عرضت الحلقة الأولى من المرجعية الشيعية الطريقة التي يتم فيها اختيار المرجع والشروط الواجب توافرها فيه، بعد ان يكون قد نشر فتاوى ورسائل علمية قام وكلاؤه بتوزيعها في المدن والقرى. كما تطرقت الى التنافس بين قم والنجف وبيروت على الموقع الأول. وفي الحلقة الثانية والأخيرة تحليل لدور المال في انتخاب المرجع الأعلى، من دون اغفال العلم والتقوى. يعتبر المال عصب المرجعية الشيعية الحديثة، وكما في أي تجربة ديموقراطية يلعب المال دوراً كبيراً في انتخاب المرجع الأعلى، ومع ان أساس المرجعية يفترض ان يقوم على العلم والتقوى، إلا أن المال هو الذي يحسم عادة انتخاب شخص معين من بين الفقهاء العدول الأتقياء. ولا يكفي ان يكون الشخص فقيهاً وعادلاً لكي يصبح مرجعاً، إذا لم يكن يمتلك قوة مالية ترشحه لسدة المرجعية وتجلب الوكلاء اليه. ولا يعني هذا ان شخصاً جاهلاً أو فاسقاً يستطيع ان يرتقي سدة المرجعية الدينية، لكن لا يمكن إغفال دور المال في ارتقاء شخص او سقوط شخص آخر. وهذا ما يفسر سيطرة العنصر الفارسي لعشرات السنين على سدة المرجعية، نظراً الى علاقات المراجع الإيرانيين مع بني قومهم في إيران الذين يقدمون إليهم التبرعات السخية عادة ولا يقدمونها للعرب او العراقيين حتى لو كانوا أكثر علماً وتقوى منهم، بسبب عدم معرفتهم بهم او عدم القدرة على التواصل اللغوي معهم. هناك مصادر عدة لتمويل المرجعية، كالهدايا والنذور والاوقاف ووصايا الموتى، لكن المصدر الرئيسي للتمويل يقوم على الخُمس، وهي ضريبة طوعية يقدمها المؤمنون الشيعة بنسبة 20 في المئة من أرباحهم السنوية، بناء على تفسير خاص لآية الغنائم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خُمسه وللرسول" التي توجب اخراج الخمس من الغنيمة واعطاءه لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين. وقد اعتاد بعض أئمة الشيعة من أهل البيت في القرن الثاني الهجري على مطالبة أتباعهم بتقديم الخمس اليهم باعتبارهم من ذوي القربى، لكن المراجع الشيعة السابقين لم يكونوا يأخذون الخمس. وينقل التاريخ ان الامام الصادق أشار إلى كبير الفقهاء الشيعة محمد بن مسلم بالاتجار فأخذ يبيع التمر على باب مسجد الكوفة. وإلى وقت قريب لم يكن فقهاء الشيعة يقولون بوجوب الخمس ولا بوجوب تسليمه إليهم، وكانوا يعتمدون على الأوقاف بصورة رئيسية، وكانت الحوزة في القرنين الماضيين تعتمد في جزء كبير من موازنتها لأكثر من 100 عام على تركة أحد ملوك "مملكة أودة" في حيدر آباد في الهند، وهو ما كان يعرف ب"خيرية أودة". وعندما نشأت نظرية "النيابة العامة وولاية الفقيه" بدأ بعض العلماء يقول بوجوب اخراج الخمس وتسليمه الى الفقهاء باعتبارهم "نوابا عامين" عن الامام الغائب. وربما كان الشيخ جعفر كاشف الغطاء أول من أوجب أخراج الخُمس وتسليمه الى العلماء، وقد قام بحملة عامة لجباية الخُمس دعماً للدولة القاجارية الايرانية في حربها ضد الاحتلال الروسي في بداية القرن التاسع عشر. موازنات ضخمة أحدث هذا القول بوجوب الخمس، تحولاً