تبنى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي اتجاهاً أقرب ما يكون الى احزاب الأممية الاشتراكية الاوروبية بعد مؤتمر عاصف عقده طوال خمسة أيام واضطر الى تمديده لانتخاب لجنته الادارية اللجنة المركزية للمرة الأولى عبر الانتخاب المباشر. عبدالرحمن اليوسفي رئيس الحكومة المغربية والأمين العام للحزب كرس قيادته خلال هذا المؤتمر، حيث نال أعلى الاصوات عندما اختار اعضاء المؤتمر عبر صناديق زجاجية الهيئة القيادية التي جددت دماء الحزب ودفعت بمجموعة من الشباب نحو الصفوف الامامية. ويمكن القول إنه كان "مؤتمر اليوسفي"، حيث قدم له المؤتمر دعماً قوياً لسياسته الحكومية واعتبر ان "تجربة التناوب تجربة ناجحة تماماً". لكن ذلك لا ينفى أن المؤتمر مر بلحظات حرجة للغاية قبل ان تبدأ جلسته الافتتاحية. إذ فوجئ الضيوف والديبلوماسيون والصحافيون قبل الجلسة الافتتاحية بوجود مجموعات غاضبة ترفع شعارات معادية للمؤتمر وتقول إنه "مزور"، وان مشاركين فيه ليسوا من أعضاء الحزب. وكان يقود الغاضبين محمد نوبير الأموي عضو المكتب السياسي للحزب والأمين العام للكونفيديرالية الديموقراطية للشغل اتحاد عمالي موال للحزب، والذي ظل يعتبر لفترة طويلة رمزاً للتيار الراديكالي. بيد ان انسحاب الأموي من المؤتمر السادس للحزب بعد ان كان هو الشخصية الطاغية في المؤتمر الخامس الذي عقد عام 1989، لا يعني ان التيار الراديكالي والنقابي خرج عن الحزب على رغم ان الفقيه محمد البصري، وهو أحد مؤسسي الحزب، والذي ظل يعيش لسنوات طويلة في المنفى، قاطع بدوره المؤتمر مع مجموعة أخرى تضم أربعة من اعضاء اللجنة المركزية السابقة تعرف باسم مجموعة "الوفاء للديموقراطية". إذن ما هي خلفيات انسحاب الأموي؟ خلال عملية الاعداد للمؤتمر قام الحزب للمرة الأولى في تاريخه بحصر عضويته الناشطة حوالي 60 ألف عضو وبعد ذلك تم انتخاب حوالي 1300 عضو لتمثيل مختلف الاقاليم. وتبين من خلال توجهات الفائزين ان الأموي لم يعد له ذلك النفوذ الذي كان له من قبل وبالتالي فان حظوظ انصاره في الفوز بعدد مريح داخل اللجنة الادارية غير متاح. والشيء نفسه ينطبق على مجموعة "الوفاء للديموقراطية" التي ظلت تناهض الخط الرسمي لقيادة للحزب منذ ان بدأت تجربة التناوب في المغرب. وجرت اتصالات ومشاورات قبل انعقاد المؤتمر بساعات حاول خلالها الأموي ومجموعة من الموالين له، منهم عبدالمجيد بوزبع عضو المكتب السياسي وبعض النواب البرلمانيين، الوصول الى "تسوية سياسية". وبدا الخلاف علناً حول إجراءات تنظمية في حين انه في الواقع حول مسألة اعتماد التصويت السري لانتخاب اعضاء اللجنة الادارية التي ستعوض اللجنة المركزية. إذ طالب ممثلو الأموي في الكواليس وبكيفية مغلفة بحصة "كوتا" داخل هذه اللجنة لكنهم لم يفصحوا عن ذلك بشكل صريح. فقد طالبوا بادماج مجموعة في حدود 150 شخصاً في اللجنة التنظيمية وان يقتصر أعضاء هذه اللجنة على اعضاء الحزب في الرباطوالدار البيضاء. لكن مصادر المؤتمر قالت إن هذه المطالبة كانت تخفي توجهاً للسيطرة على القاعة وبالتالي التحكم في مسار المؤتمر. وطبقاً لهذه المصادر فإن