قبائل اليمن عالم في حد ذاته، له رجاله وشيوخه وأعرافه وتقاليده وعاداته ومبادئه وصفاته ومميزاته. وهو عالم مثير للاهتمام بلا شك، يتعايش مع العصر الحديث لكنه يرفض الذوبان فيه، ويتعامل مع الدولة ومؤسساتها احياناً كثيرة لكنه يرفض ان يصبح جزءاً لا يتجزأ منها. الانتخابات النيابية التي ستجري في اليمن يوم 27 نيسان ابريل الجاري، والهادفة الى ادخال الدولة اليمنية الموحدة مرحلة جديدة في تاريخها، تسلط الاضواء بقوة على عالم القبائل هذا. "الوسط" تفتح ملف القبائل من خلال تحقيق ميداني اجرته ارواد اسبر في اليمن عشية هذه الانتخابات ومن خلال تقرير خاص ارسله عبدالوهاب المؤىد من صنعاء. ولنبدأ بالتحقيق الميداني: التحقيق الميداني عن الحياة القبلية في اليمن ليس بالأمر السهل. فهناك من يقول لك ان لا جدوى من مثل هذا التحقيق، فلا شيء يميز القبليين عن غيرهم. وهناك من يقول لك: جميعنا من القبائل. في هذين القولين شيء من الصحة، فمن جهة المجتمع اليمني كله كان، اصلاً، ذا بنية قبلية، باستثناء المدن الكبرى. لكن مع الزمن فقدت بعض القبائل لحمتها، او اندمجت جماعات منها في قبائل ثانية. وفي بعض المناطق مثل إب وتعز التي كانت قريبة من مركز السلطة وحيث استطاعت الدولة ان تبسط نفوذها وان تخرق المجتمع القبلي وتقلل شيئاً فشيئاً من النفوذ القبلي لم يعد للبنية القبلية التقليدية وجود فعال. صحيح ان لا شيء يميز القبليين عن غيرهم للوهلة الاولى على مستوى الممارسة اليومية. ففي الريف، حيث يعيش معظمهم، يعملون كمزارعين، ويبدو للغريب انهم يعيشون حياة عادية طبيعية. لكن، هناك ناحية تتميز بها القبائل وتنفرد بها، هي بنيتها السياسية. نظراً الى ان لها اعرافاً تضبط المجتمع، وسلطة تشرف على احترام هذه الاعراف، في اطار جغرافي محدد، فيه يتحقق تعاون ضمن الجماعة للدفاع عن المجتمع القبلي ضد كل ما يهدده من الخارج. عندما تغادر صنعاء وتتجه شمالاً نحو صعدة، او شرقاً نحو مأرب، وما ان تجتاز آخر حاجز للجيش حتى تشعر بالفوارق. يكفي ان تنظر حولك كي ترى ان الرجال والأولاد الذين لم يتجاوزوا الثالثة عشرة مدججون بالاسلحة. بل انك تشاهد سيارات عليها اسلحة ثقيلة عائدة للقبائل. فحمل السلاح مسموح خارج المدن الرئيسية. والاصح القول انه من الصعب بل من المستحيل منع حمل السلاح في المناطق القبلية! وكما قال لي احد المشايخ، ان هذه الظاهرة واحدة من الحالات التي لا تستطيع الدولة ان تمسها او تغير شيئاً منها. فلن يقبل القبليون أي قرار لمنع حمل السلاح لأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه. لا تزال البنى القبلية تلعب دوراً مهماً حتى اليوم. وهي سائدة في اليمن منذ آلاف السنين، ولها دور مهم في المجتمع اليمني المعاصر. وقد اندثرت البنى القبلية في بعض المناطق اليمنية، لا سيما الجنوبية، الا ان معظم اليمنيين الذين يعيشون شمال يريم، اي ما يقارب ثلثي عدد السكان، يخضعون لأعراف وتقاليد قبائلهم. يعيش معظم القبليين في المدن والقرى الريفية، ويعملون بشكل رئيسي في الزراعة. ويتميز القبليون بهوية وطنية وتضامن شديد اثناء مواجهة الازمات. وينبع هذا التضامن من اعتقادهم بأنهم ينحدرون من قحطان او عرب الجنوب. وهذا