حين تسلمت إدارة جورج بوش زمام السلطة كان "وعد مدريد" قد تبدد كلياً او كاد. إذ أثبتت الولاياتالمتحدة واسرائيل وغالبية الدول العربية عجزها عن تحقيق تلك الرؤية التي وضعتها عملية مدريد، وهي إحلال السلام الدائم والشامل بين اسرائيل وجيرانها وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدسالشرقية، وبناء تحالف اقليمي ضد الإسلام السياسي المعادي لأميركا وضد امتلاك العراق وإيران اسلحة الدمار الشامل. كذلك أثبت جميع الاطراف عجزها في ما بعد حتى عن تنفيذ عملية اوسلو المجزأة التي لم يزد وعدها على ما هو أقل حتى من "انهاء الصراع". لقد ورثت ادارة بوش عالماً مختلفاً كلياً عن ذلك الذي كان يعيش فيه مهندسو ديبلوماسية مدريد وديبلوماسية اوسلو. اذ ان محادثات الوضع النهائي كانت بالنسبة اليهم هدفاً مستقبلياً، بينما رأت ادارة بوش فيها فشلاً تاريخياً. ومن هنا قررت الادارة انها لن ترتكب اخطاء سلفها، اي السماح للديبلوماسية الاسرائيلية - الفلسطينية بالاستحواذ على اهتمام الرئيس والادارة. ومن منطق تصميم الاستراتيجيين في ادارة بوش على "تثوير" البيئة الاستراتيجية العالمية بإلغاء معاهدة الصواريخ البالستية لعام 1972 في حظيرة الديبلوماسية المنبوذة، وجد أولئك الاستراتيجيون حليفاً راغباً وجاهزاً في حكومة آرييل شارون وفي تركيا والهند ايضاً. وفجأة اصبحت بواعث القلق الاميركية التي تتركز على الدفاع ضد قدرات ايرانوالعراق غير التقليدية والصاروخية تشغل الصدارة لدى البنتاغون التسليحية والفكرية والتكنولوجية. ومع تبدد جميع افتراضات عملية مدريد المتعلقة بفعالية التحالف العربي - الاسرائيلي أبدى شارون لهفة شديدة في المشاركة في الجهد الاميركي وجني ثمار ذلك الجهد. فكبار شخصيات ادارة بوش، من نائب الرئيس حتى أعلى المسؤولين في وزارة الدفاع، يعتبرون اسرائيل اولاً وقبل اي شيء آخر "حليفاً استراتيجياً وشريكاً اساسياً في مواجهة ما يراه الاستراتيجيون الاميركيون أخطر تحد للمصالح الاميركية، ليس في الشرق الاوسط فحسب، بل وعلى الساحة العالمية الواسعة، وهو التحدي الذي تمثله "الدول المارقة" التي تلوح بالصواريخ في وجه الولاياتالمتحدة وحلفائها. وفي الآونة الاخيرة قال دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي: "إننا نقف الآن من دون ان ينافسنا احد من وزننا في هذا العالم. لكن هذا لا يعني اننا لا نواجه المخاطر او التهديدات وبواعث القلق والمجازفات. فنحن نعرف جيداً ان العالم لا يزال مكاناً خطراً وان الاسلحة فيه صارت أفتك وأقوى وانتشرت اسلحة الدمار الشامل فيه بصورة اوسع. كما ان هذه الاسلحة اصبحت اليوم في أيدي أناس يختلفون كلياً عن أولئك الذين كانوا يملكونها قبل 25 سنة. وهذا بالطبع تغيير كبير. ولذا يجب على المرء ان يسأل في القرن الحادي والعشرين وفي هذا العالم المتغير والتهديدات المتجددة: ما هي الروادع التي ستساعدنا اكثر من غيرها؟". وسيجد شارون، الذي كان من أول الزعماء الاسرائيليين الذين اعلنوا على الملأ منذ مدة طويلة ان مصالح اسرائيل الاستراتيجية تمتد من المغرب حتى باكستان، كل اذن صاغية في واشنطن جورج بوش، إذ امتدح ريتشارد تشيني نائب الرئيس، مثلاً، تدمير اسرائيل للمفاعل النووي العراقي. كما ان مهمة إبقاء اسرائيل خارج إطار حرب الخليج كانت قد اسندت الى بول وولفوتز عام 1990 نظراً لما عرف عنه من مغالاته الشديدة في تأييد اسرائيل الذي يتولى الآن احد اهم المراكز في البنتاغون. حتى