عبدالرحمن اليوسفي رفض فكرة "الكوتا" بشدة، متمسكاً بقرار التصويت السري لانتخاب اعضاء اللجنة لادارية. وحين فشل الأموي في الوصول الى حل مع رفاقه اعضاء المكتب السياسي غادر مقر المؤتمر غاضباً. وقبل حوالي ساعتين من الافتتاح تجمعت مجموعة غاضبة موالية له واستمعوا إلى بيان قرأه المعطي سهيل وهو نائب برلماني ومسؤول الحزب في الدار البيضاء أعلن فيه عن انسحاب "مجموعة من المؤتمرين"، وهي المجموعة الموالية للأموي دون ان يسميهم. وقال سهيل إن سبب الانسحاب هو "تزوير عملية حصر عضوية الحزب وفبركة انتخاب اعضاء المؤتمر". وكان الغاضبون الذين تمترسوا عند مدخل المبنى الذي عقد فيه المؤتمر في ضواحي الدار البيضاء يطالبون وفود الاحزاب الأجنبية وبعض قادة الاحزاب السياسية الذين حضروا كضيوف عدم حضور الجلسة الافتتاحية "وعدم تزكية المؤتمر". وكان من أكثر الوفود التي ألحوا عليها للقيام بذلك الوفد الفلسطيني الذي ترأسه، بعد غيبة طويلة هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح. وتفادى أعضاء المؤتمر عدم الاحتكاك مع الغاضبين حتي لا يؤدي ذلك الى تفجيره. وقدر الغاضبون عدد المنسحبين بحوالي 500 عضو من أعضاء المؤتمر، لكن الرقم الحقيقي كان في حدود 200 عضو عاد منهم للالتحاق بالمؤتمر 60 عضواً. رد فعل اليوسفي وتحدث اليوسفي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر وألقى خطاباً طويلاً أستغرق ثلاث ساعات. وصمد في إلقاء الخطاب على رغم سنه 77 عاماً وحالته الصحية، وكان اعضاء المؤتمر يهتفون له على خلفية انسحاب الغاضبين، حيث كانوا يرددون "يا يوسفي يا رفيق، الاتحاد هو الطريق"، في اشارة إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وعندما قال اليوسفي، في إشارة غير مباشرة للمنسحبين: "ليس هناك أي عمل مناوئ لينال من نقاوة اخلاق وعصمة وقيم المهدي بن بركة وعبدالرحيم بوعبيد وعمر بن جلون"، وزاد: "أنتم هنا اليوم بحضوركم المكثف والمنظم هو الجواب الناطق الحي على متاهات المغرضين والغافلين"، اهتزت القاعة بالتصفيق والهتاف. وبعد الجلسة الافتتاحية وعلى رغم ان اعضاء المؤتمر توزعوا على لجان لإقرار الورقة السياسية والورقة التنظيمية فان كواليس المؤتمر تركزت على انتخابات اللجنة الادارية الهيئة القيادية التي ضمت 185 عضواً من بينهم 37 من النساء. وهذه اللجنة ستنتخب في وقت لاحق مكتباً سياسياً يضم 21 عضواً اضافة الى الامين العام للحزب الذي سيكون قطعاً عبدالرحمن اليوسفي. ولم تحمل انتخابات اللجنة الادارية مفاجآت مدوية لكن كانت هناك بعض الاشارات، إذ فازت جميع الوجوه القيادية البارزة في الحزب وكذا جميع وزرائه الذين ترشحوا. وتمثلت الاشارات في عدد الأصوات التي حصل عليها كل مرشح وكذا ترتيب اعضاء اللجنة. وتصدر اليوسفي القائمة، إذ حصل على 925 صوتاً في حين احتل محمد اليازغي الرجل الثاني في الحزب المرتبة العاشرة واحتل عبدالواحد الراضي رئيس مجلس النواب المرتبة الثامنة. وطبقاً لتركيبة اللجنة الادارية يتوقع ان يلعب اليازغي الدور الرئيسي في التأثير على انتخابات اعضاء المكتب السياسي. تعايش التيارات أما أهم ما