تثير إدارة جورج بوش الجديدة، بسلوكها المتأرجح بين عدوانية الحرب الباردة وضيق أفق الغرب الأوسط، ردات فعل في العالم كارهة لأميركا ومعادية. ولهذا وقع خاص على الصين تحديداً، هي التي لم تكتم استياءها من اختياره رئيساً للولايات المتحدة، ولو أن تعبيرها عن الاستياء جاء أهدأ وأكثر تهذيباً مما قاله هو عنها ابان حملته الانتخابية. مع هذا استقبلت بكين النزاع الأخير استقبال المستعد له. لا بل بدت كأنها تستدعيه لتثبت لنفسها وللعالم انها رقم صعب، بل الرقم الصعب، في المعادلات الاقليمية والدولية. وادارة بوش، الموصوفة بالانعزال، تعرف هذا تماماً، على قلة ما تعرف. فمنذ انتخاب جورج دبليو بوش الى البيت الأبيض ساد إجماع على انه سيتوج مساراً بدأ قبله، مفاده منح الأولوية لآسيا بدل أوروبا. وكان أول المواقف التي رشحت عن الطاقم الجديد نيته العزوف عن البلقان، ثم أُبدي الحذر حيال مشروع القوة العسكرية الأوروبية بوصفها "منافساً للناتو"، فيما كان الأوروبيون يجهرون بانزعاجهم من خطة "الدفاع الاستراتيجي"، قبل أن يعلنوا نفورهم من تخلي واشنطن عن بروتوكول كيوتو للبيئة. ووراء ذلك ان العلاقات التجارية الأميركية - الأوروبية غدت تقل كثيراً عن مثيلتها التي تربط الولاياتالمتحدة بآسيا، ما انعكس في السنوات الأخيرة صعوداً اقتصادياً، ديموغرافياً وثقافياً، للغرب الأميركي المطل على الباسيفيكي، على حساب الشمال الشرقي، الأطلسي، الذي مثل تقليدياً الموقع الراجح في حياة الولاياتالمتحدة. وهنا، تحديداً، نقع على المصدر الأول للسلوك الصيني الأخير. فبكين انما تجتهد في تحسين موقعها داخل النظام الجديد للعلاقات الدولية ساعية، من ثم، الى قطع الطريق على الآمال اليابانية العريضة بانتخاب جورج بوش. وطوكيو، الخائفة من انكماش وزنها قياساً ب"التنين الأصفر"، كما قياساً بأزماتها الاقتصادية وتردي أدائها السياسي، كانت رأت ان بوش لا يعتبر الصين "شريكاً"، على ما فعل سلفه بيل كلينتون ومنافسه الرئاسي آل غور. فهو، على العكس تماماً، ينظر اليها بعين الحرب الباردة حين كان الحلف الأميركي - الياباني وحده الراسخ الوطيد في آسيا. وهكذا فالمطلوب، في عرف بكين، فرض تغيير على النظرة الأميركية يتوازى مع تعاظم الأهمية الاجمالية لآسيا في جدول أولويات واشنطن. تحديات السلطة والجيش بيد ان المصدر الآخر للسلوك الصيني أشد مدعاة للحذر والريبة. ففي 2003 يغادر جيانغ زيمين قصره الرئاسي تاركاً وراءه عدداً من الأمور الأساسية المعلقة. فالصين، كما هو معروف، تمزج بين نظام الحزب الواحد في السياسة وبين الانفتاح والملكية الخاصة في جوانب عدة من الاقتصاد، لا سيما في مناطق الساحل. والمزج هذا ليس مأمون العواقب إذ لا بد، ذات مرة، أن تطرح مسألة المواءمة بين سياسة مقيّدة واقتصاد ينحو الى الحرية، وأن يثار موضوع القانون، ودولة القانون، مما لا يسع أي اقتصاد رأسمالي ان يزدهر من دونهما. وفي الموازاة هناك دور الجيش الصيني المتنامي بعد تحجيم نسبي أنزله به دينغ هسياو بنغ. وإذا بقي تناميه مرفوضاً من جيوب مدنية في السلطة، فالرفض لم يحل دون رفع موازنته قبل أسابيع بنسبة 18 في المئة، بينما وصل عدده الى 24 مليون جندي! فأي تأثير يتركه "المجتمع العسكري" المتضخم هذا على مستقبل السلطة والمجتمع، وكيف سينعكس ذلك على العلاقات الدولية للصين وجوارها، كما على الثنائي المتفجر، الاقتصادي - السياسي، المعمول به؟ كائناً ما كان الأمر فإن موقفاً "قوياً" يقفه جيانغ زيمين "الضعيف" يجعله أقدر على التحكم بالمستجدات والتعامل مع نذر التناقضات المتجمعة، خصوصاً أن جيلاً جديداً، هو الآن في أربعيناته وخمسيناته، يتهيأ للصعود الى المراتب الأولى. والحاح كهذا لا بد أن يتضاعف إذا ما شاء زيمين تكرار سيرة معلّمه هسياو بنغ اذ أمسك بخيوط السلطة وهو في بيته "متقاعد" من مناصبها. إلا أن ما يواجهنا هنا، وهو المصدر الثالث للقرار الصيني، ذو طابع وظيفي حصراً. فمن يراجع الحالة الطلابية الصينية أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، حين حصلت مذبحة ساحة تيان آن مين، ويقارنها بالمزاج الطلابي الراهن في طول البلاد وعرضها، لن تفوته الوظيفة التي يلعبها التطرف في حسابات السلطة. ذاك ان الطلبة، مثلاً لا حصراً، طووا أجندتهم الديموقراطية وباتوا يطالبون ب"الزعيم القوي" الذي يكون ما كانه ماو تسي تونغ، راداً الى الأمة "اعتبارها وكرامتها". وبدل التذكير بنضالاتهم في سبيل الحقوق والحريات، وهم الفئة الأنشط والأوفر حراكاً، عاد الى الصدارة التذكير بدور الطلبة الصينيين في حركة 4 أيار مايو 1919 رداً على "تخاذل الحكومة" في مفاوضتها القوى الأوروبية ابان صلح فرساي! وبدل التعامل مع الحاضر وأسئلته يصار الى ترحيل العقل الى الماضي، كما في كل حالات الاحتقان القومي. وغني عن القول ان تراجعاً كهذا ارتبط جزئياً بدور السلطة وإعلامها وتكييفها للأذهان، كما نجم جزئياً عن سياسات غربية بدت استفزازية للصينيين. غير أنه، في الأوضاع كافة، يسهل النهج الراهن في خنق المعارضة، الثقافي منها والديني، ووصم كل انشقاق بالخيانة والجنون، فضلاً عن المضي في الرقابة على وسائل الاعلام المعلوماتي والحؤول دون تبلورالنوى الاقتصادية الجديدة في هيئة سياسية. الماركسية الصينية وهذا وذاك يحصلان في كنف وعي قومي وعسكري لم تفعل الشيوعية إلا صقله وتعزيزه. وهذا مصدر راسخ في عقل الصين السياسي الحديث. فالماركسية هناك بدت، من الأساس، أقرب الى الانبثاق من الحركة القومية والتحول، من ثم، جناحاً راديكالياً على يسارها. فعلى عكس لينين الذي وجد سلفه في المثقف الماركسي الروسي بليخانوف، وجد ماو تسي تونغ سلفه في الزعيم الوطني الصيني صن يات صن. وحذا حذو ماو سائر الماركسيين غير الأوروبيين. ففي كوبا مثلاً، رد كاسترو حركته الى جوزيه مارتي "البورجوازي" انما الكوبي جداً. ووصل الأمر بكيم ايل سونغ في كوريا الى ربطها بشوسن يي، الامبراطور الكاره للغرب والأجانب والكاثوليكية. وهذا الحضور القومي الفلاحي الطاغي على الشيوعية الصينية هو ما نلقاه في كل واحدة من محطات تطورها، لا يزيده مرور الزمن الا احتداماً. فحزب ماو انما تمكن من بلوغ السلطة عام 1949 لأنه برهن، على العكس "الوطني البورجوازي" تشانغ كاي تشيك، انه الأكفأ في مقاتلة الاحتلال الياباني. وفيما عمل النزاع الصيني - السوفياتي اللاحق على رفع وتيرة التعويل على القومية، جاءت "القفزة الكبرى الى الأمام" و"الثورة الثقافية البروليتارية العظمى" آيتين في الرهان على الارادوية الذاتية ل"الشعب" و"الأمة". والحق ان التراجع الايديولوجي الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته، معطوفاً على التحولات الاقتصادية للصين، جعل التعبير عن القومية أقوى وأبلغ. غير أن التراجع هذا كان أيضاً أفيد للمجموعة الحاكمة. ذاك ان الوعي الطبقي، بطبيعته الانشقاقية ولكن خصوصاً بحزبه وجهازه البيروقراطيين المكروهين من عموم السكان، بات عاجزاً بذاته عن ادامة السلطة ومحاصرة المعارضة. فالمهمة هذه هي ما ينجزه بكفاءة أكبر وعي قومي ذو طبيعة توحيدية وقدرة فائقة على تحريك مشاعر "الكرامة" عند الجميع. لا بل في وسع الوعي الأخير اطالة عمر الجهاز المنبثق عن الوعي الأول، ومن ثم استخدام "الحزب الحديدي" لتمتين سلطة لم تعد طبقية بأي معنى. ويستطيع النظام، والحال هذه، اطلاق دينامية امتصاصية تشتغل على النحو الآتي: إذا كان المجتمع يعاني نواقص وعيوباً، فالعلاج لا يتم بتغيير الوضع القائم بل بتعزيزه وتقريبه من "مثالنا" الجمعي، أي بتوطيد "سلطتنا" و"نظامنا" تطابقاً مع الذات القومية وجوهرها المضيء. وهذا ما لا يتحقق الا بالصراع مع العدو الطامع ب"أرضنا" والممتهن "كرامتنا". فكيف حين يكون ساكن البيت الأبيض صالحاً لتغذية هذه الأوهام جميعاً وانعاشها؟ التجزئة والحروب ويجد الوعي القومي هذا أكثر من سند في التجربة الصينية. فالسياسة هناك تصدر، الى أبعد الحدود، عن نرجسية جريح يمكن تنسيب جرحها الى الاحتكاك بالغرب الأوروبي وما جره من شعور بالمهانة ورد عليه، كما في "حرب الأفيون" و"ثورة البوكسرز". والصين، على مدى قرنين، خسرت أجزاء يعتد بها من الأرض، كما قسمتها الأطراف الأجنبية التي هيمنت عليها في القرن التاسع عشر مناطق نفوذ عدة، متعاونة على ذلك مع عدد من "أمراء الحرب" ومؤسسة الحقبة المديدة التي سماها الصينيون "حقبة الإذلال". وأفاقت "الأمة - الأم" على القرن العشرين وقد تقطّع جسدها على أكثر من شكل في أكثر من مكان. فالسوفيات جعلوا منغوليا الخارجية محمية لهم. والبحرية الأميركية تولت حماية تايوان منذ انشقاقها في 1949 عن البر الذي حكمه الشيوعيون، فيما ظلت هونغ كونغ حتى 1997 في عهدة بريطانيا، وهذا شكل القلق الحدودي المشوب بالرغبة الثأرية أحد بواعث السلوك، فدشنت بكين الخمسينات بدخولها الحرب الكورية لإبقاء الولاياتالمتحدة بعيدة عن آسيا. وأنهت الستينات بحرب حدودية مع الاتحاد السوفياتي الذي كان انقلب من صديق الى عدو. واحتفظت الايديولوجيا الصينية، بمكوّنيها القومي والشيوعي، بجرعة قوية من العداء للدول الكبرى. ولم تتجه شفرة الكراهية الى الأقوياء فحسب بل استهدفت الضعفاء أيضاً. ففي أوائل الستينات حاربت الصينالهند و"استعادت" أرضاً منها، ولم تتردد عن خوض نزاعات دامية مع فيتنام بعدما ناصرتها في الحرب الأميركية - الفيتنامية. وإذا كانت القيادة