رامسفيلد نفسه أيد علانية نظام صواريخ "أرو" الاسرائيلي. وفي هذا ما سيزيد بالطبع ويعزز من قوة الدفع السياسي بين اسرائيل والادارة الجديدة ويغني التعاون الاستراتيجي الاميركي - الاسرائيلي. وتمتاز غالبية كبار مستشاري ادارة بوش في مجال السياسة الخارجية بمعرفتها الوثيقة بالشرق الاوسط. اذ ان رامسفيلد نفسه كان مبعوثاً خاصاً للرئيس رونالد ريغان في المنطقة. لكن هؤلاء الخبراء سيركزون حين ينظرون الى خريطة المنطقة على منطقة الخليج وما وراءها ولن يسلطوا اي اهتمام على فلسطين والصراع الدائر فيها إلا على مضض. وحتى يسلطون هذا الاهتمام عليها، لن يكون الدافع ما يحدوهم من أمل في تحقيق المصالحة بين ياسر عرفات وشارون، وإنما خوفهم من احتمال انتشار دائرة العنف بين اسرائيل والفلسطينيين الى الشرق وجر العراق والأردن وسورية ولبنان الى الدائرة. وبمعنى آخر، يرى أولئك المستشارون ان الصراع العربي - الاسرائيلي لم يعد ميداناً تستطيع القوة الاميركية تحقيق اي ايجابيات فيه، وانما هو أشبه بهوة سوداء من الاحباطات يجب تفاديها بأي ثمن. وخلال الاشهر القليلة التي اعقبت مجيء ادارة بوش الى الحكم، صاغت هذه الادارة رأيها في "البعد الفلسطيني" من الصراع استناداً الى هذه الانطباعات. لكن استمرار الانتفاضة الفلسطينية واشتداد حدة عنفوانها أجبر المسؤولين في واشنطن، ولو على مضض، على توجيه الاهتمام الى هذه الانتفاضة. وكان في مقدمة الذين اولوها الاهتمام وزير الخارجية كولن باول ومدير وكالة الاستخبارات المركزية سي. اي. ايه جورج تينيت. إلا أن الجهود التي بذلاها لا تتجاوز مجرد "إدارة" الأزمة واحتوائها، لأن تلك الجهود لا تنطلق من الاحساس بوجود نهج سياسي استراتيجي للتعامل مع الوضع. اما اذا كان هناك اي بعد سياسي استراتيجي للاجراءات الاميركية الراهنة، فيمكن ملاحظة خصائصه الاساسية في الدعوة المستمرة الى السلطة الوطنية الفلسطينية لانهاء الانتفاضة والعمليات التي تقوم بها القوات الخاضعة لسيطرتها اسمياً، وتلك العناصر التي لا تخضع لها في المنظمات الاخرى، والطلب من جهة ثانية من شارون تنفيذ وعده الذي طالما خالفه وهو تنسيق مبادرات اسرائيل العسكرية مع البيت الابيض! ومثلما شرح باول في 22 ايار مايو الماضي عندما قدم اليه السيناتور السابق جورج ميتشل رسمياً تقرير لجنته الدولية التي زارت المنطقة: "لا أظن ان سياستنا تغيرت لأنها باقية في إطارها. فالولاياتالمتحدة لا تعرض اليوم اي خطة للسلام، والولاياتالمتحدة لم تعقد اي اجتماع بهدف بحث قضايا الوضعية النهائية. كل ما نفعله الآن أمر بسيط جداً ومباشر جداً، وهو المطالبة بوضع نهاية ومن دون اي شروط للعنف. توصية بسيطة واضحة لا تحتاج الى اي مفاوضات اضافية بصراحة اذا كنا جادين في الامر". "والأمر يعود الآن الى قادة المنطقة كي يثبتوا انهم سمعوا نداء اللجنة عالياً وواضحاً وكي يتخذوا الاجراءات العملية المتاحة لديهم على الجانبين لوقف تصعيد الاشتباكات. وبعدئذ يمكن لنا اتخاذ اجراءات بناء الثقة والتحرك نحو المفاوضات. وبات واضحاً منذ اشهر الآن انه ما لم ينحسر العنف، فإنه لن تكون هناك اي فرصة للمفاوضات. نعم المسألة بكل هذه البساطة". أما المدى الذي فكرت فيه ادارة بوش لفرض توجهها الاستراتيجي الخاص على المرحلة المقبلة من الديبلوماسية الاسرائيلية - الفلسطينية، فيمكن استقراء معالمه بوضوح من إدوارد دجرجيان الذي لا يتحدث رسمياً باسم واشنطن، لكنه على اتصال حميم