إجماع إسلامي «قديماً» و«حديثاً» على حق المرأة في التعليم    حسابات السومة    أكثر من 90 دولة تشارك في مؤتمر التعدين الدولي    «التعليم»: الفحص اللياقي.. شرط لقبول الطلاب المستجدين العام القادم    «دلة البركة» توقّع اتفاقية تعاون مع شؤون حجاج الصين    حج آمن    "سلامة الأغذية" بالرس يحصل على "الأيزو"    المملكة والسَّعي لِرفع العقوبات عن سورية    "أميركا الجديدة.. وعصر المليارديرات"    سعود بن بندر يستقبل مدير الالتزام البيئي ورئيس «رياضة الأساتذة»    الأهلي يصطدم بالخلود.. وصراع «الوسط» ب «ديربي الرياض»    الشباب ينهي عقد كويلار    الاتحاد يتخلى عن صدارته    فيصل بن بندر يطلع على أعمال أمن المنشآت    المتحدث الأمني لوزارة الداخلية يؤكد أهمية تكامل الجهود الإعلامية بمنظومة الحج    أمير الشرقية يتسلم تقرير الملتقى العلمي    فيصل بن نواف يطلق ملتقى «جسور»    أمير القصيم يدشن مشروعات محافظة أبانات    الذهب يرتفع.. و«السيارات وقطع الغيار» تتصدر مكاسب الأسهم الأوروبية    البروتين البديل    سعود بن خالد يشهد اتفاقية «الفاحص الذكي»    مستشفى المذنب يُجري 1539 عملية جراحية    مفتي الطائفة العلوية ل«عكاظ»: السعودية محل ثقة.. ودورها محوري في سورية    «أمن الدولة»: انتقلنا من مرحلة توفير الأمن إلى صناعته    مدير الجوازات: أجهزة ذكية لقياس مدة بقاء الحجاج في «الكاونتر»    زمن السيارات الصينية    منشأة خامسة لأرامكو السعودية تدخل قائمة "المنارات الصناعية"    زراعة البن .. إرث أصيل ومحصول واعد    مجلس الوزراء: تشكيل لجنة مركزية دائمة للجهات الأمنية في المنافذ الجمركية    من أعلام جازان.. الشيخ الجليل ناصر بن خلوقة طياش مباركي    صراع «الفاشنيستا» تديره فَيّ فؤاد    الدبلوماسي الهولندي ما رسيل يصف بعض جوانب الحياة في قنا حائل    ابو قلبٍ مريح    أمريكا والتربية    م ق ج خطوة على الطريق    احتفاء ب"الحرف اليدوية"    الاحتلال يواصل رفض وصول المساعدات إلى غزة    ولي العهد ورئيس البرازيل يبحثان تطوير العلاقات    برينتفورد يفرض التعادل على مانشستر سيتي بالدوري الإنجليزي    مفوض الإفتاء في جازان يحذر من خطر الجماعات المنحرفة خلال كلمته بالكلية التقنية بالعيدابي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يفتتح» مؤتمر ومعرض الحج 2025»    يا رجال الفتح: كونوا في الموعد    "سلمان للإغاثة" يحلق عالمياً    بايدن يرفع كوبا عن اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب وهافانا ترحب    الآثار المدمرة بسبب تعاطي المخدرات    «الغذاء والدواء»: الجنسنغ بجرعات عالية مضر بالصحة    أفكار قبل يوم التأسيس!    انطلاق فعاليات معرض مبادرتي "دن وأكسجين" غدًا في جازان    ألمانيا.. بين دعم السلام والأسلحة الفتاكة!    الدكتور علي مرزوق إلى رتبة أستاذ مشارك بجامعة الملك خالد    أنسنة متنزه رغدان    هل انتهت كرة السلة في المدينة المنورة ؟!    