رواية "الأوبرا والكلب" هي أثر نسيج وحده. ولست أقصد بهذا الوصف أثرا فريدا لا نظير له، إنما أقصد ببساطة أثرا لا يشبه السائد والمألوف في الرواية العربية. فقد سخر كاتبها الباحث علي الشوك تضلعه بالعربية وشغفه بالموسيقى ليضع عملا أدبيا هو أشبه بمقطوعة موسيقية كلاسيكية هادئة لا تمنح نفسها من السماع الأول، وتلزم متلقيها بقدر غير قليل من العناية والتركيز والانتباه قبل أن يبلغ خلاصتها المكثفة، ومعانيها الدفينة وأطيافها المحجوبة. والحال أن رواية "الأوبرا والكلب" التي تتحدث عن الحب والموسيقى، منفردين أو مجتمعين، خاطبةً من الشعور أسماه، ومن الفكر أرهفه، ومن الخيال أرحبه. تفتتح الرواية بعرض حالة إيروتيكية حميمة من حالات التهيؤ للحب، وتختتم سردها لرحلة متشعبة في سراب المسميات الموسيقية والأزمنة الثقافية والأمكنة الجغرافية، بإعلان الاستجابة لندائه. وبين حديّ تأجيل الرغبة والإفصاح عنها، نتعرف إلى شخصيات توحدها الاهتمامات الموسيقية عزفا أو سماعا أو بحثا، وتجمعها فيّنا عاصمة النمسا وحاضرة الموسيقى الكلاسيكية من دون منازع. أضفى عليها هذا التوافق طابعا نخبويا ومخمليا قد يتخذ دليل امتياز لها أو انتقاص منها. والمسألة في آخر الأمر هي مسألة ذوق، وكل اشتغال علم الجمال يدور حول الذوق، أي حول تلك العلاقة الحسية - العقلية المتأرجحة بين الإبداع والتلقي. رغبة مؤجّلة مع ذلك ينبغي القول إن رواية "الأوبرا والكلب" تنحرف بدرجة أو أكثر عن تلك البؤرة الوهمية المزعومة للكتابة الروائية، من دون أن يعني هذا بالطبع بخس قيمتها الفنية. فلا وجود لشكل مثالي يحدد ما ينبغي أن تكون عليه الرواية، بل إن ادعاءاً كهذا هجرته النظريات الأدبية المعاصرة التي صارت تنظر إلى العمل الأدبي والفني من زاوية تفرّد لغته وعناصره التكوينية، وليس من زاوية تطابقه مع قانون ثابت للنوع أو الجنس. ولعل أهم ما ينطوي عليه تحول الاهتمام من الجنس الأدبي إلى الأسلوب الأدبي هو ازدياد صعوبة القراءة وتعقّد مهمة القارئ. يمثل إيجاد لغة مشتركة مع القارئ المعيار الأول لجودة الرواية. أما المعيار الثاني، فيكمن في قدرة الرواية على أن تعيش بعد قراءتها حياة ثانية في ذهن قارئها، مبقية في نفسه أثرا يتماهى معه ويغريه بارتياد مسالك جديدة لسبر عالم الإنسان في حقيقته الوهمية أو في وهمه الحقيقي. تجربة كهذه حصلت لي مع "الأوبرا والكلب" 166 صفحة فقد انطبعت في ذاكرتي ملامح شخصيتها الرئيسية على وجه الخصوص، لدرجة حسبت أنني قابلتها وتعرفت عليها مرة في زمن ما عاد يهمني التمييز بين واقعيته وخياليته. ترسم هذه الشخصية ياسمين صورة فتاة مختلطة الأصل أب عربي فلسطيني وأم نمساوية ، تهوى الموسيقى وتمارسها كعازفة، وتهتم بها كباحثة في أوجه التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب. هناك ملامح عدة متداخلة في شخصية ياسمين، فهي، أولاً تعيش منذ البداية أنوثتها كرغبة مؤجلة، ويجذبها عشق دائم للموسيقيين. ففرانز ليست "يجيئها عندما تأوي إلى الفراش، أو في الفجر، بوقاره الجم وتسريحة شعره التي تذكر بقديس، ولباسه أيضا الذي يذكر بكاردينال. إنها تحب رجال الدين، وعلى وجه الخصوص إذا كانوا موسيقيين مثل فرانز ليست الذي يمتلك كل حواسها بالأصوات الجهيرة - ذات الجرس الذكوري - لضربات البيانو في مقطوعاته..." ص: 6. وبقدر ما تتكرر الإشارة إلى الموسيقيين كمصدر لتعويض وإشباع رغبتها المتسامية كامرأة، تتكرر في النص مناسبات إبانة ياسمين عن غريزتها الأنثوية وميلها إلى إزاحتها وطمسها. فالفضول