صحيح على وجه الخصوص في ما يتعلق بالاتحادين القبليين الكبيرين، حاشد وبكيل، اللذين يضمان مجموعة من القبائل. فحاشد وبكيل هما ابنا جشم، وهو آخر احفاد همدان من فرع كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. والقحطانيون او عرب الجنوب كانوا من المزارعين المستقرين، على عكس العدنانيين او عرب الشمال الذين كانوا من الرعاة الرحّل. هذا التسلسل يعرفه جميع اليمنيين، وقد اوضحه وفصّله الهمداني، وهو مؤرخ وجغرافي يمني عاش في القرن العاشر الميلادي. ونفى الهمداني بشدة ان تكون هناك قبائل يمنية في الشمال تنحدر من سلالة عدنانية. القبيلة في اليمن كيان سياسي ولها وجود جغرافي على أرض ذات حدود معروفة وثابتة، وتتمتع باستقلالية داخلية قانونية وسياسية واقتصادية. والقبائل اليمنية تجمعت في اتحادات قبلية كبيرة ابرزها اتحادا حاشد وبكيل في الشمال، والزرانق في التهامة على البحر الاحمر. ولبعض هذه الاتحادات القبلية وزن لا يُستهان به في الحياة السياسية. والقبائل التي تتكون منها كل من حاشد وبكيل تتمتع بخصائص معينة من حيث ان كل قبيلة منها تمثل وحدة قرابية واقتصادية وسياسية مستقلة يميزها اسم خاص ومنطقة خاصة. معظم التقاليد اليمنية السائدة اليوم لها جذور في العادات القبلية القديمة. فالجنبية، او الخنجر المعقوف، التي يضعها الرجال على خصورهم كانت علامة تميز الانتماء الى هذه القبيلة او تلك. وكذلك رقصة "البرعة" التي ترمز الى صراع بين خصمين وتنتهي بانتصار احدهما، وهي رقصة تُؤدى اثناء الاعراس او الاعياد. ولكل قبيلة برعتها. فاذا ذهبت الى منطقة وادي ظهر القريبة من صنعاء صباح يوم الجمعة، ترى العرسان الذين يأتون تقليدياً الى هذه المنطقة مع اهاليهم وأصدقائهم. فما ان يسمع الشبان صوت المرفع، وهو طبل، حتى يتجمعوا في حلقة كبيرة، وكل واحد يخرج خنجره من الغمد ويمسكه بيده التي تقوم بحركات سريعة وفنية. وفي الوقت نفسه يدور الراقصون في حلقة كبيرة مستديرة، ثم يشكلون صفين متواجهين، ويخرجون واحداً تلو الآخر حتى يبقى افضل اثنين. ويؤدي هذان الراقصان رقصة اشبه بالمبارزة تنتهي بانتصار واحد على الآخر. والمنتصر هو غالباً الراقص الاكثر براعة. وكان لطبل المرفع وظيفة اخرى في الماضي، اذ كان بمثابة نداء تتجمع القبيلة عند سماعه، لأنه يشير الى وقوع كارثة، او الى خطر يهدد القبيلة. كما انه يكون في بعض الاحيان نداء استغاثة من احد افراد القبيلة. ويعرف اليمنيون التمييز بين القبائل عبر اللباس احياناً. وعندما يرون عريساً يعرفون من عمامته الى أية قبيلة ينتمي. أراضي القبائل عندما تتجه من صنعاء شمالاً نحو خمر وصعدة، وبعد اجتياز حاجز الجيش واليافطة التي تتمنى للمغادرين السلامة تكون دخلت في أراضي القبائل. ويتقاسم اتحادا حاشد وبكيل هذه المنطقة، بكيل شرق الطريق العام وحاشد في غربها. لكن هناك قرى، شأن ريده، تتعايش فيها قبائل من الاتحادين، كما ان هناك قرى بكيلية في مناطق حاشدية، والعكس صحيح. وقال لي مواطن مسن من قرية وادي ظهر قبيلة همدان الحاشدية ان الذهاب الى القرية المجاورة قبيلة بني حارث البكيلية، او العكس كان بالامس مجازفة. اما اليوم فزالت هذه الظاهرة. والصراعات التي يمكن ان