كبيراً في تاريخ المرجعية وفي بنيتها وتنظيمها. ومنذ ذلك الحين أصبح للمراجع موازنات ضخمة لإدارة الحوزات العلمية في كل مكان والتصدق على الفقراء والمساكين وحتى لتمويل بعض المشاريع البلدية. ولعب "بازار" طهران دوراً كبيراً في تمويل المرجعية منذ القرن التاسع عشر، وكان العامل الضاغط على المرجع السيد محمد حسن الشيرازي في اصدار فتوى تحريم التنباك في 1892 التي ألغت اتفاقية حصر التنباك بالشركة البريطانية، التي وقعها الشاه ناصر الدين القاجاري مع بريطانيا، لأن "البازار" كان المتضرر الرئيسي منها. وظل "البازار" يشكل العامل الحاسم في ترجيح كفة مرجعية أي فقيه، خصوصاً المراجع الفرس في العراق، فقد دعم "البازار" مرجعية السيد ابو الحسن الاصفهاني في مقابل مرجعية الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، المرجع العراقي الشهير في النصف الأول من القرن العشرين، ولأنه لم يجد مصدراً تمويلياً كافياً فقد عجز عن الحلول في مركز المرجعية العليا على رغم علمه الواسع وقدراته السياسية الفائقة. وعندما أصبح السيد محسن الحكيم مرجعاً أعلى في الستينات اضطر الى ان يبعد "جماعة العلماء" العربية ويقرِّب الفرس من حاشيته لأنهم كانوا على علاقة وثيقة ب"بازار" طهران واقدر على توفير موازنته المالية التي كانت تقدر بعشرة آلاف دينار عراقي شهرياً. وانطوى بازار طهران على خطر التغطية على مصادر مالية مشبوهة "شاهنشاهية" كانت تتسلل بزي التجار لتحقيق مآرب خاصة وتشكيل "لوبيات" في حواشي بعض المراجع للضغط عليهم وتوجيههم الوجهة المطلوبة. ولأهمية المال في حركة المرجعية وقوتها ذهب بعض المراجع المتأخرين الى وجوب تسليم الخُمس إليهم شخصياً، وعدم جواز تسليمه الى أي فقيه آخر، على رغم عدم وجود أدلة شرعية تحتم ذلك. وذهب آخرون إلى كون الخمس مالاً خاصاً للفقيه يجوز له التصرف به كيف يشاء، كما يجوز له ايداعه البنوك وتوريثه للأبناء، واعتبروا أنه ليس مالاً عاماً كأموال الدولة يوجب عليه ان يضع له سجلاً خاصاً ويقيد المنصرف منه. لذا لم يجد ذلك الفريق ضرورة لتقديم كشف حساب للمقلِّدين الدافعين للخمس، مثلما تقدم الجمعيات الخيرية كشفا بالأموال الواردة اليها والصادرة منها. وهو ما سمح في الحقيقة بحدوث تلاعب كبير في أموال الخُمس خصوصاً عند وفاة المرجع واستيلاء ورثته على أمواله واستملاكها باعتبارها إرثا شخصياً لهم. وهناك أحاديث عن استيلاء أبناء مرجع توفي في التسعينات على أموال تقدر بمئات الملايين كانت مودعة بنوكاً أجنبية. ويقال إن الحكومة العراقية استولت على مليوني دولار من حساب الخوئي نهاية السبعينات. وعندما تتكدس أموال طائلة لدى مرجع معين يستطيع ان يحدد بواسطتها المرجع الذي يخلفه، وذلك بضمان ضخ قدر كاف من المال لإدارة مرجعية خليفته حتى يشتهر ويستقطب الطلبة والوكلاء الذين سينهالون عليه ويرشحونه لعامة الناس باعتباره المرجع الأفقه والأورَع والأتَقى، فتدور عندها عجلة المرجعية لمصلحة ذلك المرجع ويقوم باستيفاء الخُمس من المؤمنين. وهذا ما يفسر بروز مراجع معينين فجأة بعد وفاة مرجع سابق لمجرد قدرتهم على توزيع الرواتب للطلبة والوكلاء في كل مكان، من دون ان يعرفوا نظريات فقهية معينة او يحتفظوا بسجل جهادي أو يقوموا بأي دور قيادي في الامة. ومن المعروف في الاوساط الحوزوية ان شعبية أي مرجع تعرف عادة من حجم الراتب الشهري الذي يوزعه على طلبة العلوم الدينية في النجف وقم ومشهد. فالمرجع الذي يوزع أعلى راتب بعد وفاة المرجع الأعلى السابق يعني انه أصبح المرجع الاعلى الجديد، وذلك لدلالة كمية المال على حجم التقليد الشعبي، على رغم عدم واقعية أو صحة هذا المؤشر مع احتمال حدوث تلاعب او قيام جهات مشبوهة بضخ أموال لأغراض سياسية. لكن ذلك، على أي حال، يشد حركة الوكلاء الى المرجع الجديد لأخذ الوكالة منه والدعوة الى تقليده وجباية الخمس باسمه وتسليمه اليه بعد أخذ حصتهم منه. وعادة تراوح النسبة التي يأخذها الوكلاء بين الربع والثلث والنصف من الخُمس. وعندما يكون المرجع مبتدئاً فإنه لا يحاسب وكلاءه بشدة ويغض الطرف عن الاموال التي يَجبونها من أجل تركيز نفسه من خلال الدعاية التي يقومون بها له، ولكنه عندما يشتهر ويكثر تقليد الناس له ويأخذ الوكلاء بالتهافت عليه والتنافس في ما بينهم لأخذ الوكالة منه، يقوم بالتدقيق في إعطاء الوكالات ومحاسبة الوكلاء. معارك واساطير ومن هنا يحدث التنافس وتحتدم المعارك بين المراجع أنفسهم الا من عصم الله، ويحاول بعضهم استغلال نقاط الضعف والآراء التجديدية او المخالفة للمشهور التي يقدمها أحد الفقهاء الجدد المنافسين، للانتقاص منه والتشكيك باجتهاده وتحريم تقليده وصرف الناس عنه، في حين يقوم بعض المراجع بمسايرة العامة والمصادقة على الروايات والتصورات والبدع الشعبية طمعاً في كسب الناس. وثمة من يزعم ان بعض المراجع يرضى بالسير وراء الناس وتقليد العوام بدلاً من هدايتهم وارشادهم وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يلغي مهمته كفقيه أو عالم. وحدث قبل 50 عاماً أن قام الشيخ محمد مهدي الخالصي الذي كان يحظى بشعبية واسعة جداً في العراق، بمكافحة بعض البدع والدعوة الى أحياء بعض السنن والاحكام المعطلة، فتعرض لمحاربة مراجع آخرين اتهموه بشتى التهم وصرفوا الناس عنه وأسقطوه من المرجعية. ويمكن تلمس أثر المال في قيام كثير من الفقهاء بالفتوى حسب المشهور وليس وفقا لقناعاتهم الخاصة، وذلك لتجنب معارضة بقية العلماء لهم وأملا في كسب الناس، ولو كانت المرجعية بعيدة عن المال لما وجد الفقهاء صعوبة في التعبير عن آرائهم بحرية والفتوى حسب الأدلة والبراهين المتوافرة. وبما ان الفقهاء المراجع يعتمدون في تمويلهم على الشعب فإنهم يصبحون أقرب الى تمثيل الشعب والارتباط به والتعبير عن مصالحه والنضال من أجل قضاياه العادلة، على عكس رجال الدين الآخرين الذين يرتبطون بالدولة ويقبضون رواتبهم منها فيعبرون عن مصالحها أو يقعون أسرى للإدارات الرسمية فلا يستطيعون الانفلات منها واتخاذ مواقف ثورية مضادة، إلا إذا قطعوا ارتباطهم بها. وانقسم رجال الدين الشيعة بعد قيام