بالادارة. فمع ان دجرجيان من القطاع الخاص، فإن ارتباطه التاريخي مع جيمس بيكر وغيره من كبار مسؤولي الادارة وسهولة اتصاله بهم وكونه احد مهندسي عملية مدريد، يعطي آراءه أهمية خاصة. ففي محاضرة ألقاها في 12 نيسان ابريل الماضي قدم دجرجيان اوضح وأشمل "نظرة جمهورية على عهد ما بعد اوسلو"، ومما جاء فيها: "ان القيادة الاميركية التي عرضها ريتشارد نيكسون بعد حرب تشرين الاول اكتوبر عام 1973 وادارة كارتر في كامب ديفيد وادارة بوش في عملية مدريد، لا تزال النهج المفضل للقيادة الاميركية". ومن المؤكد ان دعوة الادارة الاميركية الى "اعادة النظر في تقويم السياسة الاميركية ازاء المنطقة بكاملها، ستثير القلق في اسرائيل". وأشار دجرجيان في محاضرته الى ان المشاعر القومية العربية على امتداد الوطن العربي في تشكيل جبهة موحدة ضد اسرائيل بدأت تشهد يقظة سياسية على رغم النكسات التي منيت بها من خلال التحالف المناهض للعراق وحرب الخليج، كذلك انتقد عملية اوسلو لتركيزها على الاتفاقات المرحلية والموقتة ولأنها "طالت في زمنها كثيراً من دون ان تعطي اي نتائج ملموسة على الارض". وعلى نقيض الاخفاق الذي رافق المفاوضات، اشار دجرجيان الى نجاح "حزب الله" في اجبار اسرائيل على الانسحاب من لبنان وفي اشعال الهمة الفلسطينية الشعبية بما في ذلك "حماس" و "الجهاد" وحتى تنظيمات اخرى داخل حركة "فتح". اذ اصبحت جميعها ترى ان المواجهة ضرورية ومكملة للمفاوضات. كما اشار الى ان الغالبية اليهودية من سكان اسرائيل اصبحت تشعر انها مهددة من الاقلية العربية اثر احداث تشرين الاول اكتوبر عام 2000 والانتفاضة في الاراضي المحتلة، أي "داخل الحدود وخارجها". وفي الوقت نفسه، أعرب عن أسفه لعدم التوصل الى اتفاق بين سورية واسرائيل، لأن مثل هذا الاتفاق كان سينطوي على نتائج استراتيجية مهمة للمنطقة ككل، ويعزز فرصة التوصل الى اتفاق على الوضع النهائي بين اسرائيل والفلسطينيين. فصل القضايا وعلى المسار الفلسطيني، لاحظ دجرجيان ان الانتفاضة لم تغير المعادلة الاساسية التي تحكم العلاقات بين الطرفين: "يجب على اسرائيل ان تقبل الفلسطينيين كياناً وطنياً سياسياً متميزاً". فالفلسطينيون يحتاجون الى موافقة اسرائيل لتحقيق أهدافهم القومية والسياسية. ونصح بتحقيق الانجازات ببطء خلافاً لمحاولة باراك الرامية الى انهاء الصراع من دون التوصل الى حل مقبول لجميع قضايا الوضعية النهائية، "لأن هذا الجهد الفاشل غيّر جوهر عملية اتفاق أوسلو، اي محاولة تحقيق ما يمكن تحقيقه كأهداف مرحلية موقتة. ودجرجيان يؤيد فكرة فصل قضايا الوضعية النهائية: "مثلاً التوصل الى اتفاقات جزئية على الارض بما في ذلك تعزيز المستوطنات الكبرى، والمياه والأمن والعلاقات الاقتصادية مع وضع نهاية الصراع واللاجئين والقدس في مسارات تفاوض اخرى مستمرة لاستكشاف الحلول". مثل هذه العملية تلبي مطلب إقامة دولة فلسطينية، ليس كتعبير عن اتفاق الوضع النهائي الذي سينهي الصراع، وإنما كمؤشر على الحيوية الجديدة وقوة الدفع نحو التقدم المضطرد للوصول الى تسوية شاملة. من هنا، اذا ما قررت ادارة بوش التركيز على ارسال آلية ديبلوماسية للتعامل مع الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، ستؤلف آراء دجرجيان وجهة نظر لما قد تشمله تلك الآلية. لكن التفكير الراهن لإدارة بوش يدل على ان آراء الخبراء في المنطقة تظل مجرد آراء للخبراء ولا تؤلف اي اطار او دليل استراتيجي للسياسة الاميركية.