نائب أمير تبوك يتسلم التقرير السنوي لانجازات واعمال فرع وزارة التجارة    بخاري: انتخاب عون و«الاستشارات» يسهمان بتعزيز نهضة لبنان    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة السماري    إنجاز علمي جديد.. «محمية الملك عبدالعزيز الملكية» تنضم للقائمة الخضراء الدولية    أمير الجوف يشيد بدور "حقوق الإنسان"    برعاية الأمير فيصل بن خالد.. إطلاق جائزة الملك خالد لعام 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب "لا أحد ينام في الاسكندرية" يحكي عن علاقته الحميمة بالمكان . معتبراً العودة إلى تقاليد السرد "حداثة من نوع آخر" إبراهيم عبد المجيد : أروي حكايات مجانين وشخصياتي مألوفة
نشر في الحياة يوم 08 - 01 - 2001

"كل كاتب منذور لمكان، والاسكندرية انطبعت في روحي انطباعاً حميمياً". هكذا يقدّم إبراهيم عبد المجيد تجربته الأدبيّة، معترفاً أنه لم يكتب عن القاهرة إلا قليلاً مع انّه يسكنها منذ ربع قرن. وهو يشرح تلك المفارقة قائلاً: "ما زلت اشعر ان مشروع الاسكندرية لم يكتمل بعد. هناك في ذهني كتابة عمل آخر عن الاسكندرية على الاقل. وربما بعد ذلك أكتب عن القاهرة، وأقوم برصد تجربة جيلي". والأديب المصري الذي جاء القاهرة أواسط السبعينات، ككثيرين في جيله، عرف المدينة عند مفترق حاسم، وعاش في خضم أحداث مفصليّة. وعن سرّ ازدهار الرواية في مصر على حساب الشعر، يرى عبد المجيد أن "مصر عريقة في الحكايات"، وأن النيل والزراعة لهما دور في هذه الخصوبة. كما يكشف صاحب "لا أحد ينام في الاسكندريّة" عن علاقته الخاصة بالسينما التي أرشدته إلى الأدب: "ثقافتي آتية من السينما التي كانت بيتي، وعندما كانت أمي تحتاجني كانت ترسل من يجلبني من السينما". ولا يتوانى عن انتقاد يوسف شاهين: "صحيح انه اسكندراني، لكن اختلاطه بالاجانب ربما، وبعده عن المدينة جعله يجهل تفاصيل لهجتها". ويستعيد الكاتب ملامح من طفولته البعيدة: "كان والدي يعمل في سكة الحديد، ويصحبني معه في رحلات طويلة في الصحراء الغربية. فكان هذا الخلاء منبع خيال بالنسبة إلي، وكنت على الدوام وسط قوم من الغرباء. هذا الجو من الغربة والاغتراب اغناني روحياً".
على رغم كونه مقيماً في القاهرة منذ قرابة ربع قرن، فقد بقي ابراهيم عبدالمجيد، مشدوداً الى الاسكندرية، ومسكونا بأسرارها وألغازها الغامضة التي كرّس معظم أعماله الأدبىّة وما يزال، لسبر اغوارها، بدءاً من "الصياد واليمام" وحتى عمله الأخير "طيور العنبر" الصادر عن سلسلة "روايات الهلال"، مروراً ب "بيت الياسمين" و"ليلة العشق والدم". وقد زار عبدالمجيد عمان اخيراً، بدعوة من "مؤسسة عبدالحميد شومان"، والقى في "دارة الفنون" التابعة لها شهادة حول تجربته الروائية حملت عنوان "الاسكندرية مدينة للمجد والرثاء" اعتبر فيها أن مدينته التي بناها من خياله، ومن خلال كل حواسه الممكنة "مدينة كوزموبوليتية تختلف عن مدينة اي كاتب"، لافتا الى ان الاسكندرية "بلورة سحرية تعكس آلاف الصور". ولعبدالمجيد 53 عاماً ثماني روايات وأربع مجموعات قصصية، وكانت روايته "البلدة الاخرى" حازت جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية في القاهرة العام 1996، في حين نالت روايته السابقة "لا أحد ينام في الاسكندرية"، جائزة رواية العام في معرض الكتاب الاخير في القاهرة. "الوسط" التقت الروائي المصري وحاورته عن مدينته وذكرياتها وبهجاتها الآفلة.
