يكاد الملف الاقتصادي يكون الشغل الشاغل للمسؤولين اللبنانيين بعدما بلغ الوضع الاقتصادي مرحلة القلق، وهو ما عبّرت عنه في الأيام الأخيرة سلسلة الاجتماعات التي عقدوها وانتهت الى مناقشة اجراءات سريعة ترمي الى تعويم هذا الاقتصاد. إذ يكمن التحدي الأساسي لرئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري في التمسك بقرار عدم خفض سعر صرف الليرة اللبنانية من أجل مواجهة عبء الفوائد المترتبة على الديون. وهو خيار لا يزالان يبحثان فيه منذ شهور، الا انهما يصران على تثبيت السعر الحالي لليرة اللبنانية. والواضح أن عبء الفوائد أخذ يشير الى أرقام خطيرة. فلبنان يتكبّد سنوياً ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار فوائد على دين ثلثاه محلي والثلث الثالث بالدولار: الثلثان الأولان نحو 20 مليار دولار والثلث الثالث 9 مليارات دولار لكنه يتزايد تدريجاً. ومع ان الاعتقاد بأن لجوء لبنان الى خفض سعر عملته الوطنية الى النصف، لتصبح الليرة اللبنانية نحو ثلاثة آلاف ليرة من شأنه خفض دين الدولة الى النصف بدوره فيصبح 10 مليارات دولار عوضاً عن 20 ملياراً، الا ان لهذا القرار الخطير نتائج بالغة التعقيد على الطبقات دون المتوسطة في البلاد التي ستنهار عندئذ انهياراً كاملاً. وهو ما يظهر رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تفهمهما له تماماً استناداً الى المعطيات الآتية: يرفض لحود أي تعرّض لسعر العملة الوطنية لأنه سيحمل عهده تبعاته على مجمل الوضع الاجتماعي والمعيشي للمواطن، وإذ ذاك سيقال عن لحود ما قيل في الثمانينات عن عهد الرئيس أمين الجميل أنه تسبب بانهيار الليرة، وما قيل من قبل عن عهد الرئيس الياس سركيس انه انهاه بإنجاز كبير هو حماية الخزينة اللبنانية من نتائج الحرب فحافظ على استقرار العملة الوطنية. الأمر نفسه يستشعره الحريري الذي بات يقرن وجوده في رئاسة الحكومة باستقرار سعر الليرة، واعتبار مسؤوليته عن هذا الاستقرار مبرر بقائه في الحكم. وهي ليست المرة الأولى التي يواجه رئيس الوزراء هذا الاستحقاق منذ عودته الى السلطة في تشرين الأول اكتوبر 2000، إذ واجه في الأشهر الأخيرة اقتراحات صندوق النقد الدولي الذي طالب لبنان بخفض سعر الليرة للتخفيف من وطأة ديونه، من بين سلسلة اجراءات طلبها منه الصندوق، فتحفظ الحريري بعدما كان سمع في "مؤتمر باريس" مطلباً مماثلاً بهذا الخفض حملت رئيس الوزراء اللبناني على طلب وساطة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، صديقه، من أجل البحث في اجراءات من شأنها مساعدة لبنان على الخروج من الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها من دون مس سعر صرف الليرة. وكان شيراك متفهماً موقف الحريري وداعماً له. وأكد الحريري لمسؤولي الصندوق يومذاك انه منفتح على أي اجراءات يدعى اليها لبنان ما خلا هذا الاجراء. ولكن صندوق النقد الدولي لم يتخل عن طرح هذا الخيار الصعب على رغم انه يتيح للبنان التخلص من قسم كبير من ديونه. والواقع ان خيار خفض سعر الليرة لا يزال مستبعداً ويحاول لحود والحريري الاستعاضة عنه بشتى البدائل التي من شأنها اعادة الروح الى الاقتصاد اللبناني ومن بينها تلك التي طلبها منه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي كقانون الضريبة على القيمة المضافة الذي أقره مجلس النواب قبل أيام وكاستعجال لبنان الانضمام الى اتفاق الشراكة الأوروبية - المتوسطية الذي اشترط بدوره اجراءات عدة أبرزها قانون الضريبة على