الجمهورية الاسلامية الايرانية الى فريقين: فريق انغمس في أجهزة الدولة وأصبح موظفاً فيها، ففقد استقلاليته وأصبح تابعاً في كل شيء، مما أنتج حالة شبيهة بحالات كثيرة في العالم الاسلامي، وفريق ابتعد عن الدولة وحافظ على علاقاته الشعبية وبالتالي على استقلاله. ولحدوث بعض حالات التلاعب بأموال الخُمس وتوريث بعض المراجع الأموال لأولادهم، أخذ كثير من المسلمين الشيعة ينادون بضبط سجلات لتقييد الوارد والصادر، أو يقومون بتوزيع "حقوقهم الشرعية" على الفقراء والمحتاجين والمشاريع الخيرية بأنفسهم، وذهب بعضهم إلى ضرورة تشكيل جمعيات خيرية تتكفل بجباية الأخماس والزكوات وتوزيعها على المستحقين واعطاء قسط منها لرجال الدين العاملين او طلبة العلوم الدينية، معتمدين على فتوى المرجع الراحل محسن الحكيم والعلماء السابقين الذين لم ينادوا بضرورة تسليم الأموال إلى المراجع، وكانوا يجيزون إخراج صاحب الخمس للمال بنفسه وتوزيعه على المستحقين. مملكة أودة وتعزيز المرجعية لعبت مملكة أودة الشيعية 1720 - 1856 التي قامت في حيدر آباد في القرن الثامن عشر دوراً كبيراً في تعزيز المرجعية الدينية، وذلك عن طريق شق أحد ملوكها لنهر "الهندية" في العراق الذي مون مدينة النجف بالماء وأحياها وحولها مدينة كبيرة بعد ان كانت قرية صغيرة. وقد أوصى أحد ملوكها غازي الدين حيدر بأموال تدفع الى الحوزة العلمية في كربلاء والنجف، وهو ما عرف ب"خيرية أودة"، التي بدأت تصل الى الحوزة في العراق منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وكانت تشكل نصف موازنة الحوزة تقريباً عشرة آلاف جنيه سنوياً. وبعد سيطرة بريطانيا على تلك الدولة في منتصف القرن التاسع عشر بدأت تسيطر على الأموال الخيرية المخصصة للحوزة، وراحت تتلاعب فيها وفي طريقة توزيعها في محاولة لمد نفوذها على الحوزة والسيطرة على المرجعية والتدخل عبرها في شؤون العراقوإيران قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها، وهذا ما دفع المرجع الأعلى الشيخ مرتضى الأنصاري للامتناع عن تسلم تلك الأموال التي هيمنت عليها بريطانيا، لكن مراجع آخرين من الدرجة الثانية استمروا في تسلم "الخيرية" وتوزيعها على الطلبة. وفي بداية القرن العشرين حاول المندوب البريطاني في بغداد الميجور نيو مارش استعمال "الخيرية" لأغراض سياسية ووسيلة لزيادة المحسوبية وتوسيع النفوذ والتأثير على انتخاب المرجع الأعلى . وحاول الوزير البريطاني في ايران سير آرثر هاردنغ استخدام نفوذ بعض المراجع الذين يتسلمون "الخيرية" للتأثير على الأوضاع السياسية في ايران وقطع الطريق على السياسات الروسية هناك. وهذا ما دفع عددا من المراجع الكبار كالميرزا خليل والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد إسماعيل الصدر في 1908 الى رفض قبول أي سهم من "الخيرية" واقتراح توزيعها على الفقراء. فاتجه المندوبون البريطانيون في بغداد للتفكير باستيراد مجتهدين متعاطفين من الهند يقبلون تسلّم "الخيرية" وتوزيعها في العراق. وأثار تدخل المندوب