تبناه الحزب من قرارات اضافة الى انعطافته السياسية نحو الاشتراكية الديموقراطية فيتمثل في عزمه على قيادة تحالف حزبي "عصري وحداثي" ليخوض به الانتخابات التشريعية التي يفترض ان تجري السنة المقبلة. وكذا تبنيه قرارات تقضي باجراء انتخابات نزيهة "للمرة الأولى في تاريخ المغرب". وفي هذا الصدد يعتزم الحزب ان لا تكون الانتخابات المقبلة نزيهة، بل سيسعى "لاصلاح المشهد السياسي من التبعثر، منتقداً كثرة الاحزاب في البلاد" 13 حزباً. وذلك بالعمل على خلق "تقاطب حقيقي داخل المشهد السياسي"، وان يلتف "جميع الديموقراطيين في المغرب حول مشروع تحديثي". كما يعتزم الحزب تبنى فكرة تقسيم جديد للدوائر بحيث تمثل مناطق الوعي والكثافة السكانية الثقل داخل البرلمان، مع اتجاه لإلغاء الغرفة الثانية مجلس المستشارين واعتماد نظام الدورتين في الاقتراع وخفض سن الناخبين الى 18 عاماً، وتفادي ما سماه الحزب ب"السياحة الحزبية"، أي انتقال النواب من حزب الى آخر بعد فوزهم. يبدو جلياً ان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خرج من مؤتمره ابان تحوله إلى "حزب" بعد ان كان في واقع الأمر تحالفاً عريضاً لتيارات الى حد ما متنافرة. أي "حركة مجتمعية" تضم تيارات عدة. هكذا كان منذ ان أسسه المهدي بن بركة عام 1959 عقب انشقاق في حزب الاستقلال. وكان يهدف آنذاك الى "اقتسام السلطة" مع الملك. هكذا كان الأمر في نهاية الخمسينات. هذه التيارات ظلت تتعايش من دون عناء كبير عندما كانت التجربة الديموقراطية في المغرب متعثرة. أي حين كان الحزب في مواجهة النظام . حالياً أصبح مشروع الاتحاد الاشتراكي جزءاً من مشروع تحديث وعصرنة الدولة في المغرب. في هذه الحالة فإن الخلافات السياسية والايديولوجية تعصف بفكرة التساكن بين التيارات المتصارعة. لذلك تحدث انشقاقات ويخرج غاضبون، إذ أن منطق الغالبية والأقلية لا يحسم في مثل هذه الحالات لقطات قال عبد اليوسفي إن الحزب أصبح بقايا متحف لأنه اكتشف أن الذين في مثل عمره أي ممن تجاوزوا السبعين ما يزالون يشكلون فئة مهمة داخل الحزب. وقال إن السبب يعود إلى أن الحزب لم يستطع استقطاب الشباب وطلبة الجامعات . ويتوقع ان يركز الحزب في الفترة المقبلة على هذا الموضوع . نقل اليوسفي الى العاهل المغربي الملك محمد السادس نتائج مؤتمر الحزب وجرى تبادل الرأي حول الفترة السياسية المقبلة . حضرنوبير الأموي وعبد المجيد بوزبع ندوة صحافية نظمها المنسحبون وقال الأموي انهم لن يشكلوا حزباً جديداً بل سيبقون داخل الاتحاد الاشتراكي وهو أمر نوه به اليوسفي . بثت وقائع الجلسة الافتتاحية للمؤتمر عبر شبكة الانترنت وقال منظمون إن عدداً كبيراً من مستعملي الشبكة تتبعوا وقائع المؤتمر عبرها داخل المغرب وخارجه. ضجت قاعة المؤتمر بالهتاف والتصفيق حين أعلن عبدالرحمن اليوسفي اعتماد نظام اقتراع جديد خلال الانتخابات المقبلة. قال اليوسفي إنه لا يعتقد بوجود ملائكة وشياطين في الحزب . وصرح بأنه ليس موافقا على انسحاب نوبير الأموي وعبد المجيد بوزبع لأنهما، برأيه، كانا عليهما ألا يعطوا حجة لخصوم الحزب ويخيبوا آمال الشعب والرأي العام.