مع انتهاء الحرب الباردة، ظهر تعبير جديد هو "نظام التعددية القطبية" اريد من ورائه مواجهة مفهوم "النظام العالمي الجديد" الذي أطلقته بشيء من التسرع ادارة الرئيس الاميركي الأسبق جورج بوش. لكن "النظام العالمي الجديد" الذي ولد إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج، ما لبث ان تكشّف عن "فوضى عالمية جديدة". وفيما تبين ان واشنطن لا تستطيع ان تكون العاصمة الوحيدة للعالم، ما لبثت هي نفسها ان تخلت عن المصطلح وسحبته من التداول، ثم، مع الادارة الحالية للرئيس جورج دبليو بوش، ادارت ظهرها كلياً من غير ان يعني ذلك بطبيعة الحال سحب التوجه الانعزالي على مصالحها الاستراتيجية، وعلى قدرتها على الوفاء بها بحسب نظرتها الى الامور. وهذا ما تجلوه الخطة الاستراتيجية الاخيرة المعروفة ب "خطة الدفاع الصاروخي". فهل نفترض ان "نظام التعددية القطبية" الموعود قد انتصر على "النظام العالمي الجديد" وغدا صالحاً وقابلاًللحياة؟ لا بد، بادئ ذي بدء، من الاشارة الى الأقطاب الذين قصدهم هذا المصطلح الذي لم يُخف قدراً من الرغبة في تحدي الولاياتالمتحدة. فهؤلاء الأقطاب هم، فضلاً عنها، اوروبا الغربية الاقدر على تجاوز الطبع الاقليمي الى الطابع الكوني واليابانوروسياوالصين. بيد ان المعاينة الأدق لواقع الحال تكشف ان الامور أشد تعقيداً بكثير مما يذهب اليه، او يتمناه، دعاة المفهوم الجديد. فأوروبا الغربية لم تصبح حتى الآن كياناً سياسياً موحداً. ورغبتها في بناء قوة عسكرية "موازية" لحلف شمال الاطلسي الناتو لا متعثرة تصطدم بتعدد الإرادات وبنقص التمويل في آن. واذا صح ان القارة القديمة تقترب من وحدتها، غير ان صيغ هذا الاقتراب لا تزال تحمل تضارب النسخ الكثيرة الخاصة بالدول التي تشكلها. وهذا ما يتعدى الخلاف حول التراكيب الهيكلية والبيروقراطية ليطول أموراً اكثر استراتيجية وأهم. ففي نظر المانيا، مثلاً، يتلازم التمدد الاوروبي مع الاتجاه شرقاً نحو اوروبا الوسطى والشرقية. اما في نظر فرنسا ومعها ايطاليا واسبانيا، فهو يكاد يترادف مع التوجه جنوباً نحو البحر الابيض المتوسط وبلدانه، لا سيما دول المغرب العربي، ويزيد في صعوبة ذلك ان الاوروبيين مثقلون بتواريخهم الوطنية والقومية التي تضع بلدانهم الواحد في مواجهة الآخر. والى ذلك كله، لم تعد العلاقات الثنائية الفرنسية - الألمانية التي يعوّل عليها ان تكون ركيزة البناء الاوروبي المنشود، تتمتع بالصلابة نفسها التي انطوت عليها سابقاً: في ظل هيلموت شميت وهيلموت كول الألمانيين، وجيسكار ديستان وفرانسوا ميتران الفرنسيين. اما على الجبهة المالية، فلم تتحقق القفزات المتوقعة للعملة الاوروبية الموحدة اليورو. هكذا شهدنا اخيراً، مع اقتراحات المستشار غيرهارد شرودر لتحويل الاتحاد الاوروبي حكومة فيديرالية ممركزة، ردود فعل لا تحمل على التفاؤل: فالمقترحات التي ذكّرت أوروبيين كثيرين بمقترحات سيئة الحظ لوزير خارجيته جوشكا فيشر واغصبت الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم، اثارت نعوتاً وتعليقات اوروبية من النوع التالي: "إنها برنامج انتخابي لشرودر ما دام لا يملك غير اوروبا يطرحه على التصويت". "انها محاولة لبناء وحدة اوروبية على منوال التركيبة