فيما كانت الإدارة الأميركية مرتبكة للاعتذار عن تصريحات قائد البحرية الأميركية في أوكيناوا الذي نعت فيها السياسيين اليابانيين بال "سذج" وال"الدجاج المبلل" للإشارة إلى جُبنهم، جاءت حادثة صدم الغواصة الأميركية سفينة التعليم اليابانية ومصرع تسعة طلبة بحارة يابانيين، لتصب المزيد من الزيت على حريق العلاقات الأميركية - اليابانية المتوترة. وغطت أخبار غرق السفينة وصور عمليات الإنقاذ شاشات التلفزيون، وانتقدت الصحافة "عنجهية" البحرية الأميركية وقلة مسؤوليتها في أعالي البحار، على رغم ان الخبراء الذين استنجدت بهم أجهزة الإعلام شددوا على الطابع التقني للحادث، وأكدوا أن صعود الغواصة الأميركية المفاجئ هو السبب المباشر للحادث. وعلى رغم تصريحات الناطق البحري الأميركي من أن هذا إجراء روتيني، فإن الخبراء، بمن فيهم الخبراء الأميركيون، يؤكدون أن صعود غواصة بشكل مفاجئ إلى سطح الماء، يحدث في الحالات الاستثنائية فقط، ولم تكن هناك أية ضرورة لاستعمال هذه التقنية. فالغواصة كانت على بعد 9 أميال من قاعدتها في جولة روتينية، وقائد السفينة لم يتبع أياً من الإجراءات التي تنص عليها قواعد الملاحة البحرية. وترددت معلومات عن احتمال أن تكون الغواصة في جولة "استعراضية" وأنها كانت تقل عدداً من "الزوار المدنيين" وهذا ما يمكن أن يفسر الحركة الاستعراضية التي قام بها قائدها وأدت الى اغراق السفينة اليابانية في غضون عشر دقائق. فإذا كان هذا الخبر صحيحاً، وهذا ما ستؤكده أو تنفيه التحقيقات التي بدأتها جهات رسمية أميركية، فإنه يشير إلى الجهد "التسويقي" الذي تقوم به القوات المسلحة، في الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول، لإقناع الجهات المدنية النافذة والمؤثرة والتي تقبض على "حافظة النقود" بضرورة زيادة أو إبقاء موازنات التسلح، في غياب عناصر توتر عالمية جدية، عبر دعوات استعراضية لمجموعات الضغط ولوبيات الأسلحة وفي بعض الأحيان أعضاء من الكونغرس الأميركي! غير ان هذا الحادث جاء في وقت غير مناسب بالنسبة الى العلاقات اليابانية - الأميركية التي تشهد بعض التوتر على رغم اعتراف الإدارة الأميركية الجديدة بأن علاقتها مع اليابان تشكل "حجر زاوية سياستها" في آسيا... وعلى صعيد تنظيم الاقتصاد العالمي. فوزير الخارجية الجديد كولن باول الذي اجتمع للمرة الاولى منذ تسلمه مهامه، مع وزير خارجية اليابان كان يحمل ملفات تتجاوز التأزم الدائم بين اليابان وأميركا بسبب القواعد العسكرية... "والتصرف المؤذي لبعض الجنود". فخروج الأميرال هيلستون بتصريحه الذي جرح "الكبرياء" الياباني، جاء بعدما حكمت إحدى المحاكم اليابانية في أوكيناوا على جندي اميركي اغتصب فتاة يابانية في حادث هو الثاني منذ سنتين. وقد اضطر الأميرال إلى الاعتذار العلني عن أقواله... وكرت سبحة الاعتذارات على كافة الأصعدة، إلى أن جاء خبر إغراق الباخرة اليابانية في ظروف هي أبعد من أن تكون طبيعية، وفي تصرف يبدو غير مفهوم من قبل قائد غواصة نووية قد تكون تحمل أسلحة نووية. لقد جاء الحادث ليخرج من الأدراج لائحة طويلة بالحوادث المماثلة التي سببتها البحرية الأميركية في بحار العالم. فالتحقيقات في غرق الغواصة الروسية "كورسك" ما زالت مستمرة، والشبهات حول تورط غواصة أميركية في إغراقها ما زالت موضع بحث جدي من قبل السلطات الروسية وجهات مستقلة مثل البحرية النروجية والفنلندية والسويدية. وفي عام 1981 تسببت الغواصة النووية الأميركية جورج واشنطن في غرق سفينة للبحرية اليابانية تجاه شواطئ قَغوشيما جنوباليابان. وقد امتنعت في حينها السفينة عن التوقف وتسبب الحادث في مقتل بحارين، وتأزمت العلاقات مع واشنطن. وفي عام 1984 اصطدمت حاملة الطائرات الأميركية "كيتي هاوك" بغواصة سوفياتية في بحر اليابان، وكانت السفينتان محملتين بالأسلحة والصواريخ النووية ومدفوعتين بواسطة القوة النووية. وفي عام 1993 صدمت الغواصة النووية الأميركية "يو إس غرايلينغ" غواصة نووية روسية من طراز "دلتا" وكادت تتسبب بغرقها وغرق الصواريخ النووية المجهزة بها والتسبب بكارثة نووية في بحر الشمال. وتشجب معظم المنظمات غير الحكومية، الأميركية وغير الأميركية، العاملة في مجال مكافحة التسلح بشكل عام والسلاح النووي بشكل خاص، السياسة الأميركية التي تقضي بوجوب إبقاء العديد من سفنها الحربية، خصوصاً الغواصات النووية، في حالة تأهب شبه دائمة مما يزيد من احتمالات اندلاع الكوارث النووية في حال وقوع الحوادث مثل الحادثة الاخيرة. ولليابانيين