القيمة المضافة كأحد المصادر الضرورية التي تتيح للخزينة تحقيق ضرائب جديدة تساعد في خفض ديونها عبر تنشيط مواردها. علماً ان جانباً أساسياً، سياسياً في الغالب، ينطوي على انضمام لبنان الى تلك الشراكة هو الضمان الذي توفره له من أي انهيار اقتصادي، والدافع الضروري لتلقي مساعدات دولية تساعده على تخطي صعوباته الاقتصادية. على ان التحدي الاقتصادي دفع المسؤولين اللبنانيين في الوقت نفسه الى تجاوز خلافاتهم الداخلية التي أمكن في الأسابيع الأخيرة تلمس اشاراتها. فرئيس الجمهورية والحكومة اختلفا قبل الاجتماع الموسع الذي عقداه مع فريق عملهما في قصر بعبدا قبل أسبوعين على مقاربة الملف الاقتصادي، ورئيس الوزراء اختلف مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على الاعتمادات المالية المخصصة للجنوب، والرؤساء الثلاثة اختلفوا في ما بينهم على التعيينات الادارية قبل ان يبادروا على وقع تفاقم الأزمة الاقتصادية الى التفاهم على سلة التعيينات الإدارية. والواضح ان أياً من الرؤساء الثلاثة ليس في وارد الخوض في أي مواجهة مباشرة وعلنية مع الآخر، مع ان رئيس المجلس كان أشار أخيراً الى ان لا شيء تحت الطاولة، تلميحاً منه الى اصراره على كشف مواقفه علانية لدحض أي أسباب للخلافات. مع ذلك ثمة ملفات كثيرة تشكل أكثر من حافز للخلافات بين الرؤساء ذات صلة بالأزمة الاقتصادية إلا ان اسبابها سياسية أولاً ومبعثها عدم اتفاق الرؤساء على مقاربة مشتركة لهذه الملفات، وهو ما يقال خصوصاً عن ثلاثة أساسية عالقة الا انها ليست وحدها بالتأكيد، وهي أزمة الكهرباء وأزمة شركة طيران الشرق الأوسط التي يشرف على تمويل عجزها مصرف لبنان وأزمة المؤسسات الإعلامية الرسمية. وعلى أهمية هذه المشكلات والنتائج التي تتركها على مجمل الوضع الاقتصادي، فإن ثمة قشرة سياسية هي في الواقع توازن القوى السياسية داخل الحكم، للاسباب الآتية: 1 - ان عدم رضى رئيس الجمهورية عن الحكومة الحالية يجعله أيضاً غير قادر على ارغام رئيس الوزراء على الاستقالة، خصوصاً ان ليس لدى لحود أي بديل في الحكم يخلف الحريري الذي يظل الخيار السياسي الوحيد من جهة والشخصية الوحيدة القادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية وعلاقاتها واتصالاتها الدولية وبحكم قدرتها على تغطية المشاركة الإسلامية في السلطة، وبحكم عدم وجود منافس للحريري في الزعامة البيروتية أولاً، ثم في الزعامة السنية، ثم - وخصوصاً - عدم وجود منافس له في رئاسة الحكومة قادر على حمل أعباء التردي الاقتصادي من بعده. 2 - ليست لدى الحريري أية رغبة في ترك السلطة في الوقت الحاضر مع معرفته بأن لا بديل منه على رأس الحكومة حتى اشعار آخر، أياً يكن حجم الاعتراض على بعض اعضائها بمن فيهم الذين يعترض هو عليهم قبل الرئيس لحود. وهو يعتقد بأن الأسباب التي قادته الى رئاسة الحكومة، وهي نتائج الانتخابات النيابية العامة صيف 2000 وأدت الى التركيبة الحكومية الحالية، لا تزال تلقي بثقلها على الواقع السياسي الداخلي ولا تزال تشكل أيضاً مصدر توازناته بشهادة رئيس الجمهورية الذي بدا ان تكليفه الحريري ترؤس الحكومة الجديدة واطلاق يده في تأليفها عكسا تسليمه بنتائج انتخابات صيف 2000. الأمر الذي يعني ان الرئيس الحريري باق في السلطة الى ان يقرر هو - أو دمشق - غير ذلك. 3 - ان الوضع الاقتصادي الصعب الذي يلقي بثقله على الرؤساء الثلاثة قادهم الى قرار واضح وصريح هو ان المسؤولية مشتركة في مواجهة هذا الواقع. ولذا لم يعد في وسع الحريري التفرد وحده في معالجة الملف الاقتصادي. وهذا ما عبرت عنه الاجتماعات الأخيرة في قصر بعبدا بين رئيس الجمهورية والحكومة وشارك في بعضها الوزراء المختصون. وعكس هذا التحول مناقشة جماعية يشترك فيها فريقا عمل الرئيسين لكل ما يتصل بالاجراءات الاقتصادية المطلوبة بعدما كانت تقتصر على الحريري وفريق عمله. ويرمي ذلك عملياً الى وضع حد لكل "الاشاعات" الصادرة عن اي من الجهتين والتي تتهم الأخرى بالعرقلة. 