يقلب كتاب "طيف ملون" لمؤلفته كارول سيمور جونز رأساً على عقب كل ما تعارف عليه النقاد من طروحات أثناء دراستهم لشعر تي اس اليوت لا سيما قصيدته الذائعة الصيت "الأرض اليباب". أكثر من ثلاثة عقود مرت على وفاة أشهر شعراء الغرب في القرن العشرين 1965، وروحه لم يقر لها قرار بعشد، فبين فترة وأخرى يُنزع عنه كفنه، ويعاد إلى غرفة التشريح، لكشف المزيد من أسرار غموضه وتغريبه، لا المطابع توقفت، ولا القراء شبعوا، ولا النقاد اكتفوا. انه كتاب مختلف منذ صفحاته الأولى، فقد تعرض بشكل تفصيلي لعلاقته بزوجته فيفيان وود. وعلاقة فيفيان بالفيلسوف برتراند راسل، وعلاقة هذا الأخير بما ترسب في أعماق اليوت من وَشلِ علاقة مثلية مبتسرة، غضّ الشاعر عنها الطرف ظاهرياً، ووجدها تنبع من قصائده كنافورة ماء. إذا كان تي اس اليوت في غنى عن التعريف لكثير من المثقفين والأدباء في أوروبا وأميركا، فإنه في غنى عن التعريف أيضاً لجمهرة كبيرة من الشعراء والمثقفين العرب، سواء أولئك الذين ادعوا فهمه أو الذين جاهروا بغموضه وإبهامه وعسر هضمه أو الفئة الثالثة التي "وصمت" بالتأثر بشعره واستعارة صوره حد "سرقتها"، واستدعاء الرمز والاسطورة، الميثولوجيا، وتوظيفها لخدمة القصيدة، كبدر شاكر السياب في العراق وصلاح عبدالصبور في مصر، وغيرهما. جهدت مؤلفة الكتاب كارول سيمور جونز لرفع الحيف الذي لحق بفيفيان وود زوجة الشاعر اليوت، ووصمها بالخبال والعهر ظلماً أيما ظلم، وتصويره بمظهر الضحية البريء من كل شبهة، بهتاناً ما بعده بهتان. حيث ردت الكيد إلى نحر الزوج الشرود البارد العواطف، الذي استعمل زوجته كقربان للخلاص من أزماته النفسية والمالية والاجتماعية، وصعد على كتفيها لبلوغ الشهرة والمجد. تُعزي الكاتبة برودة العاطفة لدى الشاعر ازاء زوجته كنتيجة لتجربة تعرض لها وهو في العشرين من عمره، عندما كان يدرس في السوربون بباريس، والتي ستدمغ ببصمتها العميقة على مشاعره وأحاسيسه وسلوكه في سنوات عمره اللاحقات. فقد تعرف على شاب ذي مظهر محبب، عليه وسامة ظاهرة، يدرس الطب في السوربون ويشاركه النزل الفندق نفسه واسمه جان فرديناند. وإذا كانت المؤلفة لم تجزم بقيام علاقة "فيزياوية" بين الشابين، لكنها تؤكد أن تلك العلاقة ايقظت عواطف الشاب اليوت المكبوتة والكامنة تجاه الجنس المثلي. وعلى رغم افتراق الاثنين، إلا أنهما ظلا يتبادلان الرسائل "الحارة" إلى أن جاء يوم قضى فرديناند نحبه في إحدى الغارات فيما كان يؤدي واجبه في إحدى الوحدات الطبية على الجبهة. هذه الحادثة - تؤكد المؤلفة - حلّت كالصاعقة على اليوت وتسببت في كدره وسلب هناءته لما تبقى من عمره، وأنه كتب الكثير من قصائده من وحي ذاك الغياب، بما فيها أشهر قصائده "الأرض اليباب" بدليل أنه أهداها للغائب الذي رحل باكراً عن العين وأقام كامناً في عمق اللاشعور، فالأرض من ثم قاحلة والدنيا خواء والحياة يجللها الجفاف والقحط. هذا التفسير ينسف من الأساس ما تعارف عليه النقاد