وزير الصناعة من قلب هيئة الصحفيين بمكة : لدينا استراتيجيات واعدة ترتقي بالاستثمار وتخلق فرصا وظيفية لشباب وشابات الوطن    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    ألوان الطيف    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    رئيسة "وايبا": رؤية المملكة نموذج لتحقيق التنمية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    كلنا يا سيادة الرئيس!    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    القتال على عدة جبهات    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غنى الحلاج والخيام والمتنبي وشعراء القصيدة الحديثة . معتبراً أن "الحب هو المعرفة" وأن "الفن غايته الامتاع" عابد عازرية : أريد العمل بحرية ولا أحتمل ذهنية التحريم !
نشر في الحياة يوم 17 - 07 - 2000

لم يكن ممكناً الا أن يكون مغنياً للشعر، هكذا هو عابد عازريّة يعتبر أن المنحى الابداعي الذي اختاره ويعمل على صقله منذ أكثر من ثلاثة عقود، هو قدره المحتوم. ويوضح صاحب "لازورد" و"نصيب"، أن أعماله ثمرة جهد طويل إذ يقوم بنسجها، فإذا بها أشبه ب "السجاد اليدوي" لا ب "السجاد الصناعي". ويأسف الموسيقي الذي لحّن ملحمة جلغامش، كما غنّى المتصوّفة، والشعر الأندلسي، وشعراء القصيدة الحديثة من أدونيس والسياب إلى أنسي الحاج ومحمود درويش، لكون المدارس الفنية الراهنة تولي الشكل اهتماماً أكبر من اللذة الحسيّة، في حين أن الفن برأيه "متعة داخلية"، يخاطب الحواس بقدر ما يخاطب العقل... كما أنّه "عمليّة توحّد مع غموض الوجود". وبمرارة يعترف الفنّان السوري الذي يعيش في باريس منذ 33 سنة : "لا أستطيع العمل في البلاد العربية لان طريقة الحياة فيها لا تزال على حالها من التحريم والتحليل".
في بحثه المتواصل عن آفاق جمالية وروحانية جديدة، يستوحي عابد عازرية، أحد أبرز المغنين والمؤلفين الموسيقيين العرب في أوروبا، قصائد المتصوفة وشعراء العرب القدامى والمعاصرين، فيعيد احياء تلك القصائد، انطلاقاً من مناخات نغميّة تجمع بين العراقة الحضاريّة والانتماء إلى الأزمنة الحديثة. وتمتاز موسيقاه ببعدها التأمّلي، الفلسفي، القائم على المنمنمات النغميّة، والباحثة عن حالة من النشوة والوجد والاشراق. وفي أعمال هذا الموسيقي والمغنّي السوري تلتحم الآلات الشرقية والغربية في تناغم تام ينطلق معه مغنياً بصوته العميق، فيخلق حالة جديدة، ليس لها أي معادل في الموسيقى العربية المعاصرة. على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً، هي فترة اقامته في باريس، اصدر احدى عشرة اسطوانة آخرها كانت "رباعيات الخيّام". في مناسبة صدور الأسطوانة الأخيرة، قصدنا الفنّان في منزله في حي مونمارتر الباريسي العريق، وكان هذا الحوار.
قررت السفر الى باريس في اواخر الستينات، وانت في الثامنة عشر من العمر لدراسة التأليف الموسيقي، ولم تكن قد اتبعت اي دراسة موسيقية قبلها، ولم تكن تتحدث الفرنسية.. ما الذي دفعك الى اتخاذ قرار كهذا في هذه السن المبكرة؟
- دراسة الموسيقى شفوية كانت ام مكتوبة تبدأ في سن مبكرة. بيئتي لم تكن تسمح بشيء من هذا القبيل، واهلي كانوا بسطاء، أميين. لكن بفضل امي التي كانت تصطحبني في صغري الى كل الاعياد الدينية، تشرّبت اجواء حلب الموسيقية الشديدة التنوّع. بدأت دراستي الموسيقيّة إذاً، وأنا "عجوز" في التاسعة عشرة، وربّما ساهم ذلك في جعلي اكثر حرية في اختيار ما احبه من مقطوعات، لا ما كان يقنعني الاساتذة به، وحين غادرت حلب، كان اصدقائي على يقين من ذهابي الى الولايات المتحدة لدراسة السينما. كنت مدرّساً للعربية وفي الوقت ذاته أواصل دراستي الأكاديميّة، ضمن مجال الأدب العربي، في بيروت. وكان الشعر والفن متلازمان في التركيبة العضويّة لشخصيّتي، لذا لم يكن ممكناً الا أن اكون موسيقياً ومغنياً للشعر. فهذا العالم الموسيقي، اما ان يكون داخلك او لا يكون. "بعض الناس يمارس الموسيقى، وبعضهم الآخر يمكن اعتباره موسيقياً"، كما قال الموسيقي الفرنسي سانت كولومب.