4 - ان صعوبة الوضع الاقتصادي في ظل عدم وجود مساعدات خارجية أو برنامج دعم من صندوق النقد الدولي للبنان تدفع بهذا الوضع الى ايجاد حلول موقتة للمشكلات الاقتصادية في اطار خطة تأجيل انفجار الأزمة أكثر منها القدرة على ايجاد حلول ناجعة لها. مع ذلك بدا واضحاً ان الرؤساء الثلاثة يواجهون في ما بينهم حتى الأيام الأخيرة أكثر من أزمة تعاون داخل الحكم. - فرئيس الجمهورية مستاء من الطريقة التي اتبعها معه الحريري ووزير الطاقة محمد عبدالحميد بيضون عندما كشفا عشية جلسة لمجلس الوزراء قبل حوالي أسبوعين عن اتجاه الى اقالة رئيس مجلس ادارة كهرباء لبنان جورج معوض من منصبه وتحميله مسؤولية الانقطاع المتكرر للكهرباء، من غير ان يناقشا هذا الموضوع معه سلفاً ولا حتى مطالبتهما اياه بإقالة معوض، فكان ان رفض لحود هذا الاجراء بعدما حاولا احراجه بإدراج موضوع الكهرباء على جدول اعمال جلسة مجلس الوزراء من دون علمه، ولذا دافع عن معوض وربط اي اجراء اداري في حقه بسلة التعيينات الادارية بعدما أكد ان المسؤولية مشتركة وبين الجميع. فطوي الموضوع على زعل بعدما غلّب لحود وجهة نظره. - ورئيس مجلس النواب مستاء من رئيس الوزراء بسبب خفض الاعتمادات المخصصة للجنوب في موازنة عام 2002 وتقليص الخطط الانمائية لهذه المنطقة، ولم يتردد في التعبير عن هذا الاستياء في جلسة لمجلس النواب قبل أسبوعين عندما انتقد تغيب وزير الخارجية محمود حمود عن النشاطات والقرارات ذات الصلة بوزارته. كذلك عندما عارض بري اقرار مشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة بمادة وحيدة بناء على طلب الحريري. فكان ان تدخل رئيس الجمهورية لاقناعه بالتجاوب مع هذا الطلب خشية تعطيل اقرار المشروع الذي لم يعارضه بري في الجوهر، وانما الطريقة التي اراد بها رئيس الوزراء امرارها في مجلس النواب خلافاً للأصول. فانتهى الأمر، بوساطة لحود عبر الهاتف، الى التصويت عليه بمادة وحيدة. على ان مجمل المعطيات المحيطة بعلاقات الرؤساء في ما بينهم وضعتهم امام استحقاق الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في ضوء ما اطلعهم عليه حاكم مصرف لبنان على النحو الذي بات يتطلب معالجة سريعة لحلول موقتة للأزمة الاقتصادية في انتظار المناخات السياسية - الدولية خصوصاً - لاعادة بناء الاقتصاد اللبناني واخراجه من عبء ديونه. وهو ما لمح اليه تكراراً صندوق النقد الدولي عندما اعتبر الاجراءات التي تتخذها حكومة الحريري ايجابية ومؤثرة وان غير كافية. الا انه في كل حال اعتبرها اجراءات موقتة لوقف استمرار الانهيار ولا تفضي حكماً الى اعادة البناء. ومع ذلك يتمسك الصندوق بخيار اعادة النظر في سعر صرف الليرة اللبنانية كأحد الخيارات الضرورية. وهو خيار بمقدار ما تبدو آثاره خطيرة على عهد لحود ومغزى استمرار الحريري في الحكم - إذا تقرر هذا الخيار - فإن اللبنانيين أو على الأقل غالبيتهم تداركته سلفاً من خلال تحوّل 80 في المئة من الكتلة النقدية اللبنانية المتداولة الى العملة الأميركية الصعبة