جاء الاعلان في صنعاء عن توجيهات الحكومة بمنع التحكيم العرفي، لافتاً لدى اوساط سياسية رأت انه، كما يفترض فيه، اعلان لا مبرر له كونه يدخل ضمن اطار تحصيل ما هو حاصل لارتباطه المباشر بالدولة والحكومة اسماً وشكلاً ومضموناً وسلطة وتشريعات، خصوصاً بالمفهوم الحديث وطبقاً لما ينص عليه الدستور والقوانين. وبالتالي فان هذا الاعلان لم يعط جديداً او لم يزد على آثار تساؤلات عن مناسبته وأسبابه وأهدافه "وقدم اعترافاً رسمياً بمدى النظام والقانون من زحف واتساع مساحة التحكيم بالعرف على حسابه"، حسب تعبير سياسي اكاديمي. ويرى كثيرون ان هذه التوجيهات لم تأت تأكيداً لما هو ثابت، بل جاءت بمثابة اعلان حرب او مواجهة ضد العرف وتحكيم العرف في قضايا الدولة، سيحدد المستقبل نوع هذه المواجهة ووسائلها ومدى نجاح او اخفاق الحكومة. ووصفت المصادر اطلاق الحكومة هذه التوجيهات بمنع تحكيم العرف، بأنها خطوة جريئة وجادة لانها اكدت وجود حقيقة قائمة وظاهرة سلبية تتمثل في طغيان التحكيم العرفي على تطبيق النظام والقانون، وهي ظاهرة يعاني منها الجميع وتنعكس آثارها السيئة على مختلف جوانب الحياة العامة، اضافة الى ان صيغة التوجيهات الصارمة وتعميمها على كل مؤسسات ومسؤولي الدولة. تؤكدان جدية الحكومة واتجاهها لمحاربة تفشي الظاهرة. وحسب القيادي في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم محمد يحيى شنيف، رئيس دار "المسار" للبحوث والدراسات "فإن هذا لا يعني إلغاء العرف او التحكيم بالعرف، بل اعادة العرف الى حدوده في اطار القضايا الخاصة والقبلية حيث يكون وجوده ايجابياً ومساعداً على الالتزام بالقانون لا طاغياً عليه". وصدرت التوجيهات عن رئيس الوزراء الدكتور عبدالكريم الارياني تنفيذاً لتوجيهات الرئيس علي عبدالله صالح، الى "كافة مسؤولي الدولة بالامتناع عن التدخل وعدم قبول حل القضايا من خلال التحكيم العرفي، سواء بين الدولة والمواطنين او بين المواطنين وبعضهم". وأكد الارياني "الالتزام الصارم والفوري بها". وشدد في توجيهاته الى "محافظي المحافظات وقادة المناطق والمحاور والاركان ومديري الأمن ومديري المديريات على الالتزام بحل جميع القضايا وفقاً للنظام والقانون"، محدداً الحالات الاستثنائية في قبول التحكيم العرفي، بالقضايا الخاصة بين المواطنين عند قبول الطرفين بالتحكيم، "على ان يكون خارج اجهزة الدولة ومسؤوليها وفيما لا يتعلق بقضايا الدولة وقضايا الحق العام". وعلى رغم كثرة الاسئلة والتساؤلات التي أثارتها هذه التوجيهات في مختلف الاوساط اليمنية فان ابرزها واكثرها تداولاً هو: ما هي اسباب هذه التوجيهات وأهدافها ووسائل تنفيذها ومدى امكانها؟ تتفق اطراف رئيسة على ان الاسباب ماثلة في ما هو قائم من طغيان العرف على القانون حتى يكاد يتجاوزه شيوعاً وتحكيماً في مختلف المواقع والقضايا، وان الهدف واضح من نص التوجيهات، وهو منع هذا الطغيان والفصل في هذا التشابك بين القانون والعرف، بإعادة العرف الى حدوده وحماية القانون من الاهمال والامتهان، حسب أحمد الشرعبي رئيس المركز العام للدراسات الذي اعتبر ان هذه الخطوة اذا نجحت "تمثل بحق اعادة الاعتبار الى القانون"، لأن ما هو قائم الآن "يمسّ الدولة في اكبر مقوماتها، وينتهك انظمتها وسيادة سلطتها ويتناقض مع اهدافها الكبرى في بناء الدولة الحديثة والنظام المؤسسي ومع سلطة القضاء واستقلاله". وتتفق المصادر على ان انتشار التحكيم بالعرف منذ ما بعد قيام الوحدة اليمنية بالذات في ايار مايو 1990 بصرف النظر عن وجوده في نطاق محدود قبلها، قام على اسباب موضوعية من ابرزها، اهتزاز سلطة الدولة وضعفها نتيجة الخلافات والازمات السياسية خصوصاً في السنوات الخمس الاولى 1990 - 1994 وما رافق هذا او نتج عنه من تطويل وتعقيد في حل