أين موقع مؤلفاتك من الموسيقى الشرقية والغربية؟ كيف يمكن تصنيفها؟
- انا نفسي لا اعرف! الموسيقى هي موسيقى، لا شرقية ولا غربية. كل مشروع موسيقي انجزه يدور حول موضوع ادبي، هذا لا يمنع تأليفي مقطوعات لا علاقة لها بالنصوص، كموسيقى الافلام والمسرحيات، بيد ان المهم لديّ هو الارتباط بالكلمة، بالنص، خصوصاً ذلك الذي لم يكتب ليُغنى، خلافاً لما هو سائد. اسعى الى اكتشاف النصوص التي كتبت على مدى عصور عدة، تلك التي تعكس لحظات انسانية ومشاعر حقيقية. في قصيدة "حمّى" للمتنبي وهي الوحيدة التي لحّنتها من شعره، نجده انساناً متألماً، صغيراً امام المعاناة، اختفت السمات التي ملأت شعره، كالكبرياء والاعتزاز والفخر... ما ارمي اليه هو جمع الرؤية الفنية القديمة لذاكرة شعب، الى الرؤية الموسيقية المعاصرة.
انسانية المتنبي في معاناته هي التي جذبتك، أهو الضعف الانساني ما يحرّكك؟
- ليس ضعفه ما جذبني وانما حقيقته، كل ما قاله المتنبي في شعره من مديح وهجاء وفخر كانت اشياء منفصلة عنه. كان صاحب صنعة مذهلة، واستعمل الشعر لغايات وأغراض محددة... ولكنه في "حمّى" استعمل نفسه اذا جاز التعبير، وكشف معاناته الحقيقيّة، فجاءت حالته الشعرية تلك، من أصدق ما كتب. بهذا المعنى يمكن اعتبار المتنبّي، بشكل عام، نقيض المعري الذي كان صادقاً في كل اشعاره، وعبّر عن نفسه وعما يجول فيها، وكان قول الحق هدفه، وهو امر نادر في التاريخ الشرقي. وابو العلاء سبق بيتهوفن الذي قرر هو الآخر ان ينجز اعمالاً نابعة من ذاته، وليس بناء على طلب من سلطة مدنيّة أو روحيّة، كما جرت العادة آنذاك. حرية الفنان في الاختيار هي الاساس، فما أصعب أن يكون هذا الأخير "شحاذاً"، متسوّلاً على أبواب أصحاب الجاه والنفوذ...
تستوحي الاساطير السومرية ملحمة جلجامش والشعر الصوفي والعربي القديم والمعاصر، واخيراً رباعيات الخيّام، وتقود مستمعك في أقاليم الدهشة والغرابة، فالى اين تريد الوصول به؟
- الى المتعة، فغاية الفن اولاً واخيراً هي الامتاع. الآن تهتم المدارس الفنية بالشكل اكثر من اهتمامها بالمتعة الحسيّة، الفن كالطعام والشراب، كالحواس، لذّة حسيّة وليس فقط عقلية. عندما استمع الى باخ لا أسمعه "بعقلي" فقط، بل ثمة متعة داخلية ايضاً. لنصل الى هذه المتعة علينا ان نعرف هذه الموسيقى ان نفهم قواعدها واصولها.
وهل تعتبر الاحاطة بالقواعد والأصول، شرطاً أساسياً لفهم موسيقاك وتذوّقها والاستمتاع بها؟
- كما يقول المتصوفة "الحب هو المعرفة" وليس حالة عاطفية. كلما ازدادت معرفتك للآخر، كلما ازداد تعلّقك به... بينما الحالة العاطفية تبرد وقد تزول، وكما أتت سريعاً ستذهب سريعاً. والكائن كالموسيقى قد يكون في متناولك ولكن اذا اقتربت منه اكثر تجد فيه تراكيب بعيدة وغامضة والفن السهل الاستهلاكي السائد هو فن زائل. نعجب بطقطوقة في سهرة ثم ننساها سريعاً، لأن لا ابعاد داخلها. ولكن الفن الحقيقي يبقى. ثمة محطات صغيرة في حياة الفنان هي التي تخلق اللحظات الكبيرة في مسيرته. في الفن التجاري لا محطات ولا لحظات. جاء ليُعلل ويرمي، والفن "المشغول" القائم على عمل ومعرفة فنية، قد نمتلكها او ندركها او نحسّ بها على الاقل، كلما استمعنا اليه ازداد اعجابنا به. والدتي كانت أمية، ولكنها كانت تملك ثقافة شفوية حيّة، كانت يقظة، واليقظة هي الثقافة والمعرفة هي حالة اليقظة الدائمة. قد يعجب بفني جمهور ياباني اكثر من جمهور مصري على سبيل المثال، ولكن فئة معينة في مصر، اذا امتلكت الوسائل والامكانات للاستماع اليّ، قد تحسّ بي اكثر من اليابانيين. بشكل عام، قد يصل فني الى اليابان اكثر لأن لديه المعرفة اللازمة.