من تفسير للقصيدة من أنها مشهد حي لما تعرضت له الأرض والناس والقيم والأعراف من دمار وخراب وتقويض اثناء الحرب العالمية الأولى وشوق الأرض لسحابة ماطرة أو زخة مطر، تعيد إليها البهاء والنمو والخصوبة. وفسروا القحط على أنه غياب الايمان، ولا مناص من عودة الخصب والنماء إلا بعودة الايمان إلى النفوس العطشى والأرواح الضالة. ولأجل أن تبرئ الكتاب من كل شبهة، تعود إلى نشأة الشاعر المتزمتة وعائلته المحافظة لتبرر الكمّ الهائل من المعاناة والكبت والكتمان الذي ناء بحمله، نتيجة عاطفته المثلية تلك. الجنس في عرف عائلة تي اس اليوت - دون أعراف وضوابط - يندرج تحت بند الاثم أو الحرام. أمه تكتب أشعار صلوات دينية للكنيسة تبارك سطوة الروح وتستنكر سلطة الجسد، والده شديد التدين، حتى أنه ليتمنى لو لم يخترع الطب دواء لمعالجة مرضى السفلس، كونه عقاب عادل من الرب على الآثمين. إضافة إلى أن اليوت نفسه، اصيب بفتقٍ أثناء صباه، اضطره لارتداء حزام طبي منذ بواكير يفاعته، مما أورثه الحرج من ايما علاقة. كل ذلك دفعه لكبح جماح رغباته، وعدم الافصاح عنها لأي كائن، سوى مخلوقته المفضلة "القصيدة". وقد ظهرت رغباته واسقاطاته تلك في الكثير من قصائده وفي بعضها اشارات فاضحة، ففي إحدى قصائده، ثمة ملاح داعر اطلق عليه اسم "كولومبو" يغتصب زملاءه ويستهوي تعذيبهم. ولم يكن ليتحرج من أن يناديه زملاؤه ب"الملاّح" أو الكابتن. إلى جانب "كولومبو" هناك الرجل الخائف والوجل والمتوجس والذي اطلق عليه "بروفورك" والذي تذهب المؤلفة إلى أنه الجانب المظلم من شخصية اليوت نفسه، وكأنه في أعماقه يمثل "هايد وجيكل". أما فيفيان هيغ وود، الانيقة المليحة المتحدرة من أسرة معروفة وغنية، فقد تعرفت على اليوت حين انتسب لجامعة اوكسفورد لدراسة الفلسفة. كان الاثنان في السادسة والعشرين من العمر. ومنذ اللقاء الأول فتنها بوسامته وأناقته وسحر كلامه، وحين قررا الزواج بعد شهور قليلة، سارا إليه بعيون مغمضة، غير محتسبين لنتائجه، انتهى به إلى القمة وانتهت به إلى الحضيض. يقول أصدقاؤه، إنها اصطادته بحبائلها فلم يستطع منها فكاكاً. وتقول المؤلفة إنه اندفع إليها للخلاص من شعوره الممض بفقدان صديقه فرديناند، الذي لم يكن قد مضى على رحيله إلا بعض شهر، زواجه نوع من ردّ التهمة عن نفسه بالتفكير في صديقه الغائب. الكتاب لم يزين فيفيان بما ليس فيها، فقد كانت تعاني من حالات كآبة مزمنة، وتتعاطى الأدوية المسكنة حتى قبل التعرف على الشاعر، وكان وسواسها ب"النظافة" أكثر من المعتاد، ولكنها، بزواجها من رجل بارد العواطف كاليوت ازداد مرضها تفاقماً، وازدادت حالات الهستيريا التي تتملكها حتى وصفتها معاصرتها فيرجينيا وولف بأنها "عبء على اليوت، كحقيبة ملأى بحيوانات النمس، معلقة في عنقه اينما سار"، أو أنها متوحشة، كأوفيليا في مسرحية هاملت لشكسبير. لكن المؤلفة تدفع عنها معظم ما وصمت به من تهم: فهي حين قرأت رسائلها، ادهشها عمق ما فيها من فطنة