أنت مسكون بحب الاسكندرية، كما لو كنت غارقا في تأمل المطلق. ألهذا الحد يمكن ان تصل درجة الوله بمدينة؟
- هذا تعبير قوي يتجاوز ما هو جار. العلاقة بيني وبين المدينة حميمة، واعتقد ان كل كاتب منذور لمكان ما، وهو المكان الذي قضى فيه السنوات المؤثرة في حياته. في الاسكندرية أمضيت السنوات الاولى من عمري، ورأيت العالم من خلالها. ومن الطبيعي عندما اكتب ان اكتب عنها. فأنا لا اعرف حتى الآن ان اكتب عن شيء آخر، او عن مكان آخر غير الاسكندرية. وعندما وجدت أن في استطاعتي الكتابة عن شيء آخر غير الاسكندرية لم أتردّد في ذلك. جرى هذا عندما كتبت عن الصحراء العربية في "البلدة الاخرى"، وكتبت في رواية اخرى عن سيناء وحرب اكتوبر. لا اتردد في الكتابة عن اي شيء، لكن حتى الان ما تزال الاسكندرية تشغل مساحة واسعة جدا في متخيّلي ووعيي وحساسيّتي وشعوري.
هل هناك صراع لا واعٍ لديك بين الهامش والمركز؟ هل تتمسّك بمرجعيتك وخصوصيّتك في ظل مواجهة صداميّة مع مكان اقامتك القاهريّة؟
- كنت سأكتب ما كتبته، سواء كنت موجودا في الاسكندرية أو في القاهرة. وجودي في القاهرة لا يبعدني عن مدينتي التي ازورها باستمرار. لكن الاسكندرية انطبعت، كمكان، في روحي انطباعا حميمياً.
في اللهجة الاسكندرانية ثمة كلام على ألسنة افراد موجه لأفراد آخرين بصيغة الجمع، تُرى ما سر نزع الفردانية عن اللغة، وما سبب ذهاب خطابها نحو الجماعة؟
- عندي تفسير، لكنه تفسير ظني، وليس حاسما، الاسكندرية كانت لمدة ستة قرون مدينة العالم في العصر الهلليني كله. وربما بسبب ذلك جاء الكلام الجمعي في حين ان المتكلم يكون فرداً واحداً، والمخاطب ايضاً. أنا شخصيا لا اجد تفسيرا لذلك، لا اعرف قبائل عربية تتحدث بلغة الجماعة، لأنني لا اعرف لغة القبائل، ولا اعتقد ان هناك قبيلة عربية عاشت في الاسكندرية، وطبعت لهجتها بهذه الروح الجماعية. الاسكندرية كانت معبرا لقبائل عربية كثيرة، سواء منها من سافر الى الصحراء العربية عبر الاسكندرية لفتح ليبيا والمغرب العربي، او القبائل التي عاشت في مصر، واختلطت بشعبها وصارت جزءا من الجنوب المصري في الصعيد، وصارت ترسل ابناءها بأعداد ضخمة للعمل في الاسكندرية... لكن لهجة هؤلاء معروفة، ولا تشبه اللهجة السكندرية. أنا اتصور ان هذا الامر يحتاج متخصصا في اللهجات واللغات اليونانية والقبطية القديمة. وربما يكتشف ان كلامي صحيح، وهو ان الحديث بلغة الجماعة قادم من العصر الهلليني، حيث الفرد يتحدث بوصفه مركزا، فيقول حين يدعو آخر الى مأدبة مثلا: "احنا عازمينك النهار ده". اما اذا بدأ المتحدث كلامه بالمفرد فنيبغي ان يتبعه بالمفرد ايضا كأن يقول: "أنا عازمك النهار ده".
انتقدت يوسف شاهين لعدم اجادته اللهجة الاسكندرانية في افلامه، على رغم كونه اسكندرانياً أصيلاً؟
- كل اللهجة في افلام يوسف شاهين ليست اسكندرانية، منذ فيلمه "صراع في الميناء" حيث تجد فاتن حمامة تقول فيه: "آني بنقابلوه" هذا خطأ، فليس هناك لهجة على هذا النحو. هناك اما "احنا بنقابلوه" او "آني بنقابله". كان احرى بيوسف شاهين ان يقدم افلامه لخبير في اللهجة السكندرانية، من اجل تجنب هذه الاخطاء. صحيح ان شاهين اسكندراني، لكن اختلاطه بالاجانب ربما، وبعده عن المدينة جعلاه يجهل تفاصيل لهجتها.
عشت في القاهرة ما يقارب ربع قرن، الا انك لم تكتب عنها، بل تتوجه حواسك وكتابتك نحو البحث عن ذاكرة مدينتك، ورصد تفاصيلها...