خلال 33 عاماً اصدرت احدى عشرة اسطوانة فقط، واسطوانة "نصيب" المُهداة الى الاندلس عن قصائد لشعراء اندلسيين، بيع منها 20 الف نسخة، بعد انتظار دام 12 سنة. أنت فنان على حدة في العالم العربي...
- كتبت "نصيب" في فترة وجيزة. وكانت فكرة اصدار اسطوانة باللغتين العربية والاسبانية تراودني وعندما عرضت المشروع مع آخر بالايطالية غناء اوبرالي على المنتجين رفضوه كلهم وكأن لسان حالهم يقول: "انت عربي فما شأنك بهذه القصص؟". هكذا بقي العمل في حوزتي 12عاماً. وكنت اعود اليه باستمرار أُضيف هنا وأحذف من هناك، وهكذا سيكون حالي لو بقي في صحبتي 50 عاماً. الآن وبعد نجاح هذه الاسطوانة التي أغني فيها بالعربية ويرافقني بالاسبانية المغني سيرج غويراو، وبعد كثرة الحفلات المخصصة لأغانيها، يطالبني المنتجون بعمل آخر مشابه. ولكنني ارفض. اعمالي ليست مثل "رامبو - 1"، "رامبو - 2"، لا احب التكرار الذي ينتج الملل. الفنان ينجز عملاً واحداً في حياته، وفيما تبقى يسعى للتقدم بالموسيقى ولو مليمترات ضئيلة. الهدف من الفن والعلم جعل الحياة تتقدم. ولو قدمت فناً جديداً، بينما الحياة لا تزال تسير على وتيرة الماضي، فسيعني ذلك وجود انفصام في الشخصية. الى هذا يرجع عدم تمكني من العمل في البلاد العربية وطريقة الحياة فيها لا تزال على حالها من التحريم، والتحليل. هنا استطيع ان انتج فناً معاصراً، استطيع ان اعمل بحرية، وهناك "حركة" حول نتاجي، صحافة وحفلات وبرامج… ولا احد يطالبني بكتابة اغنية ما لمناسبة سياسية معينة.
حفلاتك نادرة في البلاد العربية، فهل تباع اسطواناتك هناك؟
- عندما يقال لي: بيع ثلاث آلاف اسطوانة لك في بلجيكا، بامكاني أن استنتج عدد مستمعيّ في هذا البلد. لكن ليس لديّ ادنى فكرة عن الوضع في البلاد العربية، وما هو موجود هناك من تسجيلاتي هو "قرصنة" لا حقوق لي فيها. اما الحفلات بمعناها الحقيقي فغير موجودة، انما مهرجانات تقيمها الدول ويجلبون لها فرقاً رخيصة، تأتي نتيجة اتفاقات ثقافية، لا مسارح فنية تقوم بتنظيم العروض وشرائها، والمغنون عندنا مغنو أعراس وأعياد. انا لا اقبل بالعمل السهل واعمالي هي ثمرة جهد طويل اقوم بنسجها وحبكها، والفرق بينها وبين الاعمال الاخرى كالفرق بين السجاد اليدوي والسجاد الصناعي. لا اصدر اسطوانة لعمل كتبته حديثاً. اظل اعيد النظر فيه حتى ينضج وحتى يأخذ حقه! لديّ الآن مشروع بدأت فكرته في 1977 وانجزت قسماً منه في 1982 وحالياً اعمل فيه ليل نهار، قد اصدره قريباً، او بعد سنوات ربما يضحك. لكن القدرة لا تنقصني لتأليف مقطوعات في فترات وجيزة، اذ حين يُطلب مني موسيقى تصويرية للافلام، لا استطيع القول: انتظروني سبع سنوات!