الشيوعية لم تخف أن "الأرض" واسترجاع تايوان تحديداً تبقى المحرّك الأبرز لسياستها الخارجية، ولبنائها العسكري، فبحر جنوبالصين كان همها الآخر الذي يضاهي تايوان رجحاناً. وكم تشف الدلالة حين تلح الصين على "الاعتذار"، كما فعلت بعد قصف سفارتها في بلغراد، والاعتذار مطلب عزيز على صاحب النرجسية الجريح، وحين يكون السبب المعلن حادثة شهدها بحر جنوبالصين، فيما السبب الآخر متعلق بتايوان وتسليحها. والتاريخ مخيف هنا أيضاً. ففي 1974 استولت من الفيتناميين على جزر باراسيل في الجزء الشمالي من بحر جنوبالصين، لتخوض بعد خمس سنوات حربها الحدودية ضد هانوي بسبب تلك الجزر نفسها. ولئن كان البلدان المذكوران، وكلاهما شيوعي لفظاً، يدعيان ملكية تلك الرقعة البحرية المبعثرة، فإن كلاً من تايوان والفيليبين وماليزيا وبروناي تدعي ملكية جزيرة أو اثنتين منها. وهذا بدوره يعني ان محاولة الصين امتلاكها ستفجّر بالتأكيد حروباً لا حصر لها، يصعب أن يبقى حيالها بلد كاليابان مكتوف الأيدي. غير أن ذلك لن يردع بكين في ظل اندفاعها القومي والعسكري، لا سيما وقد اكتشفت في بحر جنوبالصين حقول للغاز الطبيعي قدّرتها صحيفة "الشعب" اليومية الرسمية بنصف احتياطي الصين من النفط، فضلاً عن وقوع تلك المنطقة على خطوط التجارة البحرية مع أوروبا وطريق الواردات النفطية من الشرق الأوسط. والراهن ان منطق اشتغال السياسة الصينية، والحال هذه، مفاده إزالة الفارق بين النفوذ الحضاري الضخم في آسيا، حيث تنتشر الثقافة الصينية انتشاراً واسعاً، والنفوذ السياسي المحدود بحدود الأمة - الدولة بعدما بُتر منها بعض أطرافها. ولأجل الوفاء بهذا التطلع الامبراطوري تنصب النظرية العسكرية للصين على التحول قوة جوية وبحرية، وعدم الاقتصار على الجبروت البري على ما هي حال جيشها اليوم. وفي غضون ذلك تركز بكين، مستفيدة من الدرس الذي تعلمته من حربي الخليج وكوسوفو كما خاضهما حلف الأطلسي، على توسيع مداها الدفاعي ورقعته، على أن يتم التوسيع قضماً وخطوة خطوة فلا تضطر بعده الى ارسال طائراتها بعيداً الا في ظروف قصوى. وهي تعرف، بالاستفادة من الحربين المذكورتين وتطويراً لنظرية قديمة كامنة في حرب العصابات الماوية، ان الأميركان يتجنبون وقوع القتلى في صفوفهم ويؤثرون التراجع أمام عمليات التقدم قضماً وخطوة خطوة. والنظام الصيني، بعد كل حساب، لا يعبأ كثيراً بأكلاف بشرية يمده بها خزّان بشري من 1.3 بليون نسمة وتسوّغها قضية قومية جليلة. وكائنة ما كانت الحال يبدو ان "امبراطورية الوسط" التي عاشت طويلاً وراء سور العزلة ومحاذرة الغريب، تتململ. وفي وجهها تتململ انعزالية الغرب الأميركي الأوسط كما يرمز اليها جورج بوش وادارته. فإذا ما مضى الطرفان مستقبلاً في التصعيد - حتى لو نجحا في تذليل المشكلة الأخيرة - كُتب النصر للأطراف الأشد ضيقاً وعسكرية في البلدين. وفي هذه الأثناء سيخسر الشعبان وتفقد الشركات الأميركية البلايين التي تعدها بها الأسواق الصينية الضخمة، فيما تُحرم الصين حصول ألعاب 2008 الأولمبية على أرضها، ودخول "منظمة التجارة العالمية" وأشياء كثيرة أخرى