ثمة اختلاف واضح بين الاوضاع المتوترة في مدينة الخليل، وبينها في أي بلدة فلسطينية اخرى. فعلى رغم ان الاحتلال واحد في كل البلدات، والشعب الفلسطيني يعي ذلك، وعلى رغم ان التوتر يسود كل المناطق اليوم، الا ان الخليل حالة اخرى. ليس فقط بسبب قيام فلسطيني بقتل طفلة يهودية لم تبلغ من العمر عشرة اشهر في الاسبوع الاخير من آذار مارس الماضي. ولا حتى بسبب مجزرة الخليل، التي ارتكبها سفاح اسرائيلي يدعى باروخ غولدشتاين، قبل سبع سنوات. بل لأن هذه البلدة كانت مميزة، منذ بداية الاحتلال قبل 33 عاماً. لهذا لم يكن صدفة ان الصدامات الاولى مع الاحتلال بدأت في الخليل. والاستيطان اليهودي الاستعماري على الارض الفلسطينية بدأ على ارض الخليل وفي قلبها. واول مدينة عرفت نظام حظرالتجول، في ظل الاحتلال، كانت الخليل، وآخر مدينة فلسطينية كبرى تسلمتها للسلطة الوطنية، هي أيضاً. وليس صدفة ان مسؤولين عسكريين اسرائيليين يحذرون اليوم من ان تنطلق من الخليل شرارة حرب شاملة في الشرق الاوسط. وفي اسرائيل يقولون انها مدينة متعبة. ويرددون حولها العديد من النكات فلسطينية الصنع. لكن الفلسطينيين يعتبرونها المدينة التي تعيش المعاناة الاقسى في الضفة الغربية. والسبب هو الاستيطان اليهودي المميز في هذه المدينة فهنا يعيش المستوطنون اليهود الاشد تعصباً وتطرفاً. فرضوا انفسهم على المدينة بالقوة، حين بدأوا يطالبون منذ اليوم الاول للاحتلال بالاستيطان في قلب الخليل، باعتبارها بلدة "اليهودي الاول" سيدنا ابراهيم الخليل. وبعد خمس سنوات من الاستفزاز، ومحاولات اقتحام الحرم الابراهيمي بالقوة، سمحت لهم الحكومة بإقامة بؤرة استيطانية عسكرية على اراضي الخليل وسموها "كريات اربع". وفي 1972 تحولت الى مستوطنة مدنية رسمية. واشتهر يومها زعيمهم، موشيه ليفنجر، وهو حاخام متطرف. اعتدى بنفسه على الفلسطينيين واطلق الرصاص من مسدسه الخاص فقتل فلسطينياً. وحوكم. وأُدخل السجن لمدة ستة اشهر فقط بعد ان اقنع المحكمة انه قتل في اطار الدفاع عن النفس. وما هي الا بضع سنوات، حتى سمح لأمثال ليفنجر، من الشباب الأكثر حماساً وتعصباً، ان يستوطنوا في قلب المدينة. ساعدهم على ذلك بعض ضعفاء النفوس الفلسطينيين، الذين باعوهم بيوتاً وحوانيت. وسلطات الاحتلال التي صادرت من اجلهم بيوتا واراضي اخرى. وهم اليوم 600 مستوطن لا اكثر يحاولون السيطرة على 120 الف فلسطيني هم اهل المدينة واصحابها. ويعملون على جر الجيش الاسرائيلي الى معارك دموية ضد الفلسطينيين، حتى في فترات الهدوء العام والمفاوضات السياسية. وفي كثير من الاحيان ينجحون في ذلك. لا بل انهم، في مرات كثيرة بدوا والجنود الاحتلاليين رفاق سلاح في المعارك. وقد شنوا مئات الاعتداءات الجماعية على الفلسطينيين بحماية الجيش، وفي احيان كثيرة بمشاركته. وعندما يرد الفلسطينيون على العدوان، كان الجيش يشكل حاجزاً بين الطرفين ثم يطلق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وحتى الرصاص الحي باتجاه الفلسطينيين. لكن شرخاً حصل في العلاقات بين الطرفين، منذ دخول المراقبين الدوليين الى المدينة، بموجب اتفاق الخليل الذي وقع بين حكومة اسرائيل، برئاسة بنيامين