الموسيقي الذي يصوره الكاتب كمرادف للنزعة الذكورية، يدفعها للشعور ب "أنها مأخوذة بحب هؤلاء الرجال. الرجال مذهلون حقا. يتمتعون بقدرات هائلة في كل شيء. يقتنصون أغنية لهارون الرشيد، ويتابعون رحلتها عبر الزمان والمكان، بلا كلل" ص 114. إن سطوة هؤلاء الرجال الملهمين على مخيلتها، تدفعها في واحدة من لحظات تأجج شوقها إلى زوجها، إلى تأجيل اللقاء به هو يعمل منقبا عن الآثار في جزيرة كريت، وهي تقيم بعد انفصالها عنه في فيّنا لتشد رحالها إلى المغرب بحثا عن مصادر تدعم بحثها عن الأصل العربي لأغاني قصة "اوكاسان ونيكوليت" الفرنسية التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى. ثانياً: تتسم شخصية ياسمين بكونها حسّاسة، مترددة ومثالية. والصفة الأخيرة جعلت أمها تصف بحثها بأنه "أشبه بنزهة في يوتوبيا موسيقية مفقودة أو منسية" ص 130. ودفعت ناصر إبراهيم، أستاذ تاريخ الفن الذي وقع في حبها منذ اللقاء الأول الذي جمعهما في المغرب، إلى أن يعلّق على أسئلتها المتشعبة بصدد تأثير الموسيقى الأندلسية على الموسيقى الأوروبية بالقول إنك "لا تبحثين عن قطة سوداء واحدة، بل عن عدة قطط سود، لا في غرفة مظلمة، بل في غابة" ص 79. في سرِّها تدرك ياسمين أنها تنشد الكمال ولهذا تقول "كثيرا ما أتوصل إلى نتائج مهمة في أحلامي، وليت بعض هذه النتائج يتحقق في الواقع" ص 96. ثالثاً: يلازم ياسمين شعور قوي بتأنيب الضمير إزاء أبيها المتوفي، لأنها تجاهلت نصيحته بالزواج من رجل شرقي، لتختار هيرمان الألماني الجنسية كزوج لها. وظل شعورها بالمسؤولية عن وفاته مخيما على الرواية من بدايتها حتى نهايتها، وكان السبب المباشر لإفشال حياتها الزوجية القصيرة. وما انفك شبح أبيها يطاردها ويباغتها ويواسيها حتى ورد ذكره، ضمن سياقات مختلفة، في اثنتين وعشرين صفحة. ولم تتجاوز الأب في التكرار سوى الموسيقى التي وردت في سبع وعشرين صفحة. فعدا ذكره في سياق عقدة الذنب الملازمة لياسمين، تضمنت الرواية صفحات مطوّلة وممتعة وزاخرة بالتفاصيل عن المغامرات النسائية للأب ص ص 63-68، وأخرى عن عودته متسللا، وهو الفلسطيني النازح من أرضه نتيجة قيام دولة إسرائيل، إلى القرية التي ولد فيها. بعد اجتيازه لصعاب ومخاطر جمة أبدعت الرواية في وصفها، بلغ بيت العائلة الذي استحال إلى أطلال يحرسها الكلب قيصر الذي تشبث بوفائه الغريزي بالأرض التي هجرها أهلها ص: 157-164. وشكلت موضوعتا الشعور بالذنب إزاء الأب والبحث عن العلاقة بين النوبة الأندلسية والمتتالية الغربية، العمود الفقري للرواية، وهيأ حلهما لفكّ عقدتها الرئيسية. فلم يكن بوسع ياسمين أن تسوّي عقدة الأب المتأصلة في نفسها دون حسمها لازدواج هويتها لتعلن في النهاية أنها فتاة شرقية ص 165، الأمر الذي مهد الطريق لاستجابتها لدعوة ناصر إبراهيم، الرجل الذي استحوذ عليه حبها. كذلك لم يكن من فعل المصادفة تمكنها قبل ذلك من تذليل بعض الغاز بحثها الموسيقي بمساعدة صديقها سالم صبري العجوز المتقاعد والمولع بالموسيقى وصديقها الجديد ناصر. لنتأمل الآن هذين التحولين المتلازمين. باعترافها بأنها فتاة شرقية عقدت ياسمين مصالحة مع نفسها، هي التي عاشت، كما تظهر الرواية، حياتها كفتاة غربيّة متحررة اجتماعيا وعاطفيا. على ان الشرق الذي اختارت الانتماء له، وكان لها بمثابة روح عائدة وواعدة، هو الشرق الثقافي المنفتح على التاريخ لا الشرق الأسطوري المنغلق على ذاته. أما لحظة الاعتراف، بما له من مفعول تطهيري لضمير الفتاة المعذَّب، فلم يحن أوانها