ترددت في صنعاء خلال الاسابيع الماضية معلومات عن مشروع ما أطلق عليه "الدار اليمنية للتحكيم لحل قضايا الثأر"، وهي مبادرة بدأت قبلية باقتراح 7 من المشائخ واتسعت - طبقاً لما نشر - لتشمل شخصيات من القضاة ورجال القانون بلغ عددهم في وثيقة التأسيس اكثر من 100 شخصية من مختلف المناطق. وهذه الوثيقة أشبه بنظام داخلي أو دستور اذ "سيتبعها ملاحق مفسرة" تحدد أهداف الدار وتنظم أعمالها. ويجري الاعداد لتشكيل "هيئة تحكيم من عدد يزيد على مئة شخصية من المشائخ القبائل والقضاة والقانونيين تسمى المجلس الاستشاري". ويهدف مشروع الدار الى حل قضايا الثأر بصفة عامة، ويدخل ضمن نشاطها وأهدافها "دراسة الاعراف القبلية والتقريب بينها وبين الشريعة ... ويجري التفكير في فتح معهد خاص بهذه المهمة يسمى معهد الدراسات العرفية والشرعية والقانونية". ومما يجدر ذكره ان قضية الثأر في اليمن ذات جذور قديمة "لكنها، حسبما وصفها اعضاء من مجلس النواب" تظهر الآن وسط محرضات وأسباب قوية منها توافر الاسلحة لدى الناس من ناحية، وتضارب المصالح، وما ينتج من خلافات بين بعض الأسر والعشائر". وأوضحت مصادر محلية ل "الوسط" ان ظواهر الثأر الآن قليلة وغير معقدة في معظمها، وان حلها كظاهرة واجتثاثها كموروث يأتيان أولاً بتطبيق القانون وتنفيذ احكام القضاء وفرض سلطة الدولة". ولا يزال ذلك يمثل الواقع الذي تؤكده الاوساط في اليمن على اختلاف مواقعها، بما فيها المعنيون في الحكومة، وهي تتمسك به "لأن سلطات الدولة في القضاء والنيابة واجهزة الامن هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن معالجة الثأر وغيره من الظواهر السيئة وهي قادرة على ذلك في أي وقت تشاء" كما قال مسؤول رفيع المستوى. وأضاف في حديث الى "الوسط" انه يرى "ان هذه الدار وغيرها لا لزوم لها ولا جدوى منها ... اذ لا يمكننا ان نفرض على القانون سلطات من خارجه ونحن ننادي بمبادئ استقلال القضاء وسيادة القانون والفصل بين السلطات". اذن كيف جاءت مبادرة هذه الدار؟ وما مدى قدرتها على التحول واقعاً عملياً؟ وكيف ينظر اليها الاطراف والاشخاص المعنيون بها. قد تبدو محاولة الاجابة عن هذه التساؤلات بسيطة ومباشرة مع الاخذ في الاعتبار بأن التعقيد والعمق احتمال وارد طبقاً لما هو معلن حتى الآن، وبالتالي فان تناول هذه المبادرة وهي لم تتجاوز بعد حدود المشروع النظري يتطلب التفريق بين اسلوب الطرح ومضمون ما هو مطروح، ومن ثم فان طرحها بدا مباشراً وجاداً وملتزماً، وذلك من واقع تصريحات اثنين من المشائخ السبعة المؤسسين الشيخان عبدالجليل سنان وعبدالقوي الشويع غير ان مقترحاتهما نفسها تبدو غير عملية الى حد كبير، نظراً الى فقدانها المنهجية والرؤية الموضوعية المستوعبة للواقع وأطرافه، ولما يشوبها من تناقضات بين الوسائل والمناهج من ناحية، وهي العرف والشريعة والقانون. ليس في العلاقات بين هذه المرجعيات الثلاث في حد ذاتها، بل في الخلط بينها بصورة تتناقض مع طبيعة كل منها. وفي