- القاهرة فيها كثير من منابع الالهام والوحي، لكن الذي حدث حتى الان انني لم اكتب عن القاهرة سوى بضع قصص قصيرة، او بعض مشاهد في رواية "البلدة الاخرى" او في "ليلة العشق والدم". لكنني لم أقم بكتابة رواية كاملة عن القاهرة، مع انني ازعم ان لدي من خبرات الحياة في القاهرة ما يملأ مجلدات. ولكن الكاتب مشاريع، وما زلت اشعر ان مشروع الاسكندرية لم يكتمل بعد. هناك في ذهني كتابة عمل آخر عن الاسكندرية على الاقل. وربما بعد ذلك أكتب عن القاهرة وأقوم برصد تجربة جيلي، وهي تجربة غنية. القاهرة أتيتها العام 1974، وهي تغلق ابوابها، بينما كان السادات يتحول بالسفينة في اتجاه آخر، وكانت هناك مطاردات للمثقفين والكتاب، وكان هناك صراع سياسي سري وعلني، عشت في هذا الخضم، وعشت تجارب تستحق ان يُكتب عنها.
يستحوذ الفضاء الجنوبي في الاسكندرية على اعمالك كلها منذ "الصياد واليمام" وحتى روايتك الاخيرة "طيور العنبر" ما سبب ذلك؟ وهل لهذا التحيز علاقة بتقسيم العالم الى شمال وجنوب؟
- لا، لا علاقة للأمر بتقسيم العالم، بل سبب ذلك أنني عشت في الجنوب اكثر مما عشت في الشمال... كنت في الجنوب اسكن في حي "كرموز"، وكان والدي يعمل في سكة الحديد، ويصحبني معه في رحلات طويلة جدا في الصحراء الغربية. فكان هذا الخلاء منبع خيال بالنسبة إلي، وكنت على الدوام وسط قوم من الغرباء. هذا الجو من الغربة والاغتراب اغناني روحياً. ويبدو انه حفز في روحي الرغبة، واقلق موهبتي واظهرها. اما الشمال فكان منذ الصغر مهما جدا لنا كصبية، حيث كنا نذهب اليه في شبه غارات على اماكنه الجميلة. واثناء دراستي الجامعية امضيت وقتا طويلا في الشمال، وهو يظهر في روايات "بيت الياسمين" و"طيور العنبر" و"لا أحد ينام في الاسكندرية"... لكن ليس بكثافة الجنوب، واعتقد ان العمل المقبل سيكون في معظمه مخصصا للشمال.
هل اصطدم أبناء جيلك من الأدباء، ومن تلاكم، ب "عقدة نجيب محفوظ" لدى الانطلاق في خوض مغامرة الكتابة الروائيّة؟
- يلفت الانتباه في الرواية المصرية، ان نجيب محفوظ لا يشكل عقدة امام تطور هذا النوع الادبي، وبروز اسماء جديدة تجرّب في فضائه، وتتجاوز المناخ المحفوظي في كثير من الاحيان، بخلاف ساحات عربية اخرى. وهذه الظاهرة تعود إلى كون مصر بلد متنوع، وهي بلد "ولاّدة" كما يقولون، تنجب كل يوم أدباء جدداً. لدينا عدد ضخم من كتاب الرواية المعروفين، وعدد اضخم من الكتّاب غير المعروفين وبينهم بلا شكّ مواهب مميّزة، لكن بعدهم، ربما، عن القاهرة، او عن مراكز الاعلام يجعلهم غير معروفين. التعليم انتشر في مصر، واتسعت مساحته، خصوصاً بعد ثورة يوليو وتبلورت لدينا في الفترة الاخيرة ظاهرة تمثلت في ظهور عدد كبير من الكاتبات المصريات.
إن نجيب محفوظ لا ينتمي الى الماضي، وهو ما زال موجودا، ليس ضروريا ان يكتب، رغم انه كتب في الآونة الأخيرة قصصا قصيرة جميلة جدا. وأعمال محفوظ تتجاوز الزمن، وهو احد رموز التجريب الكبار، بخلاف ما يتصور بعض النقاد والناس الذين يرونه من خلال اعماله القديمة، في حين انني اظن ان اعماله منذ "اللص والكلاب" حتى اخر رواياته، اعمال متطورة. لكن حضوره لا يلغي أي اتجاه أو حساسيّة أو تجربة. نحن في مصر، لدينا كم كبير... وايضا كيف كبير، وهذه خاصيّة مصرية عائدة الى ضخامة عدد السكان، ومكانة الأدب والفنّ في المجتمع، ووجود عدد هائل من منابر النشر. لدينا تخمة في النشر، فلا ازمة في هذا المضمار.