إلا في حضور ذلك الرجل الشرقي الذي هو ناصر، حين اختليا ببعضهما وهما ينتظران دورهما لاقتناء بطاقات الدخول إلى الأوبرا. كان الكلب السعيد قيصر هو موضوع أحاديثهما خلال ساعات الانتظار، حتى عنّ لياسمين أن تروي له حكاية قيصر الأول، أي حكاية كلب عائلة أبيها قبل نزوحها من فلسطين في العام 1948. قصدت ياسمين من سرد الحكاية، التي وصفتها بأنها مؤثرة جدا وهي كذلك بالفعل، أن تصيب ثلاثة مرام" أولا، استعادة الذاكرة الفلسطينية الموشومة بالحنين إلى الأرض وبعذاب المنفى، لتحفظ بذلك أمانة ورثتها عن أبيها. ثانياً، رد دينها المتأخر لأبيها الذي ألح عليها للاقتران برجل شرقي. وثالثاً، إعادة وعي وامتلاك تاريخها الشخصي من خلال حالة بوح مفاجئة لأسرارها ومواطن ضعفها أمام صديقها الجديد ناصر. بعبارة أخرى، كان سرد قصة الكلب أشبه بعلاج نفسي لياسمين، إذ فتحت لها التداعيات الحرة لمكنونات عالمها الداخلي إمكانية تغيير مصيرها. أما التحول الثاني الذي لم يبلغ نقطة الحسم التي أرادتها ياسمين والمتمثلة بالبرهنة بصورة مقنعة على فرضية الأصل العربي للمتتالية والسوناتا والسيمفونية في الموسيقى الغربية، فساعدها، ولو موقتا، على تجاوز شعورها بأنها كمن يحاول البرهان على قضية بديهية. وجعلها، أكثر من ذلك، تعتقد أنها تقدمت خطوة أخرى في بحثها عن حقيقة غائمة وهلامية دون الرجوع إلى شاهد أو وثيقة، مسلمة ببراعة وحدس الموسيقي العجوز سالم صبري في تفسير علاقة التأثير والتأثر بين الحضارات بالرجوع إلى أصل وتاريخ أسماء الآلات والألحان الموسيقية. ولا شك أن في سالم صبري شيء من شخصية الكاتب نفسه الذي اعتمد، في جانب من اشتغالاته المتنوعة، قاموس اللغة كوثيقة لفهم تاريخ الثقافات، جاعلا منه مصدرا أساسيا لتعيين تشابهات المعنى الكامنة وراء اختلافات الألسنة. لكن هل سعت الرواية حقا، بحلها لعقدتها الرئيسية، بلوغ نهاية محددة ؟ بل هل كان الحسم كان أمرا مطلوبا بحد ذاته، ناهيك بتفسيره، بأنه انتصار للشرق بوصفه المرجع والأصل اللذين جسدهما اختيار ياسمين لرجل شرقي ورهانها المسبق على تأثير الموسيقى العربية الأندلسية على نظيرتها الغربية؟ ما ندعيه هو أن همّها انصبّ أساسا على كشف ملامح شخصية ياسمين الأثيرية والمبطنة بقلق وحيرة وتشبث لا حدود له بالسمو والكمال، وذلك بنقل مشاغلها وهواجسها من المستوى الضمني لعالم الذات إلى المستوى الظاهر لعالم الواقع. ووفرت أحداث مثل علاقة الفتاة بأمِّها وبسالم صبري وبناصر إبراهيم وحياتها العاطفية مع زوجها السابق ومشروع بحثها الموسيقي ورحلتها إلى المغرب، السياق اللازم لموضعة واستظهار شخصية ياسمين الهائمة في فضاء يوتوبي مفارق للزمان والمكان. إذا صحت هذه القراءة فسيرادف الكلب في عنوان الرواية معنى الخطيئة المتمثلة في عقدة الأب وموروث المعاناة الجماعية الفلسطينية المطمورين في لا وعي البطلة، في حين سترادف الأوبرا معنى المطهَّر الذي حررها من أعباء الماضي الثقيلة. في سردها لحكاية الكلب لم تقصد ياسمين قتل ضجرها من الانتظار الطويل، أو تأجيل مصيرها على طريقة شهرزاد في " ألف ليلة وليلة "، بل مكثت أمام ذاكرتها الموجعة لتمارس حالة تطهير ذاتي مشحونة بالمعاناة. لقد امتثلت في ذلك الموقف لشروط الاعتراف بحقيقة تمسها في الصميم وإن لم تكن من صنع إرادتها تماماً، مما أفاد ناصر من ناحيتين" فقد تحول فجأة إلى طرف موثوق به من قبل امرأة لم تكترث بالرجال قدر اكتراثها بالموسيقى، وأقترب دون مقدمات من بوابة الفردوس الذي كان يحلم بأن يطأه معها