البريطاني في بغداد لوريمر في 1912 في توزيع "الخيرية" قلق السلطات العثمانية من تزايد النفوذ البريطاني في العراق، خصوصاً في صفوف الشيعة والمرجعية، فحاولت حل اللجان التي شكلها لوريمر لتوزيع المال، ومنعت الرعايا العثمانيين، خصوصاً العرب، من الانضمام الى عضوية اللجان في كربلاء والنجف، وطلبت من القنصل الفارسي في بغداد ان يمارس ضغطا على الأعضاء الفرس لتقديم استقالاتهم. لكن احتلال بريطانيا للعراق في الحرب العالمية الاولى أتاح لها مرة أخرى توسيع نفوذها لدى الحوزة من خلال توزيع الأموال "الخيرية". وأصبح البريطانيون أقدر على التلاعب بالنسيج القومي العربي - الفارسي - الهندي في الحوزة وتفضيل قوم على قوم . وفي 1933 قرر البريطانيون عدم إعطاء أي منحة لمن شارك في التحريض السياسي ضدهم، واسقطوا ذلك العام اسم الشيح محمد حسين كاشف الغطاء من قائمة المتلقين بسبب نشاطاته المعارضة للحكم الموالي لهم في العراق، وجمدوا في 1934 اللجنة التي تتولى التوزيع في كربلاء. محاولات الإصلاح تنقسم المرجعية الدينية الشيعية الى تيارين رئيسيين هما: المرجعية الفقهية البحتة كمرجعية الامام الخوئي والسيستاني والمرجعية السياسية الملتزمة بنظرية "ولاية الفقيه"، ويمكن اعتبار التيار الثاني تطوراً حديثاً نشأ في المرجعية وأعطاها صبغة سياسية. وبينما لم يكن التيار الفقهي يشعر بحاجة كبيرة الى التنظيم ما دام الأمر يقتصر على عملية الفتوى والإرشاد، بدأ التيار الثاني يشعر بضرورة التطور والترشيد. من هنا دعا المفكر الراحل محمد باقر الصدر في السبعينات في مقال له عنوانه "المرجعية الموضوعية" إلى تأسيس أجهزة علمية ومالية وإدارية وسياسية تابعة للمرجع لتنظيم عمل المرجعية وعلاقاتها العامة وتدقيق الحسابات المالية ونقل الخبرات للمراجع المقبلين. وأطلق على المرجعية القائمة "المرجعية الذاتية"، وطالب بتطوير ممارسة العمل المرجعي وتشكيل مجلس يضم علماء الشيعة وربط المرجع بهذا المجلس، لصون العمل المرجعي من التأثر بالانفعالات الشخصية وتنفيذ سياسة المرجعية الصالحة التي تقرر من خلال ذلك المجلس، واقترح ان يقوم المجلس بترشيح المرجع الجديد بعد خلو المركز وإسناده وكسب ثقة الامة الى جانبه. كما انتقد طريقة تعامل الوكلاء مع "الحقوق المالية الشرعية"، وأخذ النسب المئوية من تلك الأموال كالثلث او الربع "مما يجعل علاقة الوكيل بالمرجعية كعلاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال" واقترح ان تسلم الأموال كاملة الى المرجعية وان تصرف رواتب شهرية للوكلاء. يقول الشيخ محمد رضا النعماني مؤلف كتاب "الشهيد الصدر - سنوات المحنة وأيام الحصار" إن السيد محمد باقر الصدر كان يسعى إلى إحداث تغيير في كيان الحوزة والمرجعية من الأساس، بما يلبي الحاجات الحاضرة والمستقبلية وينسجم مع متطلبات العصر والحياة. ومنذ ذلك الحين لا يزال الجدل مستمراً في صفوف الحوزة والمرجعية بين داع للتنظيم ورافض له، خصوصاً بعد بروز شخصيات مرجعية غامضة ومنعزلة لا تواكب حركة المجتمع، أو لا تتمتع