تبدو متكلّماً ماهرا، وانت تتحدث عن تجربتك. هل جربت تسجيل استرسالاتك على شريط مثلا، وتحويلها الى سرد روائي؟
- لم افعل ذلك، لكنك نبهتني الى تجريبه في المستقبل. حقا انني افكر في عمل شيء من هذا القبيل، ولكن من الطبيعي ان يكون الروائي حكّاء ماهراً. فمصر عريقة في الحكايات، والنيل والزراعة ملمحان من ملامح الحكاية. ذات يوم، كان الروائي الراحل غالب هلسا جالساً معي في القاهرة، وقال لي بهدوئه الغريب جدا، هو الذي يتكلّم فلا يبدو عليه ذلك، قال إنه مندهش من الرواية في مصر التي تشتمل على تجارب وأصوات كثيرة جدا ومهمة، في حين ان الشعر لا يحتلّ المكانة نفسها، بل يعرف ازدهاراً أكبر في أكثر من مدينة عربيّة أخرى... وعزا ذلك الى الطين والارض والحضارة والزراعة والنيل. فقلت له ان هذا هو التفسير الاصح لهذه الظاهرة: النيل حكايات، والزراعة جلسات ليل وانتظار ومحصول، وهذا كله انطبع في ذاكرة المصريين، فما بالك اذا كان المصري كاتباً روائياً موهوباً ؟
في هذا الصدد نلاحظ في الرواية العربية الجديدة نوعاً من اعادة الاعتبار إلى "الحدوتة" ومقومات السرد التقليدي... هل يعني ذلك استنفاد الحداثة لمخزونها؟ وهل العودة للكلاسيكيّة هي علامة من علامات "ما بعد الحداثة"؟
- هذا الكلام صحيح الى حد ما. فقد صارت العودة إلى "الحدوتة" ظاهرة ملحوظة في الروايات الجديدة... ربما تعب الحداثيون، لكن العودة إلى تقاليد السرد هي حداثة من نوع آخر. الحكاية لن تنتهي، لكن العبرة في الحكاية نفسها. هل هي حكاية سقيمة، او مملة. حكاياتي حكايات مجانين، وشخصيات خارج المألوف، وهي مفارقة للواقع في اغلب الاحيان، وبالتالي، فانها تُقرأ بمحبة، وتجد رواجا جيدا لدى القراء.
تشغل "ترعة المحمودية" في الاسكندرية مساحات واسعة من روايات "ليلة العشق والدم" و"لا احد ينام في الاسكندرية" و"طيور العنبر". ما سر هذه الترعة، واي فيض من الحياة تبثه في لغة السر لديك، وكيف يمكن لروائي ان يرثي ترعة؟
- "ترعة المحمودية" ليست ترعة صغيرة كما يتصور الناس، هي ترعة كبيرة تصل الدلتا بالميناء... وكان انشأها محمد علي في بدايات حكمه، في عشرينيات القرن الماضي، فازدهرت بسببها الاسكندرية، وارتفع عدد سكانها من ستة آلاف الى اربعين ألفاً في عام واحد، ثم وصل العدد الى سبعين ألفاً، ولم ينته القرن التاسع عشر حتى كان عددهم يتجاوز المئة ألف. الترعة وصلت الدلتا والصعيد بالميناء، ونقلت البضائع بسهولة من داخل مصر وخارجها، إضافة الى انها أمدت الاسكندرية بالمياه العذبة بشكل دائم، بعد ان كان الاعتماد على الآبار والترع الصغيرة. لقد أحيت المدينة. وهذه الترعة موجودة من زمان في جنوب الاسكندرية، وكانت جميلة جدا، وكانت متنزها للشباب والبنات وللعشّاق، في كل وقت. فمثلا في عيد شمّ النسيم كانت الترعة تمتلئ بالمراكب والزوارق، وتطفح بالرقص والغناء. كانت مصدرا للبهجة، ومقصداً للغرباء الذي تحملهم السفن باستمرار... وفي منطقة الترعة كانت تكثر العصابات واللصوص الذين يسرقون السفن والقوارب في الليل، ما كان يقتضي ان تتم مطاردتهم، وهذا في مجمله مشهد سينمائي.