تنشب اليوم بين قبائل الاتحاد الواحد اكثر بكثير من تلك التي تنشب بين حاشد وبكيل. ويقول بعض اليمنيين ان العلاقة القائمة بين اتحاد قبائل حاشد واتحاد قبائل بكيل يشوبها العداء الخفي، ولكنها في الوقت نفسه متوازنة ومتساوية ويسودها الاحترام المتبادل وذلك انطلاقاً من علاقة الند بالند التي ترتكز عليها بنية المجتمع القبلي. ولمفهوم الشرف والعرض مكانة كبيرة في المجتمع اليمني عامة والقبلي خصوصاً. العلاقات بين الرجال وتصرفاتهم او مواقفهم من النساء او الاجانب تخضع لقوانين وأعراف صارمة. فمن العار ان يُمس بالمرأة او بالضيف. وهذا النظام الاجتماعي الصارم يعزز التضامن بين افراد القبيلة. هذا النظام الاجتماعي هو بدوره بحاجة الى هذا التضامن كي يستمر، لأنه لدى مخالفة شخص ما لأعراف الشرف تنعكس المخالفة على جميع اعضاء القبيلة ويتوجب اصلاحها مباشرة. ويتحدد شرف القبيلة بمدى قيامها بحماية الغريب والضعيف في اراضيها، مهما كان وضعه ومركزه الاجتماعي والديني. في طريقنا الى خمر، مررنا عبر حاجز من المسلحين، اشاروا لنا بالسير من دون ان يوقفونا. ولم يلفت هذا الحاجز انتباهي، ظناً مني انه من حواجز الامن. الا ان مرافقيّ شرحا لي ان هذا ليس حاجزاً للأمن الحكومي، بل حاجز اقامه افراد قبيلة. وعندما يقيمون حاجزاً كهذا، فهو يعني انهم يريدون استرداد حق. والحق قد يكون سيارة. لكنهم لا يقربون السيارات التي فيها نساء او عائلات. وحتى لو اخذوا السيارة فانهم لا يمسون اصحابها بأذى. اما السبب في اختطاف سيارات لا تعود لهم فهو الضغط على من اخذ سياراتهم. فاما ان يستولوا على سيارات اشخاص ينتمون الى قبيلة من اخذ سياراتهم، وذلك توصلاً الى تبادل "الرهائن"، وإما ان يأخذوا سيارات طرف ثالث، كي يضغط على من كان السبب الأول في هذه العملية. لكل قبيلة شيخ. وعلى الشيخ ان يتمتع اولاً بصفات شخصية متميزة. والمشيخة تنتقل ضمن العائلة الواحدة اجمالاً، وإن كانت لا تخضع لنظام وراثي كأن تنتقل الى الابن الاكبر سناً. ينتخب اعيان القبيلة ورؤساء العشائر الشيخ، وعليه السهر كي يحترم الجميع القوانين القبلية. وسلطة الشيخ ليست مطلقة، اذ عليه دائماً ان يرجع الى رأي المجلس القبلي. وعند وفاة الشيخ، ينتخب القبليون واحداً من ابنائه او اقربائه الذين يعتبرونه الاكثر اهلية للقيام بهذه المهام. ولكل بيت عاقله الذين يرأسه، ويكون الوسيط بين بيته وشيخ القبيلة. من مهمات الشيخ الرئيسية الحكم في حال وقوع خلاف. وهو في حكمه يرجع الى الاعراف القبلية. وعندما يتوجب على الشيخ الحكم في خلاف ما يكون همه الأول المحافظة على اللحمة الاجتماعية. وغالباً يتم التوصل الى حل وسطي يهدئ الجهتين ويرضيهما. وتفرض الاعراف القبلية ان تعين كل جهة كفيلاً يفترض فيه ان يتأكد من تطبيق قرارات الشيخ. كما ان على كل جهة ايداع شيء ذي قيمة بمثابة كفالة. وبالنسبة الى الخلافات البسيطة يُكتفى عادة بجنبيتي الرجلين المختلفين. اما في الخلافات الخطيرة بين قبيلتين فتكون الكفالة عبارة عن كمية من الاسلحة. وعلى كل جهة ان تتعهد باحترام قرارات الشيخ. وفي حال نشوب خلاف بين قبيلتين، يتم اللجوء الى حكم شيخ قبيلة ثالثة. وكل قبيلة مسؤولة عن اعضائها. عندما