ورهافة حس وموهبة، وان حبها لزوجها ما خبت جذوته على رغم ما تعرضت لهن من صنوف الصدّ والهجران والنبذ. برتراند راسل داعية السلام بعد أسبوع من زواجه، دعا اليوت استاذه ومرشده، البروفيسور برتراند راسل لزيارته في شقته والتعرف على عروسه. تلك الزيارة ستقلب حياة الزوجين رأساً على عقب، فمنذ اللحظة الأولى حكم راسل على الزواج بالفشل. وأسر بذلك الحدس لمحظيته آنذاك الليدي اوتولاين موريل. وزاد بأن اليوت يخجل من الظهور في الأماكن العامة بصحبة زوجته، ويتمنى لو أن غيره أخذ على عاتقه العناية بها! وعلى رغم ضآلة حجم راسل وقصر قامته وذقنه المتدلي وأسنانه المنخورة الصفراء، إلا أن سحره كان طاغياً على من عرف من النساء، وكان يستهويه على الأخص النساء المتزوجات. منذ الأيام الأولى، شجع راسل الزوجة الشابة لإقامة علاقة معه، على رغم أنه يكبرها بستة عشر عاماً. ووجدها اليوت فرصة سانحة للتخلص من أعبائه الزوجية، التي بدأ يضيق بها ذرعاً، إذ وجد من يفهمه ويفهمها ويحسّ بالشفقة عليهما معاً. تجذرت علاقة البروفيسور بالزوجة بعد مغادرة الشاعر إلى أميركا لرأب الصدع بينه وبين والديه، وعودته منها خالي الوفاض، بعدما عاقبه أبواه بأن قطعا عنه كل عون ومساعدة جزاء لتركه الدراسة الأكاديمية، وزواجه من دون علمهما ولا موافقتهما. وفي العام نفسه لم يتحرج راسل من دعوة الشاعر وزوجته للإقامة معه في شقته في لندن، وجاءت الدعوة لاليوت كمنة من السماء، نظراً إلى ضائقته المالية وعجزه عن ايجاد عمل. كانت الشقة ضيقة لا تتسع إلا لسرير ضيق تعتليه فيفيان فيما يتمدد اليوت قرب السلم في المدخل الصغير الذي لا يتسع لحركة قطة. وفيما بدا الأمر مريحاً للشاعر، بدأ أكثر راحة للمضيف الذي لم يمنعه ضيق السرير من معاشرة الزوجة أو ليدعوها إلى سريره الوسيع اثناء غياب الزوج للبحث عن عمل. الضائقة المالية التي حاقت بالشاعر جعلته يتقبل عطايا راسل ومنحه بامتنان، ويرتضي اغراق فيفيان بالهدايا من فساتين وحلى وحتى بعض مجوهرات العائلة، أي أن الزوجين كانا يعتاشان على ما يقدمه البروفيسور من إعانة. والسؤال الذي لا يحتاج إلى اجابة: هل كان اليوت يجهل ما يجري تحت سمعه وبصره أم أنه يعلم ويغض الطرف؟ هذا "غض الطرف" كان يتفصّد رموزاً ودلالات في العديد من قصائده في تلك الفترة وما تلاها. وقد يكون سكوت اليوت يحمل أسبابه معه. أولاً، ان راسل كان مرشده وناصحه، وبمستطاعه أن يقدمه إلى المحافل الأدبية والثقافية ودور النشر الكبرى وإدارات الصحف، وأن تزكيته للشاعر الشاب لا يمكن أن تخيب لما يتمتع به راسل من شهرة عالمية ومحلية. وفعلاً وجد اليوت عملاً ثابتاً بشفاعة صديقه، وفرصة لإلقاء المحاضرات، وبدأ سهمه بالصعود. السبب الثاني، نجاح راسل في ارضاء الزوجة المتطلبة فيما اخفق به الزوج. السبب الثالث، مورد معلوم للرزق. لم تجر السفينة كما قدر لها، فسرعان ما تعرف البروفيسور اثناء استجوابه - لتمزيقه دعوة للتجنيد الالزامي وحضه على التمرد والدعوة للسلام - على امرأة داعية للسلام، مثله، اسمها كوليت اونيل. ومنذ ذلك اليوم لم يعد في حياته إلاّها... ولتوضع فيفيان على الرف ولو إلى حين، مما جعلها تحس بالدونية وتتفاقم حالتها النفسية السيئة سوءاً. بعد انفضاض الرغبة لدى راسل اتسعت فجوة الجفاء بينه وبين صديقه حتى أنه كتب إلى صديق مشترك: راسل؟ لقد تصرف بخسة، انه شرير بحق. على رغم تباعد الزوجين الفيزياوي، فقد لعبت فيفيان دوراً مهماً في حياة الشاعر عندما بدأ يلمع نجمه شاركته خطواته للصعود. ولطالما شوهدت في اجتماعات زمرة "بلومزباري" ذلك التجمع الثقافي الذي ضم النخبة من مثقفي تلك الحقبة، متأبطة مسودات قصائد اليوت أو محاضراته، حتى قيل إنها ساهمت بومضات من قصيدة "الأرض اليباب"، وكانت تكتب بعض النفثات الأدبية وتوقعها باسم مستعار، غالباً ما يكون اسم رجل، وكانت صراحتها موجعة وهي تتناول اسماء أدبية مهمة، بنقد لاذع وتهكم. وعندما كشف عن اسم الكاتبة الحقيقية، كانت تلك نهايتها القاتلة. ولا يبرئ الكتاب اليوت من تهمة شعوره بالغيرة منها وسعيه للايقاع بها. على رغم قطع العلاقة مع راسل، إلا أن الشاعر كان يحمل شعوراً عميقاً بالغضاضة والمرارة ربما من تأنيب الضمير، كونه لم يوقف تلك العلاقة الآثمة بل دفعها للتواصل، مستمتعاً بما كان يغرقه به راسل من عطايا وما يعد به من وعود لنوال الشهرة والتألق. وعندما أيقن أن زوجته بنزقها وسورات هياجها وكآبتها، ستكون عائقاً أمام صعوده المتوثب وشهرته المتعاظمة، قرر الانفصال. لكنها لم تستسلم بسهولة، كانت تلاحقه في أي مكان يحل فيه، وتجلس في الصفوف الأمامية تشاهد مسرحياته، مرتين وثلاثاً وعشراً دونما ملل. حين يئست من استرجاعه، انكفأت، واغرقت نفسها بالشراب وبجرعات الدواء المضاعفة، حتى توفيت وحيدة منبوذة عام 1947. وظلت حتى آخر أيامها ترفض إلقاء اللوم على اليوت... وتردد "ليس الذنب ذنبه". أما اليوت، فجاء في إحدى مقابلاته: "منذ 17 سنة، عشنا متزوجين، أعني عشنا تحت سقف واحد معاً. سعداء؟؟ أبداً. لم أكن يوماً ما سعيداً. ولا اعتقد بأنني سأغدو سعيداً قط". بعد عشرة أعوام على انفصاله عنها، تزوج سكرتيرته، ونعم ببعض السعادة. كانت في الثلاثين فيما بلغ هو الثامنة والستين. ولكنه وطوال سبعة أعوام وحتى وفاته عام 1965 لم يكتب قصيدة عصماء واحدة، ولا ألف مسرحية مجيدة، وهو ما فعله طيلة سنوات شقائه مع فيفيان، والتي دامت 17 سنة. على رغم ضخامة حجم الكتاب 680 صفحة، فقد حفل ببعض التفاصيل المملة أحياناً، والتي لا تضيف لهوامش الأدب جديداً، ولا لمناهج النقد حسنة إضافية أو معلومة مهمة أو خطيرة، وعلى رغم دعوى انحسار عدد القراء أمام اكتساح الانترنت والفضائيات، فإن العجب حقاً أن يقبل القراء على هذا الكتاب بنهم واضح، وتسجل مبيعاته ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. لا عجب... إنه تي اس اليوت، شاغل الناس شاعراً وناقداً، خادعاً ومخادعاً، حياً وميتاً، وممعناً في الحضور