حين تتحدث عن "الفن الاستهلاكي" و"مغني الاعراس"، هل تشمل هذه التسمية كل الفن العربي ومطربيه؟ أليس هناك اليوم ما يندرج في خانة الموسيقى القيّمة والفنانين الحقيقيين؟
- ارجو ذلك، والا لكان الوضع كارثة، اعتقد أن هناك فنانين ولكنهم في الخارج. الاثرياء الجدد يأتون ب "مرقصي سعادين"، هذا هو السائد الآن. ليس هناك نخبة في المجتمع العربي حالياً. في الماضي كانت النخبة تستمع الى عبده الحامولي وام كلثوم وعبدالوهاب وكان الشعب يقلدها. ومقهى الشهبندر في حلب كان يستقبل اعظم مغني العصر، وكان الغناء فيه كالامتحان بالنسبة إليهم، من نجح فيه اثبت مقدرته. وحين جاء عبدالوهاب للغناء فيه، كان عدد المستمعين ضئيل جداً، فاستغرب. وعندها قيل له بأن هؤلاء هم النخبة التي ستعطي رأيها للباقين، التي ستكون القدوة للآخرين. النخبة الآن لا ذوق لها.
أوصاف شتى تطلق عليك في الصحافة الأوروبية والأميركية: موسيقي المثقفين، الموسيقي المثقف، السوري الباريسي، السوري الحلبي، المواطن المونمارتي، سلطان مملكة الخيال، ماذا تضيف؟ وأيها الأكثر تعبيراً عنك؟
- كلها تعبر عني وعن تناقضاتي. التناقضات هي التي تعطي الحيوية لعمل الانسان. يمكنني أن أضيف اليها، عاشق التصوف، عاشق جلغامش... العاشقين كثر، والسؤال هو: كيف أفيد عشقي؟ تبدو أهمية حبي للأشياء من مقدار نفعي لها. متى أخرجت نصوصاً من السُبات، وقدمتها موسيقياً بشكل عصري قابل للتداول، أكون قد تمكنت من خدمتها وتقديم المتعة عبرها للجمهور. عندما يطالبني هذا الجمهور ومنذ 1973في كل حفل بغناء قصيدة الحلاج "يا نسيم الروح قولي للرشا/ لم يزدني الوِردُ إلا عطشا"، فهذا معناه أنّي نجحت في حدود امكاناتي كفنان وانسان، في خدمة التراث العربي العريق الذي تتحدّر منه تلك القصيدة. وهنا يكمن مجال عملي ومدى أهميته.
من هو جمهورك؟ وماذا تقول في النقد الذي يوجه للفنانيين العرب العاملين في الغرب من أن نتاجهم لأهل الغرب؟
- أنا موسيقي أؤلف لكل البشر، أفضل ان يعجب الآخرون بموسيقاي لأنهم احسوا بها، وليس لأنني من عشيرتهم. العرب يقولون "موسيقي غربي"، بينما في الغرب يذكرون عشيرتك والحارة التي جئت منها. كل هذا ثرثرة فارغة! العمل هو القيمة الحقيقية. ومع مرور الوقت يتطور. الآن، وبعد 33 سنة بصحبة الموسيقى استطيع القول إنني بدأت أفهمها وأتقدم فيها، ولا أقصد بالفهم هنا حفظ المعلومات بل فهم الغموض، الفن هو عملية توحد مع غموض الوجود وكلما ازداد ادراكي لهذا الأمر كلما ظهر ذلك في نتاجي، والناس، في حاجة الى ظروف معينة وأسس وقواعد سليمة للمعرفة، كي تتقبل ذلك. يلزمنا مجتمع هادئ مرفه مادياً ومعنوياً، واستقرار سياسي وحرية وانفتاح على الآخر. الشرق الأوسط لم ينل الاستقرار منذ ألف سنة.
كيف تؤلف موسيقاك؟ وايقاعاتك التي يعزفها عرب عازفو الناي والقانون والمزاهر والطبلة وفرنسيون عازفو الكمان والفيولونسيل؟
- عندما أكتب الموسيقى أضع في اعتباري العازف. اكتب لفرقة موجودة، كما كان يحصل مع موسيقى الباروك بينما كان مؤلفو الموسيقى الكلاسيكية يكتبون اللحن، ثم يبحثون عن الفرقة الموسيقية لعزفه. فحين يتغير العازف، تتغير الحساسية وطريقة العزف، ولذلك قبل أن اكتب العمل، من الضروري ان اعرف من سينفذه.
