتج قبل بضعة أشهر ألبوماً أودعه مجموعة من أحلى أغنياته الخفيفة. ولا تكاد إذاعة عربية في المنطقة وخارجها تخلو من أغنيات سيد خليفة. وتعاون طويلاً مع إذاعة القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، خصوصاً أثناء فترة عمل المذيع السوداني الكاتب والروائي الطيب صالح والرئيس السابق لقسم الموسيقى نعيم البصري. وكان الاخير يشبه أسلوب سيد خليفة في الغناء بالمغني الغربي جوني راي. وكان يسعى الى تصنيف الايقاعات السودانية التي يأتي بها سيد خليفة الى لندن بما يقاربها من الايقاعات الشائعة في الغرب مثل "التشا تشا" و"التوم توم". بعد حياة حافلة بالأسفار والحفلات الساهرة والبرامج الاذاعية والتلفزيونية والمقابلات الصحافية، عاد سيد خليفة الاسبوع الماضي الى الخرطوم ملفوفاً في نعش، ورافقه عشرات الآلاف من المشيعين، تقدمهم الرئيس نميري، الى مسقط رأسه قرية الدبيبة، حيث ووري الثرى الى جوار آبائه وأجداده، تاركاً إرثاً لا يفنى لأبناء بلده وأبناء الشعوب التي يحاول السودانيون الإنتماء اليها