بمواصفات قيادية عالية أو مشكوك في علميتها، وحدوث صراعات سلبية بين أتباع عدد من المراجع الى درجة التشكيك باجتهاد بعض المرشحين للمرجعية او سلامة عقيدتهم، إضافة الى "ضياع" مبالغ مالية كبيرة بعد وفاة عدد من المراجع وانتقالها الى أولادهم وأقربائهم واعتبارها إرثا شخصيا وليس مالا عاما يجب نقله الى المراجع الجدد . يقول السيد محمد حسين فضل الله في كتابه: "آراء في المرجعية الشيعية": "إن مشكلة المرجعية في كل تاريخها انها كانت شخصاً، وتعتمد على مستوى هذا الشخص وعلى مبادراته وعلى سعة أفقه والظروف والأشخاص المحيطين به، ومن هنا فإننا في الوقت الذي نؤكد ان المرجعية في كل تاريخها قامت بمبادرات مهمة لكنها لم تفكر بأن تتحمل مسؤولية التشيع أمام كل المتغيرات الواقعية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وعلى مستوى التطورات التي انطلقت في العالم. اننا نعتقد ان المرجعية، مع كل احترامنا للأشخاص الذين يتحركون في دائرتها او يشرفون عليها او يقودونها، لا تستطيع ان تواجه تطورات العصر، ولذا فهي تعيش انكماشا في دائرتها الخاصة في نطاق الفتاوى، او في نطاق بعض الأعمال التي تتحرك هنا وهناك. لهذا علينا ان نفكر في ضرورة ان تتحول المرجعية الى مؤسسة من دون ان تفقد العناصر الذاتية التي تفرضها الخطوط الشرعية في من يجب ان يكون المرجع وفي طبيعة ارتباط الأمة بالمرجع". ويشتكي السيد فضل الله من وجود بعض المرجعيات المنكمشة التي يخيل للناس انها غائبة تماما عن كل شيء في الواقع، عدا العلاقات الفقهية التقليدية، إلى درجة انها لا تشارك حتى في القضايا الثقافية العامة. ويضيف: "إننا نلاحظ ان العصر قد تطور، وان المراكز الدينية في العالم سواء على مستوى المسيحية او على مستوى اليهودية او على مستوى المسلمين من غير الشيعة، أصبحت تملك مواقع في الإطلالة على الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما ان الشيعة بفعل التطورات والمتغيرات التي حدثت في مواقعهم أصبحوا يمثلون حجما كبيرا ولهم حاجات سياسية واقتصادية وثقافية مما يفرض على المرجعية ان تتطور، لكن الواقع الذي نعيشه أصبح أكبر من المرجعية بحيث ان المرجع تحول الى مجرد شخص مُفْتٍ لا يتصرف الا بطريقة حييَّة خجولة متواضعة. لهذا لا بد من التفكير بهذه المسألة بكثير من الخطورة". ودعا فضل الله مراراً إلى بناء مؤسسة مرجعية منظمة تشبه الفاتيكان لانتخاب المرجع الأعلى وتحقيق أهداف المرجعية. وكانت هناك الى جانبه أصوات أخرى طالبت بإصلاح المرجعية وتطويرها وتحويل الاجتهاد والفتيا من عملية شخصية الى لجان متخصصة ومتعددة، بحيث تكون قادرة على متابعة التطورات المختلفة في جميع مجالات الحياة ودرسها بدقة وتكوين وجهات نظر قريبة من الواقع. ومع أن التطور السياسي للمرجعية قبل تأسيس الدولة الاسلامية وبعدها كان يستلزم إحداث تطورات إدارية في هيكل الحوزة والمرجعية، من حيث برامج التعليم او انتخاب المرجع الأعلى وإحداث مؤسسة للمرجعية، إلا أن مراجع كثيرة يعارضون هذه الفكرة رافضين