الألمانية الفيديرالية". "انها تطلق بين الاوروبيين تناقضات اكثر مما تطلق تقارباً". "فرنسا تغار من التزعم الألماني وتستنكره: وزيرها للشؤون الاوروبية بيار موسكوفيتشي لم يكتم ذلك". "بريطانيا العمالية تخاف تحويل الموضوع الى اجندة لانتخاباتها المقبلة يستثمرها المحافظون". "الدول الاوروبية الصغرى كالسويد يصيبها رعب الدول الكبرى". ثم، إذا نظرنا الى الأقطاب الاوروبيين قطباً قطباً، رأينا ان فرنسا وحدها هي التي تعلن رغبتها الصريحة في تجميع العناصر التي تتيح منافسة الولاياتالمتحدة عالمياً. فألمانيا تعرف ان اقصى ما يمكنها التوصل اليه هو قبول واشنطن لها بصفتها المحاور الغربي المباشر لروسيا. اما بريطانيا، وهي لا تزال خارج البناء الاوروبي، فلا تطمح الى اكثر من ان تكون الجسر ما بين اميركا وأوروبا. لقد تعلم الألمان من تجربتي الحربين العالميتين في القرن العشرين، ثم البناء الاقتصادي المتمحور حول "مشروع مارشال"، ان القارة القديمة اذا ما تُركت وحدها قابلة لتوليد الحروب والأزمات المفتوحة، فيما الصلة بواشنطن هي وحدها ما يتكفّل إنهاء الحروب ومباشرة البناء الاقتصادي. وبدورهم تعلم البريطانيون من حرب السويس في 1956 لو بشيء من المرارة لبعضهم ان الذي يصطدم بالادارة الاميركية على نطاق كوني خاسر لا محالة. وفي المقابل، فالدرس الذي خرجت به الذاكرة الجماعية الفرنسية من حرب السويس نفسها، هو المرارة البحتة حيال واشنطن والتعامل بشديد الريبة معها، فالأخيرة، في ظل دوايت ايزنهاور، لم تكتف باحباط حملة العدوان الثلاثي الفرنسي، البريطاني، الاسرائيلي على مصر، بل افتتحت بعملها هذا نهاية الامبراطوريتين القديمتين لباريس ولندن، كما دشنت عملية استقلال المستعمرات التي بلغت ذروتها الدامية والدرامية في حرب الاستقلال الجزائري. لكن باريس فيما تؤكد مرارتها، لا تخفي مشاعر الضعف النابعة من قدراتها هي نفسها، ومن تاريخها الحديث حينما خرّت في بداية الحرب العالمية الثانية امام جيوش هتلر، ثم حين انسحبت من فيتنام في 1953 وسلّمت الراية الى الولاياتالمتحدة. وحتى رئيسها الراحل شارل ديغول المعروف بنزعته المضادة للولايات المتحدة، والذي اخرج بلده من البنية العسكرية للحلف الاطلسي، لم يمكنه التخلي عن كماليات التمتع بحماية المظلة النووية للحلف نفسه. روسياواليابانوالصين اما روسياواليابان فأسوأ حالاً بكثير من اوروبا سيان ان اخذت الاخيرة مجتمعة ام مفرقة. صحيح ان موسكو استفادت من ارتفاع اسعار النفط العالمية، ومن التحسينات الامنية التي احدثتها سياسات الرئيس فلاديمير بوتين وانعكست على الاداء الانتاجي والتوزيعي، وعلى ربط المناطق بالمركز تالياً. وقد لوحظ، بالفعل، ان عدداً من الأثرياء الروس شرعوا، للمرة الاولى، يستثمرون في بلدهم وفي مشاريعهم. مع هذا، لا يزال الكلام عن تحول روسيا دولة كونية عظمى كلاماً مبالغاً فيه. فتحسن وضعها الاقتصادي يبقى اقل بكثير من المطلوب على هذا الصعيد. وإعلان ادارة بوش الجديدة عن مشروعها الاستراتيجي لبناء الدرع الصاروخي وكلفته بين 60 و100 بليون دولار، مرشح لاطلاق سباق تسلح جديد قد يستنزف الروس مجدداً. وبينما لم تستقر البدايات الديموقراطية وسط تهديدات باحتمال تعرض الحريات لنكسة ما، لا