يقتل قبيلي رجلاً من قبيلة اخرى، تحميه قبيلته. وعلى قبيلته ان تتفق مع قبيلة القتيل على "الدية". وكنت اسمع احياناً حواراً ساخراً بين صنعاني وقبيلي حيث يقول الصنعاني: "القبائل لا تعرف سوى لغة العنف"، ويجيبه القبيلي: "القبائل تحمي البلاد وتحميكم". حيث الأول يتهم الثاني باللجوء الى لغة العنف، والثاني يعتز بشجاعة القبائل ومروءتها. الجرائم السوداء مفهوم الشرف وقانون العين بالعين أساسي في العلاقات بين القبائل. عندما يتجاوز قبيلي عرفاً من الاعراف يتوجب على رفاقه حمايته. لكنه في حال عدم احترامه لأعراف الشرف القبلي، وارتكاب جريمة من "الجرائم السوداء"، فان عليه ان يتحمل النتائج بمفرده. والجرائم السوداء، اي التي تسوّد وجه الفرد هي الزنى والسرقة، والغدر، او القيام بعمل جبان وغيرها من الجرائم التي تلحق الضرر بشرف العائلة. هذه هي الجرائم التي لا تتحمل العائلة مسؤولياتها ونتائجها. فتقوم القبيلة نفسها بنفي مرتكب هذه الجرائم، وتعلن ذلك للقبائل الاخرى في السوق. لأن السوق يعتبر مكاناً محايداً. استطاعت البنى القبلية ان تستمر طوال قرون، في حين قامت دول، وانهزمت ممالك وتغيرت حكومات. وفي احيان كثيرة، كانت الاعراف القبلية ضمانة للمحافظة على الانضباط الاجتماعي في اوقات الفوضى والاضطراب وفي مراحل انهيار الحكومات او زوالها. هذا الى جانب اللحمة الشديدة التي تربط افراد القبيلة في ما بينهم. بعض القبائل يجمع كل شهر مبلغاً مالياً من الافراد، ويذهب هذا المبلغ الى صندوق خاص ويُصرف للمحتاجين من افراد القبيلة أو يدفع دية، او تعويضاً لعائلة قتيل. فمن ضمن الاعراف ان تشارك كل القبيلة، أو العشيرة، بدفع دية قتيل. وفي المقابل، تأخذ قبيلة القتيل من عائلته نسبة رمزية من الدية المدفوعة لها. وقال لي قبيلي يسكن صنعاء انه يدفع كل شهر مئة ريال يمني لهذا الصندوق، وانه اذا تأخر، ترسل له قبيلته شخصاً لتذكيره بواجباته. وقال لي انه لا يتردد ابداً بدفع هذا المبلغ شهرياً "فمن يريد ان يطلع عن اهله؟"، كما قال. رجل فوق شجرة مدينة خمر القديمة تعج بالحركة يوم الاحد، موعد سوقها الاسبوعي الذي يقام وسط البلدة، حيث يأتي كل شخص يعرض بضاعته في بسطة على الأرض. وترى المعروضات من كل نوع، الاقمشة المزركشة واللبان والتوابل والأواني المطبخية والمسدسات والرشاشات والقنابل التي تباع علناً والخضار التي يأتي بها بعض المزارعين. وتأتي النساء القبيليات بمنتجات ارضهن لبيعها، او يأتين بسلال فيها اعشاب برية مرغوبة جداً في اليمن. وهي انواع بعضها يجفف وتتبل به الاطباق، وبعضها تعطر به الثياب. ومدينة خمر تعتبر "هجرة" لقبائل حاشد. أي انها مكان حيادي. وكلمة "هجرة" مأخوذة من الأعراف العربية الجنوبية القديمة. وهي تسمية تطلق على منطقة او فضاء محدد يشكل مكان تجمع قبيلة وله حرمته، اي انه مكان لا يُهاجَم ولا يُعتدى عليه. وكلمة هجرة تشير ايضاً الى اقامة علاقة حماية بين قبيلة معينة وأحد افراد عائلة غريبة لكنها معروفة بتقواها ومحترمة تنتمي الى مرتبة السادة او الاشراف او القضاة. وحالة الهجرة تلزم القبيلة المستضيفة او المجيرة بالدفاع عن الملتجئ اليها كما لو انه واحد من افرادها. فهو لا يُمس ورأيه