نتانياهو، والسلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات في كانون الثاني/ يناير 1997. فالمراقبون كانوا يعدون التقارير في حادثة اعتداء كهذه ويسلمونها الى الاممالمتحدة، فيطلع عليها ممثلو مختلف دول العالم. واصبح نشاط المستوطنين العدواني محرجاً للحكومة. فبدأت تشدد لمنعهم من مواصلة هذه التصرفات. وراحوا يدخلون في احتكاكات مباشرة معهم، ثم اخذوا يعتدون على الجنود الاسرائيليين انفسهم. ولنترك قائد قوات الجيش الاسرائيلي في الخليل للفترة حتى 1999، يغئال شارون، يتحدث عن ذلك بنفسه: "يوجد في صفوفهم مجموعة من الاشخاص مكانهم فقط وراء القضبان. لكن سلطة القانون تسايرهم. الشرطة لا تطبق القانون معهم. رجال الدين اليهود يشجعونهم. قادة مجلس المستوطنات يسكت عن اعتداءاتهم. وهكذا، وصلنا الى حالة اصبحوا فيها يتصرفون بمطلق الحرية. وحتى الذين يرفضون تصرفاتهم كانوا يسكتون، خوفاً منهم. فهم لا يتورعون عن الاعتداء على من يعارضهم. كانو يشتموننا. يبصقون في وجوهنا، بصاقاً حقيقياً. يوجهون لنا الاهانات. ونحن لا نستطيع عمل شيء معهم. فهم، حسب القانون، مواطنون اسرائيليون، اي تحت مسؤولية الشرطة. ولا يحق للجيش ان يحاسبهم. وقد استغلوا ذلك بشكل فاحش. انهم يشكلون خطراً حقيقياً". اما القائد الحالي لقوات الجيش الاسرائيلي في الخليل فقد اعتبر تصرفاتهم "زعرنة فاجرة ليس فيها من اليهودية شيء". ويتضح ان هذا الموقف من المستوطنين في الخليل، راسخ لدى قيادة الجيش منذ سنين طويلة، لكنهم لم يجرؤوا على التفوه به في حينه. وزاد حرجهم بشكل خاص، بعد انتخاب ارييل شارون، فقد رفع المستوطنون رؤوسهم اكثر منذ ذلك الحين. وفي عهد سلفه باراك، كان هناك حديث علني عن اجلائهم عن الخليل. فحسب خطة باراك سيتم اجلاء 90 مستوطنة يهودية من الضفة الغربية وقطاع غزة في اطار الحل الدائم، بينها بؤرة الاستيطان في قلب الخليل وفي مستوطنة كريات اربع المجاورة. وبدا ان القضية مسألة وقت فقط. لكن ما ان انتخب شارون وبتلك النسبة الكاسحة حتى اصبحوا يتصرفون كأنهم الحاكمون بأمرهم. فقد طمأنهم بأنهم باقون في الخليل الى الابد: "ليس من حق احد ان يحرم اليهود من العيش في وطن الآباء والاجداد"، قال لهم شارون، وصدقوه. وانفلتوا الى الشوارع للبطش بالفلسطينيين الذين باتوا في نظرهم "مستوطنين غرباء واغيار في ارض اسرائيل". وبما ان شارون يهدد الفلسطينيين بالبطش وينفذ تهديداته يومياً، مصرّاً على كسرهم بالقوة، فإن المستوطنين يسيرون على الدرب نفسه. ويمارسون هم أيضا البطش. كان ذلك قبل مقتل الطفلة اليهودية شلهيفت باس بكثير. لكن موتها كان بالنسبة اليهم حجة يتذرعون بها، بل جثة يتاجرون بها، ويستغلونها بشكل بشع لتنفيذ مآربهم الاحتلالية العنصرية. فقد امتنعوا بداية عن دفن جثمان الطفلة حتى يقوم الجيش بإعادة احتلال حي ابو سنينة في الخليل الذي اطلق منه الرصاص. وكفروا بذلك بأحكام الدين اليهودي، التي تقول هي ايضاً "اكرام الميت بدفنه" لا بل تتشدد اكثر فتأمر بألايبيت جثمان في بيته. وتدخل رجال الدين الكبار لاقناعهم. وانضم اليهم رئيس الدولة، موشيه كاتساف وشارون نفسه. وقد رضخوا للضغوط بعد حوالي اسبوع فقط ودفنوا الطفلة، بعد ان ارضاهم شارون بقصف وحشي مدمر لبيوت حي ابو سنينة في الخليل، فضلاً عن قصف رام اللهوغزة وخان يونس ورفح ونابلس وجنين. ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يمارسون اعتداءاتهم بأنفسهم، فاقتحموا حي ابو سنينة تحت حماية الجيش، وأضرموا النار في عدد من بيوته وحوانيته. وفي اليوم التالي دمروا ثمانية حوانيت في السوق الشعبي في الخليل وأحرقوها واعتدوا على المواطنين الفلسطينيين الابرياء بهمجية. وقد انقذ صراخ عدد من الجنود في موقع على سطح احد المنازل، حياة طفل فلسطيني في الثالثة عشرة من عمره. فبعد وقت قصير من مقتل الطفلة شلهفيت، فرض حظر تجول على المدينة وصادف مرور ستة مستوطنين، فاصطدموا بالطفل. وقد شاهدهم احد الجيران، الذي لم يستطع ان يخفّ لانقاذه، فروى ما رأت عيناه قائلاً: "كانوا يرفعونه ويلقون به على الارض. ثم يلعبون فيه بأقدامهم، كأنه كرة. شاهدته يتدحرج على السلالم، وهم يلحقون به. يرفعونه الى اعلى ويسقطونه على الارض. حتى صاح بهم الجنود المطلون من النافذة. فتركوه جريحاً وواصلوا طريقهم". وألحق نظام حظر التجول أذى كبيراً بسكان الخليل الفلسطينيين الذين يضطر بعضهم الى العودة متأخراً الى منزله بسبب بعد مكان عمله. وروى شهود عيان ان مستوطنين بينهم شابات انهالوا بالضرب على عجوز فلسطيني برفقة زوجته وابنه كانوا عائدين الى دارهم بعد انقضاء فترة السماح بالتجول، ولحسن الحظ شاهدهم احد الجيران الذي أدى صراخه الى هربهم. وهناك مئات الامثلة الاخرى. لكن ذروة اعتداءاتهم كانت في العملية الارهابية الرهيبة التي وقعت في السوق الشعبي الفلسطيني يوم الاحد، الاول من نيسان ابريل. فقد قاموا بتفجير بالوني غاز عند احد الحوانيت فدمروه. واصيب ثلاثة جنود تبين ان اثنين منهم عربيان من فلسطينيي 1948. وكاد الانفجار يودي بمجموعة من الجنود المظليين مرت في المكان قبل دقيقة واحدة فقط. الجيش الاسرائيلي رفض التستر على المستوطنين، واعلن ان هذ الاعتداء من صنع المستوطنين اليهود. وقال الناطق العسكري الرسمي ان العملية تشكل خطراً على مصالح اسرائيل الرسمية. وتهدد امن اسرائيل والاسرائيليين. واضاف: "لقد تجاوزوا الخط الاحمر وكل الخطوط. واذا استمرت نشاطاتهم على هذا النحو، فمن غير المستبعد ان يشعلوا الحرب في الشرق الاوسط كله". لكن المشكلة ليست في المستوطنين فحسب، انما هي ايضاً وبالأساس في الحكومة التي تشجعهم. فالعديد من الوزراء اليمينيين، في الحكومة، قرر تبني مزاعم المستوطنين، بأن منفذي العملية الارهابية وكل الاعتداءات على الفلسطينيين هم اناس يأتون الى الخليل من الخارج. وعندما سئل وزير السياحة رحبعام زئيفي عن الموضوع في الاذاعة الاسرائيلية، اجاب: "انا مقتنع بأنهم صادقون في روايتهم. فقد سبق وابتلينا بأناس كهؤلاء، الا تذكرون؟! حين دخل الى صفوف المستوطنين في الخليل شخص يدعى افيشاي رفيف، وكان واضحاً انه الاكثر نشاطاً وتطرفاً وتعصباً بينهم، وراح ينفّذ اعتداءات واسعة ضد العرب والجيش، ثم تبين في ما بعد انه عميل مخابرات، تم زرعه بينهم لكي يرد الخطر، واذ به يشكّل خطراً بنفسه". يستغل المستوطنون هذه الرواية لتبرئة انفسهم، في حين يخشى مسؤولون حكوميون ان يقدموا على اعتداءات اوسع قد تدفع اسرائيل ثمناً باهظاًَ لها