حساسية خاصة حيال كل ما يتعلق بالسلاح النووي والأسلحة النووية، فهم خبروا مرتين تجربة القنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية، وما زالت مرارة التجربة عائقاً بينهم وبين تقبل فكرة كارثة نووية... ولو بالخطأ. والحوادث التي تتسبب القوات الأميركية في وقوعها ليست فقط بحرية، فحسب إحصاءات تجريها منظمات حكومية وغير حكومية، فإن ما لا يقل عن 15 "حادثاً نووياً" تسببت فيها القوات الأميركية في العالم بما فيها حوادث وقعت داخل الولاياتالمتحدة. فحول اليابان والمحيط الهادي يمكن إحصاء أربعة حوادث كبيرة على أقل تقدير، لعل أشهرها سقوط طائرة هجومية أ43- محملة بقنبلة نووية من مصعد حاملة الطائرات الراسية تجاه شواطئ أوكيناوا في عام 1965. وقد غرقت الطائرة والطيار في البحر على عمق 16 ألف قدم. ومثل كل حلفاء الولاياتالمتحدة لم تسلم أوروبا من "الحوادث النووية" للقوات الأميركية، ويعود النصيب الاكبر لبريطانيا واسبانيا، وقد عرفت الأخيرة شبه انفجار نووي في عام 1966 حين اصطدمت، فوق أجوائها الجنوبية، طائرتان اميركيتان عسكريتان واحدة مقاتلة تحمل أربع قنابل نووية، وثانية لتزويد الطائرات بالوقود من طراز سي 135. وقد انفجرت قنبلتان في الجو وأدتا الى تلوث المنطقة، خصوصاً قرية بالومارس الصغيرة. وحتى البحر المتوسط كان له نصيب من حركة الكوارث البحرية. فقد غرقت الغواصة الأميركية حاملة الصواريخ النووية "سكوربيون" امام مضيق جبل طارق وغرق معها 99 بحاراً. وفي عام 1975 اعلنت حالة التأهب النووية في الاسطول السادس المبحر في شرق البحر الأبيض المتوسط، عقب اصطدام بين حاملة الطائرات "كيندي" والطراد "بلكناب" المحمل بالأسلحة النووية. وحسب مصادر مطلعة فإن العالم نجا يومها من كارثة محتمة بعدما تم إخماد النار على مسافة أمتار من القنابل النووية المحمولة! وقد شهد البحر المتوسط حادثاً تم كشف النقاب عنه اخيراً بعد أن ظلّ لغزاً سنوات طويلة. ففي عام 1968 غرقت الغواصة الإسرائيلية "داكار" في عرض البحر خلال رحلتها الأولى من بورتسموث في إنكلترا حيث اعيد تأهيلها بعدما باعتها البحرية البريطانية الى البحرية الاسرائيلية. وانتشرت الاشاعات حول الجهة التي تقف وراء اغراق الغواصة التي كانت تقل 66 بحاراً، فقيل ان البحرية المصرية هي التي أودت بالغواصة إلى قعر البحر في حرب غير معلنة غداة نكسة 1967، وعشية حرب الاستنزاف، وقيل أيضاً أن البحرية السوفياتية هي التي أغرقت الغواصة انتقاماً من السلاح الإسرائيلي الذي "أهان السلاح الشيوعي" في حرب 1967 وكعربون صداقة للدول العربية الصديقة، كما قيل ان البحرية الأميركية، التي أغرقت لها البحرية الإسرائيلية عن طريق الخطأ سفينة التجسس "ليبرتي" في مطلع حرب 1967، حسب ما أعلنته السلطات الإسرائيلية، انتقمت بصمت من البحرية الإسرائيلية. وظل السر طوال العقود الثلاثة المنصرمة يخدم كافة الفرقاء: فالسلطات المصرية تتعمد عدم الإجابة صراحة عن مسؤوليتها بما يخدم مصالحها في عدم الكشف عن مقدرتها العسكرية البحرية... على رغم خروج بعض الأفلام التي توحي بأن الاستخبارات المصرية تقف وراء إغراق السفينة، والاتحاد السوفياتي لم يكن معروفاً بشفافية سياسته الدولية وعمل قواته المسلحة، والقوات الأميركية تجنبت الرد المباشر على الإشاعات كي لا تنكأ جراح السفينة الأميركية الضحية، خصوصاً أن جماعة ضغط أميركية تأسست للمطالبة بتعويضات من إسرائيل، لكن منذ سنة بدأت أعمال بحث وتنقيب عن الغواصة الغارقة يقودها فريق أميركي - إسرائيلي مشترك يستعمل التقنيات نفسها التي استعملت بنجاح للبحث عن "تيتانيك". وقد اكتشف هيكل الغواصة على بعد 300 ميل بحري من الشواطئ الإسرائيلية. وحسب الكشف الأولي فإنه من الأرجح أن تكون الغواصة قد اصطدمت بسفينة "مسلحة وضخمة، وبالأغلب أن تكون حاملة طائرات". ومن المعروف أن هذه المنطقة من البحر المتوسط يتواجد فيها الاسطول السادس بصورة شبه دائمة، إما أن يكون الاسطول الروسي وراء الحادث حيث أن الاسطولين كانا يتربصان ببعضهما البعض. وعلى رغم التعتيم الإعلامي الذي يعقب هذه الحوادث فإنه من المؤكد أن العديد من الصواريخ والقنابل النووية قابعة في قعر البحار والمحيطات من دون أي مراقبة وفي مهب العوامل الطبيعية التي يمكن أن تفجرها. وهي مشكلة باتت تشغل العديد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية وبدأ الحديث عن تكليف لجنة في الأممالمتحدة لمتابعة هذا الشكل الجديد - القديم من التلوث العسكري في غياب الصراعات المسلحة