يُسمع باحترام شديد. هذا الوضع الخاص وامتياز المنعة الذي يتمتع به هذا الشخص يشمل اسرته وبيته ايضاً. وعندما تعتبر مدينة ما "هجرة" لقبيلة، كما هي خمر بالنسبة الى قبائل حاشد، فان افراد القبائل يتمتعون بحق اللجوء الى هذه المدينة. وعند نشوب خلاف او نزاع يتم اللجوء الى العدالة القبلية في "الهجرة". وعندما تتحول الخلافات الى حروب صغيرة بين القبائل، تسعى كل قبيلة الى الحفاظ على شرفها وشرف الجماعة اكثر مما تحاول سحق الغريم. ومن اجل حل الخلافات، يتم اللجوء عادة الى جهة ثالثة. وهناك بعض المشايخ المعروفين بحكمتهم، ولهم تأثير وسلطة معنوية تتعدى حدود قبيلتهم. روى لي شيخ من مشايخ قبيلة أرحب البكيلية هذه الحادثة. كان رجل من قبيلة حاشدية في اعلى شجرة وكان مأخوذاً في عمله يقطف ثماراً او يقوم بشيء من هذا القبيل عندما مرّ رجل بكيلي. ومن العادات ان يسلم العابر على من يراه في طريقه. فرفع البكيلي للحاشدي في اعلى الشجرة بصوته قائلاً "السلام عليكم". اجفل الحاشدي عندما سمع الصوت، وفقد توازنه، وسقط على الأرض ومات. فأرسلت قبائل حاشد تطلب مقابلة مشايخ بكيل للبحث في الموضوع. وطلبوا دية من القبيلة البكيلية التي ينتمي اليها العابر للتعويض عن الميت. فأجاب مشايخ بكيل انهم مستعدون لدفع الدية، لكن بشرط ان يكتب لهم مشايخ حاشد شهادة بأن الذي يحترم الاعراف واللياقات القبلية ويلقي التحية هو بمثابة قاتل. فقال مشايخ حاشد ان هذا امر غير معقول. عندها قال مشايخ بكيل، ذلك يعني ان الذي سلم غير مسؤول عن موت الحاشدي، وانهم لن يدفعوا الدية. ولم يكن امام الحاشديين الا ان يقبلوا بهذا الحل. وعندما عبّرت امام شيخ من بني صريم في خمر عن استغرابي لكثرة الخلافات والنزاعات التي تحصل بين القبائل او بين افراد قبيلة واحدة، اجابني ان الخلافات والصراعات شيء طبيعي جداً ومألوف، وانه جزء من هذا العالم. اذا وقعت حرب قبلية البنية القبلية اليمنية بنية سياسية مكتملة. فالقبليون يعترفون بالسلطة والدولة لأنها ضمانة لاحترام الاعراف والنظام والامن. لكن يحصل احياناً ان تلقى هذه السلطة معارضة، وأن تكون قراراتها موضع جدل ونقاش. وفي المجتمع القبلي اليمني، لا سيما في كل من اتحادي حاشد وبكيل، نظام شبيه الى حد ما بمفهوم اللجوء السياسي، كما هو معروف في العلاقات الدولية. هذا النظام يسمى "المؤاخاة"، وهو يطبّق على فرد كما يطبق على جماعة. ففي حالة وقوع ظلم، اي عندما يتم الاعتداء على شخص، او على امواله او عرضه او كرامته، ويكون غير قادر على مواجهة تلك المظالم والتعديات، سواء كانت صادرة من وحدته القرابية او السياسية، او من اية جهة، يلجأ هذا الشخص الى قبيلة اخرى ويطلب منها الحماية والمساعدة في رفع الظلم عنه، فتقبل ان تقف الى جانبه وترفع الظلم عنه بعد التأكد من صحة ما يدعيه. ومن ثم يصبح اللاجئ جزءاً من القبيلة التي لجأ اليها، ويشترك معها في تحمل المسؤوليات والتبعات المختلفة في القبيلة، وذلك حتى يتم استرداد حقوقه ورد اعتباره من قبل الجماعة او القبيلة التي كان تركها. بعد ذلك يصبح له حق الاختيار في ان يستمر اخاً للقبيلة التي لجأ اليها او ان يعود الى جماعته او قبيلته الاصلية. وهناك قبائل عديدة اصبحت