تظل أم كلثوم جزءاً لا يتجزأ من وجدان الشعب المصري والعربي على امتداد القرن العشرين كله. وستظل في الوجدان الى زمن طويل كما برهنت كل الفعاليات حولها، وآخرها مسلسل "أم كلثوم" الذي لفت الانظار الى تجذر كوكب الشرق في كيان الناس. واذا كان متعسراً الآن الاستماع الى اسطواناتها الاولى بسبب المادة التي كانت تصنع منها هذه الاسطوانات، فإن اجهزة التكنولوجيا الحديثة تحفظ صوتها إلى الأبد. وإذا كان صوت أم كلثوم مؤسسة قائمة بذاتها، وإذا كان نقل هذا الصوت عبر الزمن أصبح ممكناً، إلا أن السؤال المفتوح يبقى عن تكريم الدولة لها، خصوصاً أن هناك استعدادات للانتهاء هذا العام من متحفها الذي قررت وزارة الثقافة المصرية اقامته في قصر المانسترلي على النيل مباشرة قريباً من وسط القاهرة. لقد بدأ تكريم أم كلثوم ربما منذ يوم رحيلها في شباط فبراير العام 1975 وهو مستمر حتى الآن، وتابع عشاقها هدم فيلتها عام 1978 بعد خلاف بين وزارة الثقافة والورثة تم حسمه لمصلحة أحد المقاولين. وتنتصب مكان فيلتها الآن عمارة سكنية كشاهد على الفشل الذريع في تكريم هذه الفنانة الفذة. لقد دارت مفاوضات بين الورثة ووزير الثقافة آنذاك الراحل يوسف السباعي وتمسك الورثة برقم خمسة ملايين جنيه بينما لم تستطع الوزارة عرض مبلغ أكثر من مليون جنيه وأوقفت معاول الهدم المفاوضات التي كانت وصلت الى طريق مسدود. إلا أن المسؤولين الحاليين في وزارة الثقافة يعدون ب"متحف" سيكون مركزاً علمياً وفنياً متكاملاً عن كوكب الشرق. ويحكي رئيس دار الكتب والوثائق المصرية سميرغريب قصة هذا المتحف الذي بدأ التفكير فيه منذ 11 سنة، ففي العام 1989 حلت الذكرى المئوية لميلاد طه حسين والعقاد والرافعي والمازني والذكرى الرابعة عشرة لرحيل أم كلثوم فقام سمير غريب بإعداد معرض "مئة عام من التنوير في مصر" احتل كل قاعات مجمع الفنون في الزمالك، وضم المعرمقتنيات شخصية لهؤلاء الراحلين العظام تم جلبها من عائلاتهم وأصدقائهم، وتصدر المعرض "بوستر" شهير صممه الفنان الدكتور صلاح عناني خصيصاً. كان جناح أم كلثوم في معرض "مئة عام من التنوير في مصر" ملفتاً حيث عرضت نماذج من فساتينها ومن أدواتها الشخصية النظارة، القلم، مذكرات بخط اليد... الخ كانت هذه المقتنيات بحوزة السيدة فردوس بنت أخت أم كلثوم. فعندما تم بيع الفيلا وزعت المقتنيات الشخصية على الورثة وكانت الفساتين وأثاث الفيلا من نصيب السيدة فردوس التي نقلت هذه الاشياء الى شقتها. ومنذ رحيل كوكب الشرق والأفكار بل والمحاولات لتكريمها لم تتوقف،، بدأها المهندس الدكتور الراحل علي نور الدين نصار وآخرون معه أسسوا جمعية لأصدقاء أم كلثوم ومؤسسة باسمها، وحصلوا عن طريق محافظ القاهرة على قطعة أرض على نهر النيل لبناء متحف ومؤسسة خيرية باسم أم كلثوم بجوار المسرح العائم. وقام الدكتور نصار بوضع تصميمات معمارية للمتحف، لكن مشكلة التمويل عطلت المشروع ومات الدكتور نصار ومات المشروع معه. ويقول سمير غريب ل"الوسط" إن "فكرة المتحف الجديد بدأت بقرار من وزير الثقافة فاروق حسني ينص على تحويل قصر المانسترلي إلى مركز ثقافي وتخصيصه لصندوق التنمية الثقافية بدلاً من هيئة الآثار. كنت مديراً للصندوق وعندما ذهبت لاستلام القصر وجدت بجواره مبنى صغيراً تشغله جمعية أهلية للموسيقى العربية، ولم أتصور إقامة مركز ثقافي في القصر من دون أن يتبعه هذا المبنى الذي يمكن أن يؤثر على نشاط القصر. فأتفقت مع الجمعية على تسليمي المبنى ودياً ووعدتهم بالسماح لهم بممارسة النشاط في القصر بعد افتتاحه. لقد ذكرني هذا المبنى بمشروع متحف أم كلثوم وعرضت الأمر على وزير الثقافة الذي وافق فوراً