ما موقعك على خريطة الموسيقى العالميّة؟
- قبل أن تصدر اسطوانة "توابل" في اميركا، التقيت المدير العام للشركة المنتجة، واخبرني انهم لا يصدرون أي البوم قبل ان يسمعه "الكبار" هؤلاء الذين أثّروا في موسيقى القرن العشرين، وقال انهم أعطوا رأياً ايجابياً في عملي، وبأنني موسيقي أعمل على مستوى العصر. شعرت بالاستحياء كولد صغير، وأحسست آنذاك بأنني قد "قبضت راتبي" كما يقال. فآلاف الاسطوانات التي تباع من تأليفي، والأيدي التي تصفق، لا يمكن أن تسعدني كتقدير هؤلاء العظام الذين يعرفون ويسمعون "جيداً".
ولكنك تبخس الجمهور حقه بهذا الرأي، وهو الذي اختار القدوم للاستماع إليك في حفلاتك؟
- النخبة قالت رأيها! الجمهور الذي يأتيني الآن أخذ مني انتظاراً طويلاً. في بداياتي لم يكن عدد الحضور في حفلاتي يتجاوز العشرات. الآن سأحيي حفلات لخمس ليال متواصلة في باريس. هذه هي المرة الأولى بعد ثلاثين عاماً! لقد أخذ ذلك النجاح مني عمراً! أذكر في هذا الخصوص ما قاله لي زكريا تامر "في بلادنا كنت مجرّد عامل، ونشرت قصة قصيرة في مجلة شعر، وعلى الفور، نصّبت ملك القصة القصيرة... لقد قضوا عليّ". النجاح خطر في البلاد العربية. اما ان تصعد بسرعة أو لا تصعد أبداً. اما سيّد واما عبد! لنجني ثماراً أفضل علينا العمل بهدوء وصبر.
أصدرت اخيراً "رباعيات الخيام" ونال نجاحاً لافتاً، وقد طبقت فيه أسلوباً جديداً باستخدام رباعي وتري كموسيقى الحجرة. كم سنة أخذ منك هذا المشروع؟
- ضاحكاً، كالعادة بدأت به قبل سنوات في بداية التسعينات، وقرأت احدى عشرة نسخة من الرباعيات كما تم تعريبها، ووجدت معظمها آنياً ومخالفاً لروح النص، ثم اخذت أخيراً ترجمة البستاني. وموسيقياً كانت لدي رغبة دائمة في العمل مع رباعي وتري. أردت اخراج عمل مغاير للمألوف باستخدام نص فارسي، وموسيقى الحجرة. أحب تناول العمل المكتوب، وأخذه صوب وجهة أخرى، أي تحويل مساره من دون تشويهه بالطبع. عندما قدمته على أحد المسارح اللندنية جاءني بعض العرض ثلاثة من الايرانيين، وعبروا عن سعادتهم لسماع الرباعيات بالعربية، وليس بالفارسية اذ كانت عندها ستتحول، برأيهم، الى نص بكائي تراثي أو تقليدي. قالوا بانني عصرنت النص موسيقياً، وكأن عمر الخيام قد كتبه هذه الأيام، ولكن ذلك لم يلغ خصوصيته وشرقيته.
في حلب هل كنت تستمع إلى الموسيقى الشرقية؟
- كنت أهرب منها! حلب مخيفة على الصعيد الموسيقي. كنت أشعر بأن أهلها لا يصغون للموسيقى، على خلاف ما هو شائع عنهم، وانما يعيّدون معها! في الحفلات التي حضرتها صغيراً، وفي ما بعد، وجدت انه كان من النادر للمغنين والموسيقيين متابعة "برنامجهم" فالجمهور هو الحكم، وهو الذي يطالبهم بهذه الأغنية أو تلك. "السميعة" الحقيقيون في سورية هم أهل حمص واللاذقية، انهم "جمهور خطير!" كما ذكر لي صباح فخري وفنانون آخرون. وهناك سبب آخر لعدم استماعي إلى الموسيقى التراثية تلك الأيّام، إذ كنت أفضّل الموسيقى الخفيفة في مطلع شبابي. وقد تكون طريقة أهل حلب في الاصغاء هي التي نفرتني من الموسيقى العربية آنذاك.
نراك متمسكاً باللغة العربية وآدابها على رغم اقامتك الطويلة في فرنسا...
- لا أعرف غيرها! وكل كلمة فيها مجد وعظمة، كما ينطقها مجودو القرآن الكريم الذين يهتمون بمخارج الحروف والألفاظ. اشعر بأن عليّ ان أنطقها كهؤلاء. أعمالي وألحاني وقراءاتي دائماً باللغة العربية، فهي اهتمامي منذ صغري، وأينما كنت. وهذه التعلق باللغة لا علاقة له بالمكان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.