التناقض والتصادم من ناحية اخرى بين كيان المبادرة وصلاحياتها المفترضة في مجملها وبين مؤسسات القضاء والنيابة العامة فضلاً عن ان اطلاق تسمية "المجلس الاستشاري" على هيئة التحكيم المقترحة أمر غير مقبول من جانب السلطات، لأنه سينازع "المجلس الاستشاري" التابع لرئاسة الدولة. كما ان قيام معهد للدراسات العرفية والشرعية والقانونية للتقريب بين الاعراف القبلية والشريعة والقانون "غير منطقي ولا عملي سواء في موضوعه أو مهمته أو حتى تسميته" طبقاً لمصدر اكاديمي تحدث الى "الوسط"، مضيفاً ان الغموض يكتنف هذه المبادرة ومشروعها من معظم الجوانب مثل هويتها ومستندها وادارتها وتمويلها. وأوضح ان الهدف الرئيسي منها ان تجمع بين الجهود والتشريعات المختلفة في معالجة قضية الثأر، الا ان تشكيلها بهذه الصورة كما يبدو ابرزها متناقضة وغير مقبولة وغير عملية. ويشار هنا الى ان التصورات الخاصة لانشاء هذه الدار ووثائقها واسماء المشاركين فيها لم ينشر شيء منها وانما وردت في سياق اخبار وتصريحات جاء فيها ان المؤسسين وجهوا رسالة الى الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، تضمنت شرحهم للمبادرة وطلبهم مباركته لها وتصديقه على انشائها. وذكر مصدر مطلع ل "الوسط" ان الرسالة احيلت الى قياديين في المؤتمر الشعبي العام الحزب الحاكم ولمح الى ان الرئيس صالح كان مشغولاً ولم يظهر اهتمامه أو عدم اهتمامه بها". وتوقع ان يحيلها الرئيس الى المجلس الاستشاري أولاً باعتباره المعني اساساً بقضية الثأر، ثم يحدد رأيه حيالها في ضوء رأي المجلس. وسط هذا الغموض الذي يكتنف المبادرة من ابرز جوانبها كانت التخمينات والتوقعات هي البديل المتاح لتفسيرها. ومن مجمل الاتصالات التي اجرتها "الوسط"، يكاد الجميع ان يتفقوا على ان وراء المبادرة شخصية أو جهة دافعة لها من خارجها. لكن معظم الاراء تستبعد الرئيس اليمني لأسباب عدة "منها انه عهد بهذه القضية الى المجلس الاستشاري عند تأسيسه في مطلع حزيران يونيو الماضي وبدأت لجان المجلس تضع دراسات وتصورات في شأن ظاهرة الثأر، ومنها ان اصحاب المبادرة وجهوا رسالة الى الرئيس اليمني يطلبون فيها موافقته على انشاء الدار ولم يتلقوا بعد رده عليها، اضافة الى احتمالات اخرى وصفها بعض الآراء بانها "ظاهرة غير صحيحة، لأن طرحها كمشروع نتج عن فراغ في تطبيق القانون وفي قدرة المحاكم على الحسم في القضايا المطروحة عليها وفي تنفيذ الاحكام الصادرة عنها" حسبما قال الدكتور فارس السقاف رئيس "مركز دراسات المستقبل" الذي اعرب ل "الوسط" عن ارتيابه في مبادرة انشاء دار للتحكيم في قضايا الثأر، وقال: "اخشى ان تكون لافتة اجتماعية تخفي وراءها اهدافاً سياسية". ولم يستبعد آخرون ان تكون هذه الدار تكراراً لمجالس قبلية سبق انشاؤها خلال العامين 92 و1993 خصوصاً ان بين مؤسسيها من شارك في التجارب السابقة التي سعت الى معالجة الثأر من خلال الاعراف والوساطات القبلية، لكنها تلاشت قبل ان تحدث تأثيراً .