التحول الى مؤسسة رسمية بسبب عدم إيمان كثير من الفقهاء الشيعة بنظرية "ولاية الفقيه" أو ضرورة تولي المرجع للشؤون العامة، إذ لا يزال هناك من يعتقد باقتصار دور الفقيه على الأمور الفقهية أو الحسبية الضيقة، بينما يتحفظ بعض الفقهاء الآخرين ممن يؤمنون ب"ولاية الفقيه" عن فكرة تحويل المرجعية إلى مؤسسة خوفاً من تدخل السياسيين والحكومات المختلفة في المرجعية، أو خوفاً من القضاء على الحرية والطريقة التقليدية الشعبية التي يتم فيها انتخاب المرجع، وذلك بسحب سلطة القرار بأهلية المرجع العلمية والروحية والإدارية من الشعب واعطائها الى لجنة أو فئة خاصة. ويقول بعض المطلعين إن اقتراح اقامة مؤسسة للمرجعية بعيد عن واقع المراجع الحاليين الذين يختلفون في توجهاتهم السياسية والثقافية، ويرفضون حتى تشكيل صندوق مشترك لإدارة الحوزة ماليا، فكيف يمكن ان يجتمعوا على انتخاب أحدهم مرجعاً وحيداً ويلملموا بقية المرجعيات العاملة في الساحة؟ المرجعية الحرة في إجابة للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، الذي يقيم في النجف، عن تعدد المرجعيات، يقول: "لا ريب انها من الحالات الطبيعية، بعد ان كانت أهلية المرجع للتقليد وأعلميته من الأمور الحدسية القابلة للاختلاف". ويرى "ان في تعدد المراجع بعض الإيجابيات أحياناً، لأن وحدة المرجع قد تعرضه للاندفاع في الجري على قناعاته من دون تروٍّ وتثبُّت بنحو قد لا تحمد عواقبه، كما انها قد تضفي عليه هالة من الجلالة والقدسية تجعل من سيرته سنة ثابتة لا يمكن الخروج عنها وتمنع من النظرة الموضوعية لها وإخضاعها للنقد والتعديل، بل قد يتعدى ذلك لآرائه الفقهية بنحو يعيق عملية الاجتهاد من بعده". ويقول: "على كل حال ان المرجعية بكل سلبياتها تبقى هي الحل الأفضل بعد ان تعذرت المثالية الكاملة بفقد المرجعية المعصومة". وبناء على ذلك يرفض الحكيم فكرة "المؤسسة المرجعية" بشدة، ويعبر عن خشيته من تدخل القوة في انتخاب المرجع كما حدث في مؤسسة الخلافة. ويؤكد ضرورة بقاء الحرية لكل شخص في اختيار المرجع الذي يقلده، ويقول: "لا بد من ابتناء المرجعية على الأدلة الشرعية التي تصلح حجة بين يدي الله. أما المرجعية المؤسساتية - حيث يفترض انحصار الشرعية بمن تختاره - فلا يمكن تأكيد فاعليتها دينياً إلا بإقامة الدليل الشرعي الكافي عليها وعلى جميع أركانها ومقوماتها، مثل من له حق تشكيل اللجنة، وتحديد صلاحيتها من حيث نصب المرجع فقط أو الرقابة عليه او عزله اذا فقد الأهلية، وتحديد عدد أعضائها ومرتبتهم من العلم والتقوى، وكيف يعرف ذلك فيهم، وما هو الموقف عند اختلافهم، إلى غير ذلك. ثم اذا كان الغرض من المرجعية المذكورة المؤسساتية رفع الاختلاف فلا بد من كون تلك الأدلة قطعية إجماعية غير قابلة للتشكيك والخلاف، ولا يظن بأحد توهم إمكان ذلك بعد ان مضى على عصر بيان التشريع أكثر من ألف عام..." ويقول الحكيم: "إن المرجعية المؤسساتية لم تمر حتى الآن بالتجربة على أرض الواقع الشيعي، ولا يمكن ان تمر بها، إلا أنها تبقى فكرة وأمنية