والترعة، فضلا عن ذلك، مسكونة بالحكايات. فعندما تقرأ "الجبرتي" ترى كيف كان من يموت اثناء حفر الترعة يدفنونه فيها، كما هو الشأن في قناة السويس، لكن المحمودية كانت قبل السويس، وهي بالتالي اول مظاهر السّخرة في مصر. يقول "الجبرتي" "كان الذي يموت يُدفن مكانه، وكانوا احيانا يهيلون عليه التراب وهو حي، اذا شعر بالتعب". لقد حفر هذه الترعة عدد ضخم جدا من الفلاحين والبؤساء، فهذه كلها اسرار روحية، إنّها مكان غامض ولغز جميل. لكنها بدأت تنهار منذ اواسط الستينات حين جرى التخلي عن التجارة والنقل النهري، وراحت المصانع تلقي مخلفاتها فيها. اما الآن فيجري تنظيفها لتحويلها مجدداً إلى منتزه، وقد قطعوا شوطا كبيرا في هذا المشروع، حيث تبدو بعض مناطقها الان كأنها قطع من اوروبا.
للسينما في الاسكندرية ايضا مرجعيات واضحة في "بيت الياسمين" ورواياتك الاخرى. هل تقصد ان تعيد بعثها من جديد بعد ان انقرض دورها في الواقع؟
- هذا جانب، اما الجانب الآخر فيكمن في انني ابن سينما، فاذا كان هناك من هو ابن حظ، او ابن موت، فأنا ابن سينما، ثقافتي آتية من السينما التي كانت بيتي، وكان من يريد البحث عني كان يجدني في السينما، وعندما كانت أمي تحتاجني كانت ترسل من يجلبني من السينما. واذكر انني كنت في مرحلة الروضة او الحضانة، ولم اكن بلغت بعد سن السادسة، حين كانت ترسلني أمي في الصباح، ثم تأتي لأخذي بعد الظهر. ذات يوم، في العاشرة صباحاً، وكان باب الروضة مفتوحا، ولم يكن يُخشى علينا من السيارات، حيث لم تكن ثمة سيارات في الخمسينات، وكنا اذا رأينا سيارة نصفق لها، دلالة على الدهشة. خرجت من باب الروضة وسرت فاذا بي امام سينما مصر التي تتخذ اسما شعبيا لها هو سينما النيل، لانها واقعة في شارع النيل. دخلت مع الناس الى السينما، وجلست معهم. عمّ الظلام، لم يخف الناس، وكذلك انا، اشتغل الفيلم.. ولم يدر أحد بوجودي، او ربما كانوا يدرون... لا اعلم، لكنني صرت اذهب كل يوم الى السينما، ولم يكن احد يعلم بذلك، كنت مفتونا بالامر، حتى جاءت امي ذات يوم مبكرة من اجل اخذي من الروضة، فبحثت عني فلم تجدني، فحدث ما يشبه الكارثة، حيث ذهبوا الى قسم الشرطة الذي كان موقعه قبالة السينما. واثناء تبليغهم عن فقداني كنت خارجا من السينما. كنت اول طفل في العالم يهرب من المدرسة ويذهب الى السينما.
بعد ذلك، كان هناك ولد كبير في مدرسة ابتدائية يدعى السيد عبدالوهاب، فعهدت أمي اليه ان يرعاني. وسألني السيد ماذا جنيت لتفعل امك بك هذا؟ قلت له: ذهبت الى السينما، فأخبرني بأنه سيرسلني كل يوم للسينما بشرط الا ابلغ امي. كان يأخذ مني مصروفي فيقطع به تذكرة السينما، مع انني لصغر سني كان يمكنني الدخول مجانا. ولم انقطع منذ ذلك الحين عن السينما، وأعتقد أنني لو لم اكن روائيا لكنت سينمائياً او ناقدا للسينما. فالسينما ارشدتني للادب، وعرفت الادب العالمي من خلالها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.