سيما بعد تعطيل الإعلام الخاص كلياً، تستمر موسكو في حربها الدامية والاستنزافية في الشيشان. وإذ توحي علاقاتها المتفاوتة بجوارها الآسيوي والأوروبي ان الإقرار بها قوة اقليمية مهيمنة لم يصبح بعد حقيقة قائمة بذاتها، يعمل تمدد حلف الاطلسي الى جوارها الاوروبي المباشر على رفع درجة الحرارة والتوتر في سلوكها الاجمالي. فكيف اذا استجيبت دعوة الرئيس التشيكي فاكلاف هافيل لضم دول البلطيق الى الحلف، وهي كانت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي نفسه؟ ومن ناحيتها، تعاني اليابان مشاكل لا حصر لها يطيب لبعضهم وصفها ب "الحاسمة" و "المصيرية". فهي، منذ انتهاء الحرب الباردة، تعالج بالتقسيط الازمات المترتبة على حكم حزبها "الديموقراطي الليبرالي" الذي يمسك بالسلطة منذ نصف قرن ونيف، الا ان هذه الازمات بلغت ذروتها الآن، بحسب ما يشير تغيير الطاقم الحاكم بعد انقضاء رموز الجيل الاول من قادة الحزب المذكور، والذي استقر على اختيار جونيشيرو كويزومي لقيادة الحزب ومن ثم رئاسة الحكومة. ويلعب الفساد احد جسور الربط بين المشكلة السياسية والمشكلة الاقتصادية، فيبدو ان طوكيو لم تنجح حتى اليوم في التغلب على انفجار قطاعها المصرفي والمالي في 1997. والحال انه عشية الخضة التي تعرضت لها العلاقات الاميركية - الصينية اخيراً، كان يسود اوساط المحللين ضرب من القلق حيال مستقبل التعاون الاميركي - الياباني. فواشنطن، كما تردد آنذاك، ستجد نفسها اشد اكتراثاً بالصين وسوقها الهائلة مما باليابان، فضلاً عن انزعاجها من تنامي المشاعر القومية اليابانية حيال الوجود العسكري الاميركي على ارضها. واذا صح ان التطورات الآسيوية الاخيرة أجّلت تطبيق هذه التحليلات لتجدد التركيز على العداوة الاميركية - الصينية، فالصحيح كذلك ان طوكيو لم تحرز اصلاً ما احرزته من نمو اقتصادي واستقرار سياسي الا في كنف العلاقة الخاصة والوثيقة مع الولاياتالمتحدة. ذاك ان حمايتها العسكرية هي التي أتاحت لليابانيين التركيز على الاقتصاد والبناء، فيما كانت المنظومة الدفاعية والاستراتيجية الغربية هي التي تتولى ضبط النزاعات والاحقاد المتوارثة بين اليابان وجيرانها الموالين لواشنطن في كوريا الجنوبية وباقي آسيا. ويتفق غالب المحللين الآن على ان المشاكل المتراكمة اعقد كثيراً من ان يذللها كويزومي الذي بولغ في التوكيد على "لا تقليديته" الى حد استحق معه وصف "ايكونوميست" البريطانية ب "الساحر". والساحر هذا قد يجد نفسه حيال تناقضات لا يحلها السحر، كإرضاء بارونات الحزب والتوفيق بينهم وتأمين مصالحهم، او ادامة المصالحة بين الحاجة الاستراتيجية التي تمثلها العلاقة بواشنطن والنزعة العسكرية التي غازلها كويزومي في خطابه الحكومي. وحدها الصين تخالف هذه الصورة. فهي تملك ثلاث صفات لا تتمتع بها مجتمعة اي من البلدان المرشحة للقطبية التعددية. أولاً، هناك الاقتصاد الذي ينمو بنسبة صاروخية لا مثيل لها: 10 في المئة سنوياً. ثانياً، هناك الدرجة البعيدة جداً من التداخل بين الاقتصاد الصيني والاقتصاد الغربي عموماً، والاميركي خصوصاً. وهذا يعني بين ما يعنيه اسالة لعاب الشركات الاميركية الزاحفة، او التي تتوثب للزحف، نحو هذه السوق الاستهلاكية المتوسعة، بضخامة