اليوم داخلة ضمن القبائل التي تتكون منها قبائل حاشد وقبائل بكيل، وهي معروفة حاليا بالقبائل "المتحشدة" والقبائل "المتبيكلة"، لأنها ارتبطت بكل من هاتين القبيلتين عن طريق المؤاخاة او التحالف، وأصبحت اليوم ضمن الوحدة السياسية القبلية لكل من حاشد وبكيل. نظام القرابة يفرض على الفرد والجماعة في المجتمع القبلي ضرورة التمسك بالولاء للصلات القرابية، كما انه يفرض احترام سلوك الآباء والاجداد العام، والسير على النهج نفسه في العلاقات والتفاعلات. ويشعر القبيلي انه اذا سلك سلوكاً يتعارض كلياً مع سلوك الاسلاف، فسيتعرض لسخط جماعته، كما انه قد يتعرض لعقوبة الطرد او النبذ. فهو ملزم اولاً بمراعاة مدى استعداد جماعته او قبيلته لقبول انماط السلوك والعلاقات الجديدة، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات المهنية في مجال النشاط الاقتصادي الجديد. وشكا لي شخص مطلع على هذه الامور انه في حال نشوب حرب قبلية، لا يستطيع الجيش ان يتدخل او ان يقوم بأي شيء. فغالباً ما ينضم الجنود والضباط الى قبائلهم التي قد تكون في حالة حرب، تاركين وحداتهم العسكرية. فيشتركون في الحرب ولا يعودون الى وحداتهم الا بعد ان ينتهي النزاع. عندما تخرج من صنعاء وتتجه شمالاً او غرباً او جنوباً ترى منحدرات الجبال العالية جميعها مؤهلة للزراعة في جلال او مصاطب تتدرج من اعلى الجبل الى اسفله. كل شبر صالح للزراعة مُستغل. ولا بد ان هذا العمل تطلب سنوات. وترى هنا كيف ان عمل الانسان منسجم تمام الانسجام مع الطبيعة. كذلك الامر بالنسبة الى القرى وبيوتها البرجية المبنية دائماً في المرتفعات، فوق الصخور، في احترام لحركة الجبل التصاعدية، وكأن البيوت استمرار للجبال والصخور. ودائماً ترى القبيليات يعملن في الحقول. فالمرأة القبيلية في الريف تشترك في جميع الاعمال التي تسيّر امور البيت. معظم القبليين كانوا ولا يزالون مزارعين. الا انه في كل قبيلة مجموعة من الحرفيين، كالحدادين والنساجين، اما التجار فان عددهم يتزايد. ويرفض القبيلي ان يمارس مهناً معينة كالمزاينة، اي مهنة الحلاق او مهنة الجزار، ومهناً تضع اصحابها في اسفل السلم الطبقي في هذا المجتمع المبني على نظام طبقي مغلق. احد المشايخ قال لي ان الحرفيين محترمون جداً والعمل ليس معيباً. وأبدى اسفه لأنه من المستحيل تغيير اي شيء في هذا النظام الطبقي، ويستحيل المساس به، كما يرى. الدوشان ولا تزال فئة المزاينة وهي جمع مزين تلعب دوراً لا يستغنى عنه في العادات والتقاليد، خصوصاً في الأعراس. فالمزينة هي التي تزين العروس وتجهزها. كما انها هي التي ترافق العروس الى دار العريس، وهي التي ترفع الغطاء عن وجه العروس. فاذا اعجب العريس بزوجته، يعطي المزينة مبلغاً من المال. والرجال من فئة المزاينة يقومون بأعمال الخدمة العامة في القرى خلال الاعياد الدينية والزواج وقدوم الضيوف وغيرها من المناسبات العامة، اضافة الى عملهم الاصلي وهو الحلاقة والختان وقرع الطبول في المناسبات والافراح. وغالباً ما يقوم المزاينة بعمل الجزارين ايضاً، اي انهم يشترون الاغنام والماشية ويذبحونها في الأسواق المحلية او الاسبوعية، وأيضاً في المناسبات والأفراح. ومن فئة المزاينة