تُثار بحسن نية أو بسوء نية ضد المرجعية الفردية عند ملاحظة السلبيات التي سبقت الإشارة اليها والتي قد تضخم من أجل تأجيج العواطف ضدها للقضاء عليها او اتعابها في مسيرتها مع الغفلة او التغافل عن سلبيات المرجعية المؤسساتية، وأهمها: ان حصر حق القرار بمؤسسة خاصة يحمل المنحرفين للتسلل الى تلك المؤسسة، لأنهم وحدهم القادرون على سلوك الطرق الملتوية من الغش والرشوة والكذب والتهريج والتشنيع والتخويف، وغير ذلك مما يترفع عنه ذوو المبادئ وأهل الاستقامة، فاذا تسللوا وسهل عليهم السيطرة على المؤسسة واستحصال قراراتها لصالحهم بطرقهم الملتوية، يستطيعون حينئذ حرف مسيرتها والتخلي عن مبادئها ولم يخشوا إنكار المنكرين بعد ان كان القرار لهم وحدهم ولا شرعية لحديث غيرهم، ومن هنا يسهل على الأعداء التسلل للمؤسسة بأنفسهم او بمن يتعاون معهم من المنحرفين ومرضى القلوب ثم السيطرة عليها وتسييرها لصالحهم. مؤسسة تقاليد موروثة ويتخوف بعض المهتمين بالشؤون المرجعية من تحول المؤسسة الدينية المقترحة الى مؤسسة في الإسلام تحتكر الاجتهاد وتفسير النصوص الدينية، وهي عملية حرة ومفتوحة أساسا في الاسلام، ولم يعهد بها الى أي جهة خاصة، وانما هي من حق أي مسلم يجد في نفسه القدرة على البحث والتمحيص والاجتهاد، ويخشون من تحول المؤسسة اذا أقيمت الى مؤسسة للمحافظة على تقاليد سلبية موروثة وتكريس أعراف وأفكار طارئة، ويقولون ان المرجعية نفسها لم تكن موجودة سابقاً بهذا الشكل وانما ولدت في غياب الدولة في ظروف استثنائية، ويمكن ان تختفي مع قيام الدولة الشيعية وتشكيل الأحزاب السياسية والمنظمات الأهلية وان لا ضرورة لاستمرار المرجعية الدينية مع قيام الدولة الحديثة وبناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو أفضل بكثير مما كان يطمح اليه المطالبون بترشيد المرجعية او تحويلها الى مؤسسة. وان من الخطأ تضخيم دور رجال الدين في المجتمع والسماح لهم بالهيمنة على كافة مرافق الحياة. ويطالب فريق آخر بتحول المرجعيات الدينية في ظل الدولة الاسلامية الى أحزاب منظمة ذات اجتهادات متخصصة في مختلف جوانب الحياة وترشيح قادتها "المراجع" الى منصب الإمامة العليا او مجالس الشورى، وعدم ممارسة أي دور سياسي خارج الإطار الدستوري او تكوين دولة داخل الدولة. أما خارج حدود الدولة الاسلامية، وحيث توجد أنظمة ديموقراطية فيمكن ان تندمج المرجعيات الدينية في الحياة السياسية كأي حزب آخر وتقدم مرشحها لخوض الحياة النيابية، أو تبقى بعيدة عن التفاصيل السياسية وتقوم برعاية المجتمع ككل وتوجيه الامة وإرشادها. وإذا كانت المرجعية الدينية تمارس في بعض الأحيان، في الدول الديكتاتورية ، نوعاً من القيادة السياسية وجباية الأَخْمَاس والزكوات وتوزيعها، او تشكل دولة داخل الدولة او فوق الدولة ولا تعترف بها، فلأن الدولة في تلك الحالة "الديكتاتورية أو الفوضوية" لا تمتلك الشرعية الدستورية الكافية لممارسة أعمالها، وتكون المرجعية أشبه بحزب يقود المعارضة او يحاول تأسيس الدولة على أسس شرعية