عددية غير مسبوقة وقوة شرائية متنامية. وهذا إنما يحدث في المناخ الموسوم بتعاظم الاهتمام الاميركي، والغربي عموماً، بآسيا. ثالثاً، على رغم ظاهرات المعارضة والانشقاق التي هددت النظام أواخر الثمانينات، يتحقق اليوم اجماع حول النظام وفره احلال القومية محل الماركسية، فضلاً عن الصدامات الموضعية بالولاياتالمتحدة حول تايوان وهضبة التيبت وقصف السفارة الصينية في بلغراد عام 1999. وهذه جميعاً تولت بلورة المشاعر الوطنية وتعبئتها، مع الميل الى تأجيل التوترات الداخلية. هذا لا يعني ان الصين يمكنها ان تفعل ما يحلو لها من دون ازعاجات ومخاوف. فانهيار العلاقات مع الولاياتالمتحدة بات ينعكس اليوم على حياة الصينيين واقتصادهم، معطوفاً على اسنداد باب "منظمة التجارة العالمية" في وجوههم وحرمانهم من استقبال دورة الألعاب الاولمبية للعام 2008 على ارضهم. كذلك يمكن الذهاب مع بعض المراقبين وتوقع انفجرات محتملة لا بد ان يسفر عنها صدام سياسة الحزب الواحد واقتصاد السوق، او انتهاء ولاية الرئيس جيانغ زيمين في 2003 والتمهيد لظهور جيل حاكم جديد. كل ما في الأمر ان الصين لا تنتابها عوارض الضعف التي تنتاب روسيا، كما انها تملك من شروط القوة الدولية ما لا تملكه اوروبا واليابان. بيد ان هذا لا يعني، في المقابل، ان طريق بكين الى ان تكون القطب الآخر الموازي لواشنطن معبدة بالزهر والرياحين. فالصين لا تزال فقيرة ومتخلفة اذا ما اخذت ككل، بعيداً عن المعدلات الوسطية للأرقام الاقتصادية وعن الاقتصار على مناطق الساحل المزدهرة. كذلك لا تزال، اذا ما قيست بقياس الولاياتالمتحدة، ضعيفة جداً تكنولوجياً ولهذا تحاول سرقة اسرار التقنية العسكرية الاميركية وعسكرياً إذ تتركز قوتها في البر من دون الجو والبحر. وأهم من كل ما عداه ان تعاظم القوة الصينية لن يصطدم بالولاياتالمتحدة اساساً، بل سيصطدم بالدرجة الاولى بجيرانها، لا سيما منهم فيتنام التي يربطها بها نزاع على جزر بارسيل في بحر جنوب الصين، وتاريخ مديد من المخاوف والشكوك لم يبدده التحالف الذي ساد ابان الحرب الاميركية - الفيتنامية. والعنصر هذا إنما يجعل التحول الى قوة كونية محكوماً بالنجاح في امتحان صعب جداً هو: التحول الى قوة اقليمية مسلم لها بذلك. لكن تسليماً من هذا النوع لن يصير تحصيل حاصل ما دام مرهوناً باستعادة تايوان الى دولة البر، على الضد من رغبة سكانها. فاحتمال كهذا يضع بكين وجهاً لوجه مع واشنطن المدعومة، في هذه الحال، من اليابان وباقي آسيا. وقصارى القول ان عالمنا يعيش الفوضى الجديدة من دون ان تنشأ فيه، وله، هندسة اخرى قوامها التعددية القطبية. ولهذا لا يمكن توجيه اكثر من ضربات رمزية للنفوذ الاميركي، كإبعاد الولاياتالمتحدة عن لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة. اما الانجازات الفعلية فتبقى قليلة جداً وصعبة. ففي هذا الزمن الوسيط بين انحلال عالم الحرب الباردة وعدم قيام نصاب لعالم بديل، يمكن لشتى الكوارث ان تحصل... خصوصاً وأن العولمة تتقدم بخطى سريعة جداً فيما الحاكمية العالمية تتعثر وتنكفئ وتتراجع. أوليست التوجهات الانعزالية للإدارة الاميركية دليلاً صريحاً على ذلك التفاوت المريع، والذي على الأمم ان تكتشف طرقها للتعاطي معه؟