نفسها مهنة "الدوشان" التي يبدو انها بدأت تخف وتزول. ووظيفة الدوشان التقليدية تقوم على قول المديح في المناسبات العامة والخاصة. كما ان الدوشان كان يمثل في القبيلة وسيلة الاعلام التقليدية فيها. وغالباً ما كان يتم الاعلان عن الحرب وقطع العلاقات السياسية القبلية بواسطته، كما انه يقوم باعلان اتفاقيات الصلح بين القبائل المتنازعة. وبالاضافة الى اعتباره المتحدث الاعلامي باسم القبيلة، يقوم الدوشان في فترات الحرب بين القبائل بدور الوسيط، حيث انه ينقل الرسائل ومطالب الهدنة والصلح بين الاطراف المتحاربة. كما انه يقوم بنقل القتلى والجرحى والمصابين بين الاطراف المتحاربة، ويقوم كذلك بنقل العتاد والمؤن اثناء الحرب. وهو في حالات الحرب ينتقل بحرية تامة بين الاطراف المتنازعة من دون ان يجرؤ احد على اصابته بسوء، لأن ذلك يعتبر اساءة لشرف القبيلة وسمعتها. وعلى رغم انتماء الدوشان الى الفئات الضعيفة التي يتوجب على القبائل حمايتها، الا انه الوحيد بين هذه الفئات الذي يُسمح له ان يضع خنجره مستقيماً في وسط البطن كرجال القبائل. ويعرف الدوشان ان القبائل لا تستطيع الاستغناء عنه، لا سيما انه هو الذي ينشر سمعتها ومآثرها وأخبار كرمها على مسامع الآخرين. ويقول فضل ابو غانم في كتابه "البنية القبلية في اليمن" انه جرت العادة في مناسبات الاعياد الدينية ان يقوم الدوشان بالاعلان في سوق القبيلة بأنه سيقوم مع افراد عائلته بقضاء ايام العيد في ضيافة بيت اي شيخ يحدده هو، وذلك بغض النظر عن قيام الشيخ بدعوته او لا. ومن ثم يتوجب على الشيخ ان يكرم الدوشان الذي سيحل ضيفاً عليه مع افراد اسرته وحيواناته! لكن بدأت مهنة الدوشان تختفي. فالدواشين الذين كانوا غير مستقرين تقليدياً، ينتقلون من منطقة الى اخرى، صاروا في السنوات الاخيرة اكثر ميلاً الى الاستقرار، ويزاولون بعض الاعمال الجديدة مثل التجارة وأعمال البناء والالتحاق بالجيش، وكذلك يميلون الى الهجرة للعمل في المدن وبعض الدول العربية. ولم يبق الا بعض كبار السن منهم محافظين على التقاليد القديمة. "كأنهم رجل واحد" افراد الجماعة القبلية لا يزالون يرفضون بعض الممارسات الحرفية والمهنية الخاضعة لعلاقات السوق. ويحاولون الابتعاد قدر الامكان عن اعمال السوق، وكذلك تجنب الاخلاقيات والممارسات السوقية، إرضاء للقيم القبلية والتقاليد المتوارثة. الا ان الوضع تغير بعض الشيء بعد الثورة وصار رجال القبائل اكثر حرية في شؤونهم الشخصية. ويقومون بأي عمل او نشاط اقتصادي وفقاً للمعايير والمفاهيم الجديدة، فيما عدا الاعمال المهنية الخاصة بالمزين او الدوشان او القشام طبعاً. القشام هو الذي يزرع البصل والفجل وبعض الخضار لبيعها في السوق. ومع دخول التقنيات الحديثة والآلات الجديدة، صار بعض رجال القبائل يفتحون معامل نجارة او حدادة، من دون ان يكون ذلك عاراً، طالما ان التسمية جديدة، وأن الآلات تعطي طابعاً صناعياً اكثر من الطابع المهني الحرفي. وفي المقابل، هناك الكثير من الحرف التي بدأت تزول او حتى زالت نهائياً، خصوصاً في ما يتعلق بالحياكة والنسيج. فكثيرون هم الذين باتوا يرفضون ممارسة هذه المهن والحرف التي طالما اشتهرت بها اليمن وتميزت بها عن غيرها من البلدان، وأوصلت شهرتها الى جميع انحاء العالم. ومن جهة ثانية، هناك انتقادات توجه الى القبيليين لأنهم "يرفضون ان يدخلوا وظائف في الدولة". هل ان هذا الانتقاد ليس في محله، وانه من عين العقل ان يرفض القبيليون ذلك؟ فمعظمهم من المزارعين، وهناك الكثير منهم دخلوا الجيش. مما لا شك فيه ان المجتمع اليمني اجمالاً والمجتمع القبلي خصوصاً يشهد تغيرات تفرضها التطورات في جميع الميادين. ومن الصعب الكلام بشكل اجمالي عن القبائل. ففي بعض المناطق البعيدة عن العاصمة صنعاء لا تزال الحياة القبلية محافظة على تقاليدها المتوارثة، حيث تكون لشيخ القبيلة سلطة محلية تفوق سلطة الموظفين الحكوميين الذين ترسلهم الدولة الى تلك المناطق. ويستطيع الشيخ ان يحل الامور المحلية بسرعة ويتحرك بسهولة اكثر مما يستطيع الموظفون التحرك. وفي معظم الاحيان يقتصر عمل موظفي الدولة على مساعدة الشيخ في مهامه. لكن في مناطق اخرى قريبة من العاصمة، بدأت الحياة تأخذ طابعاً مختلفاً. وإذا كانت اخلاقيات القبائل المتميزة لا تزال سائدة، فهناك جوانب اخرى بدأت تزول. فمفهوم البنية القرابية الكبيرة بدأ يخف، لتحل محله الاسرة الزوجية. ويبدو ايضاً ان البعض لم يعد يلجأ الى تحكيم شيخ في حالات الخلاف. هذا ما سمعته من رجل مسن في خمر، وهذا ما قاله لي شاب في قرية وادي ظهر. فاما ان يحاول المختلفون التوصل الى حل بأنفسهم، او يلجأون الى مدير الناحية. وربما كان لدخول الاحزاب والتيارات السياسية سبب لذلك. فكما شرح لي الشاب، فان سكان قرية وادي ظهر ينتمون جميعاً الى قبيلة همدان الحاشدية. والقرية منقسمة الى حزبين: المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للاصلاح. وفي القرية شيخان، احدهما من المؤتمر والثاني من التجمع اليمني للاصلاح. اما هذا الشاب، فينتمي الى المؤتمر، لأنه على خلاف مع اولاد عمه الذين ينتمون الى الاصلاح. اليوم دخل الكثير من القبيليين في جهاز الدولة، وهناك بعض مشايخ القبائل والقضاة تولوا مناصب مهمة ورفيعة في الحكومة. وينتمي معظمهم الى احزاب. فكيف يفعل ابناء القبيلة عندما ينتمي شيخهم الى حزب، وشيخ مشايخ الاتحاد الذي تتبع له قبيلتهم ينتمي الى حزب آخر؟ شرح لي شيخ من مشايخ بكيل وأخوه في جماعة الاصلاح ان القبيلة لا تتبع الشيخ في انتمائه السياسي، لكن تتبعه في كل ما يخص المنطقة وفي الشؤون الداخلية. وبرأيه، لا تزال العلاقات الاجتماعية والروابط العائلية تلعب دوراً كبيراً وتساعد على تجاوز الخلافات السياسية من اجل المصلحة العامة او مصلحة القبيلة. وهناك البعض ممن يخالفون مشايخهم، أو حتى شيخ المشايخ في الآراء والمواقف السياسية. لكنهم يقفون معه ويستجيبون لندائه، كأنهم رجل واحد. فعندما يتعلق الامر باحترام الاعراف والتقاليد القبلية، تزول جميع الحواجز وينتصر مفهوم الشرف. وقد لاحظت ان كل شخص يقول رأيه جهراً، وبوضوح على مسمع من الجميع، لا يخاف ان ينتقد المسؤولين ولا الرؤساء بشكل علني. وحرية الرأي هذه محترمة. ومن سيجرؤ على المس بمن يقول رأيه، وقبيلته تسانده؟ فهل ان البنية القبلية وأعراف القبائل، تسهّل من حيث لا تدري وعن غير قصد مسبق، وجود جو من حرية الرأي وتعدد الآراء؟