واقترح اثنين من المهندسين الايطاليين المتخصصين في عمارة وديكورات المتاحف الفنية. وبالفعل أعدا المشروع الهندسي الابتدائي للمتحف وتم تشكيل 3 مجموعات عمل، الأولى مع المهندسين الايطاليين لتحضير الرسومات المعمارية. والثانية لجمع مقتنيات أم كلثوم تم نشر اعلانات غير مدفوعة في الصحف تناشد كل من لديه مقتنيات تخص أم كلثوم الاتصال بصندوق التنمية الثقافية. وفي هذا الإطار وافق رئيس مجلس إدارة مؤسسة "أخبار اليوم" إبراهيم سعدة على ان تهدي المؤسسة "بروش" الذهب الخاص بأم كلثوم والذي قدمته للراحل الصحافي مصطفى أمين تبرعاً للمجهود الحربي. واحتفظ به أمين في خزانة المؤسسة. ومجموعة العمل الثالثة اختصت بحصر وجمع الكتب والمقالات والافلام والاغاني والموسيقى ووضعها على برنامج كمبيوتر، والآن، فإن كل مقتنيات المتحف موجودة في مخازن صندوق التنمية الثقافية باستثناء "البروش" الذهبي وفساتين أم كلثوم التي ستقدمها السيدة فردوس قبيل الافتتاح، وكذلك فإن برامج الكمبيوتر تم الانتهاء منها، كماحصل الصندوق على أفلام نادرة فيديو 16 و35 مللي تبرع بها الدكتور محمد حسن الحفناوي ابن زوج أم كلثوم ومحمد الدسوقي ابن اختها. والمتحف كما هو مخطط له سيكون مكاناً لدراسة فن أم كلثوم وعرض ما تبقى من مقتنياتها، ومرجعاً أساسياً للباحثين في فنها وتراثها. ويقول وزير الثقافة فاروق حسني ل"الوسط" إن المتحف سيفتتح في شباط فبراير المقبل في الذكرى 26 لرحيل أم كلثوم، ويعترف حسني أن أم كلثوم لم تنل حقها كما ينبغي في التحليل والدراسة حتى الآن، فإذا كانت أم كلثوم عاشت بسبب صوتها الجميل في وجدان الناس فإن اغانيها شعراً وموسيقى في حاجة للتحليل لنعرف دور هذه الاغاني في تطوير الاغنية العربية ولا شك فقد كان لها هذا الدور. وأكد الوزير ان متحف أم كلثوم سيتيح للباحثين والدارسين وعشاق أم كلثوم فرصاً لدراستها والاستمتاع بذكراها وبعصرها كله أم كلثوم : كيف بُنيت الأسطورة ؟! الوكيلة الأهم التي ساهمت في بناء أسطورة أم كلثوم هي السيدة المحترمة التي أسمها أم كلثوم. هذا ما استخلصته الباحثة الالمانية كاتارينا بوم التي تعمل منذ ثلاث سنوات في جمع مادة رسالتها للدكتوراه عن أم كلثوم واسمهان وعبد الحليم حافظ كأساطير في الشرق. وكاترينا المختصة في الأدب والتي تعمل في إطار فريق بحثي من جامعتي بامبرج وايغلانجن الالمانيتين سبق أن حصلت على الماجستير في رسالتها عن مذكرات الرائدة اللبنانية عنبرة سلامة الخالدي ستصدر ترجمة هذه الرسالة قريباً عن المجلس الاعلى للثقافة في مصر والتي ترجمتها عبير عزالدين. تقول كاترينا: "إنني معجبة جداً بموسيقى أم كلثوم واسمهان وعبدالحليم، وسأعتمد في رسالتي للدكتوراه على مذكرات أم كلثوم بصوتها التي سجلها وجدي الحكيم وكتاب "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" لمحمود عوض ومذكراتها المنشورة في مجلة "آخر ساعة" عام 1937 و1938 بتوقيع "ه.م" الذي قد يكون الصحافي محمد التابعي صاحب المجلة وقتذاك. كما سأعتمد بالنسبة إلى عبدالحليم حافظ على مذكراته التي قد يكون الصحافي منير عامر كاتبها، وبالنسبة إلى اسمهان اعتمد على كتاب "اسمهان تروي قصتها لمحمد التابعي وتشير كاتارينا الى صوت أم كلثوم الساحر ولاحظ أن أم كلثوم مفهومة في كل العالم العربي وحتى الاسلامي إلى درجة أن صديقاً باكستانياً قال لها إنهم كانوا يجدون صوت القاهرة بصعوبة في الراديو ليستمعوا إلى أم كلثوم. وقالت كاتارينا إن أم كلثوم امرأة صنعت نفسها ونجحت في المدينة وهي القادمة من عمق الريف ثم أخذت خبرات من كل من احتكت بهم، لقد فهمت أم كلثوم كيف تتوازن وهو ما لم تستطعه اسمهان مثلاً.