القضايا والمشاكل العامة والخاصة، وظهور الفساد في الجهازين الاداري والمالي، وهي الاسباب ذاتها التي أدت الى انتشار الظواهر السلبية الاخرى. فقد وصل التحكيم بالعرف الى ادارات الشرطة والسلطات المحلية، وساعد على انتشاره ان معالجة القضايا بالتحكيم العرفي يدخل فيها دفع مبالغ مالية هي في الحقيقة رشوة مقنّعة، ومن ثم تحول قادة ومسؤولون في اجهزة الدولة الى "مشائخ قبائل يحكمون بالعرف"، حسب النائب محمد ناجي علاو الذي طرحه هو مدى امكان تطبيقها، لكنه يتوقع ان تموت مثل ما صدرت من دون الالتزام بها، خصوصاً انها تتضمن عقوبات ضد من يخالفها. وأوضح علاو، ان الاحتكام الى العرف "حق للناس اذا تراضوا خارج اجهزة الدولة وان العرف يمكن اللجوء اليه في القضاء عند عدم فاعلية النصين الشرعي والقانوني". وقال ان الذي يحصل هو اكثر من هذا "ان لدينا قضاة حكّموا العرف في حالات كثيرة على رغم وجود نص في قانون المرافعات يمنع هذا". واضافة الى اهمية رأي رجال القانون ومرجعياته يحظى رأي مرجعيات العرف القبلي الذين يرجع اليهم للفصل في القضايا والخلافات، خصوصاً بين الافراد والقبائل، بأهمية متميزة في هذا الموضوع بالذات. ويمثل مشائخ القبائل عموماً، المرجعيات العليا للعرف والحكم به في اليمن، واعلى مرجعية له يمثلها الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر الذي يحتل اعلى منصب قبلي اضافة الى اعلى منصب تشريعي في الدولة بوصفه رئيس مجلس النواب، السلطة التشريعية المسؤولة عن وضع واقرار واصدار قوانين الدولة. وسألته "الوسط" عن رأيه في اعلان التوجيهات بمنع حل قضايا الدولة والقضايا العامة عن طريق التحكيم بالعرف، فردّ بتخطئته للتوجيهات، معللاً ذلك بأن "العرف في اليمن مكمل للشرع وهو القانون المعمول به". ووصف العرف بأن "فيه ضوابط بعضها اقوى من ضوابط القوانين"، موضحاً "ان التحكيم بالعرف لا يتناقض مع احكام الشريعة" ومؤكداً بحكم موقعه وتجربته الطويلة ان "معظم القضايا والخلافات بين الناس لا تُحل الا بالعرف والمصالحة". لقد انتشر التحكيم بالعرف في اليمن، خلال السنوات الخمس الماضية وتطور في شكله واسلوبه التقليدي بين القبائل بتحكيم المشائخ والاعيان، الى ما يشبه النظام المؤسسي، بظهور مجالس قبلية وهيئات ودور للتحكيم بالعرف، منها مثلاً تأسيس ما أُطلق عليه "الدار اليمنية لحل مشكلة الثأر" في 1997 و"دار السلام لحل الخلافات القبلية" ومجالس ومؤتمرات قبلية عدة، شارك في تأسيس بعضها مثقفون وقانونيون، ولم تلبث ان تناولت قضايا ضمن مسؤولية الدولة بحجة ان المواطنين في المنطقة او القبيلة الفلانية طرف فيها. اما تدخل المشائخ من هذه القبيلة او تلك، في حوادث الخطف بالوساطات بين الحكومة ممثلة بالجهات المعنية وبين الخاطفين لاطلاق المخطوف، فقد اصبحت شبه قاعدة تلاقي التشجيع على رغم ان هذه الوساطات ليست داخلة في اعلان منع التحكيم بالعرف، لكنها في كثير من الحالات "تتحول الى عمليات ابتزاز تفرض على الحكومة الالتزام عبر الوسطاء بعدم ملاحقة الخاطفين وبتحقيق مطالب لهم، وهذه جريمة لانها تعطل القانون وتبرئ المجرم"، كما قال المحامي علاو. وكما تؤكد المصادر ان هذه الهيئات الخاصة بالتحكيم بالعرف بررت قيامها بأن هدفها التعاون مع الدولة في الخلافات العامة والخاصة، وانها كلها او بعضاً منها حظي بتأييد الدولة من حيث المبدأ، الا انها جاءت في اطار هذا الفراغ القانوني وعطّلت جزءاً كبيراً من سلطة القانون المباشرة وعبّرت عن انحساره ووسعت هذا الانحسار. وعلّل المتوقعون عدم نجاح التوجيهات هذه بتغلغل العرف وتحكيمه داخل بعض اجهزة الدولة ومسؤوليها، في حين يحتاج فيه النظام والقانون الى اجراءات قوية لدعمه في البداية على الاقل اذ ان منع التحكيم وحده لا يكفي من دون فعل مباشر.