أمر القاضي الأميركي الفيديرالي توماس جاكسون بتجزئة الشركة العملاقة ميكروسوفت إلى شركتين منفصلتين، بسبب موقع الشركة الاحتكاري في سوق الكومبيوتر الشخصي وبرامجه، على رغم ان الجميع كان يتوقع صدور قرار قاس يتعلق بقمع الممارسات الاحتكارية التي ثبتت ممارستها من قبل شركة بيل غيت، وتحدث بعضهم عن بنود جزائية قد تبلغ المليارات من الدولارات، غير ان تحول هذه الاحتمالات إلى حقيقة قضائية في طريقها إلى التنفيذ الاجرائي لها وقع شبيه بصدمة "صدق أو لا تصدق"! ذلك ان ما كان محتملاً استناداً إلى قوانين منع الاحتكار الأميركية، الأقوى والأكثر صرامة في العالم، أصبح واقعاً ومن الصعب ان تلغيه طلبات استئناف الحكم التي قدمها محامو أغنى أغنياء العالم مؤسس وصاحب أكبر حصة في الشركة الشهيرة. والسؤال الذي يمكن طرحه في ظل أجواء هيمنة "التفكير الاقتصادي الربحي" الذي يروّج له النظام العالمي الجديد هو: لماذا تتم تجزئة وإضعاف شركة عالمية ضخمة تمثل الثورة التكنولوجية بكافة أبعادها، وتمتد شبكتها التسويقية لتلف العالم بأكمله، وطالت كافة الشركات بخدماتها ودخلت كل مكتب وبيت عبر الانترنت؟ إن السؤال بحد ذاته يفي بالجواب. الأخطبوط فشركة ميكروسوفت التي باتت شركة عملاقة في مجال الحاسوب الشخصي يمكن تشبيهها بالاخطبوط أكثر من أي شيء آخر. وقد دفعتها قوتها المتزايدة إلى محاولة وضع يدها على صناعة برامج الانترنت وشبكتها... والتجارة الالكترونية المتزايدة. ولكن هذه الأسباب الكثيرة لم تكن وحدها وراء تحرك القضاء تحت شعار محاربة الاحتكار، بل ان ما يجعل وضع الشركة غير قانوني هو طريقة وصولها إلى هذا الواقع الاحتكاري والأساليب التي اتبعتها لإزاحة منافسيها، سواء من الأشخاص أم من الشركات، عن طريق دفعهم إلى الافلاس. وعلى رغم اعتقاد بعضهم، وعلى رأسهم الملياردير بيل غيت، بأن هذا تحصيل حاصل في ظل اقتصاد ليبرالي واقتصاد السوق، حيث يأكل الكبير الصغير، ويقضي القوي على الضعيف، إلا أن قوانين حماية المستهلك ومنع الاحتكار وضعت منذ مطلع القرن في الولاياتالمتحدة لكبح جشع كبار الصناعيين وردع التكتلات الاقتصادية الكبرى، ومنعها من القضاء على التنافس وحرية الابداع وحرية المستهلك في اختيار أفضل "ما يراه مناسباً له" في سوق يسودها التنافس. إن الاتهام الأساسي الموجه إلى شركة ميكروسوفت هو قضاؤها على كل منافسيها وامساكها ب94 في المئة من سوق البرامج المخصصة لتشغيل الكومبيوتر عبر نظام تشغيل "دوس" سابقاً و"ويندوز" حالياً، والبرامج المكتبية المخصصة للعمل على هذين النظامين مثل برنامج "وورد" و"إكسيل". والواقع أن ظروف التطور السريعة للكومبيوتر وانتشاره في العالم ليصبح بمتناول الجميع، هي من العوامل التي ساهمت بدفع شركة بيل غيت إلى هذا الموقع الاحتكاري، كما ساهمت ميكروسوفت بدورها بتسريع عملية انتشار استعمال الحاسوب الشخصي "بي سي" PC، ويعود ذلك إلى مطلع السبعينات، حيث كانت شركة "آي. بي. إم" الشهيرة تبحث عن نظام تشغيل للكومبيوتر الشخصي بي سي الذي انطلقت بتصنيعه لحاقاً بشركة "ابل"، وكان القيمون على شركة "آي. بي. إم" يعتبرون ان تقنية الآلة أهم من تقنية برامج التشغيل. ووقع اختيارهم على شركة مغمورة صاحبها بيل غيت، تصنع نظام تشغيل "دوس"، الذي بات نظام تشغيل جميع كومبيوترات الشركة العملاقة. ومع انتشار استعمال الكومبيوتر الشخصي، أعطت شركة "آي. بي. إم" حقوق تصنيع ال"بي سي" إلى العديد من الشركات في العالم، خصوصاً في آسيا، وهذا ما ساهم في ازدياد شعبية الكومبيوتر الشخصي وعرف بسوق "الكلون" المنسوخ، وهو ما لم تفعله شركة ميكروسوفت بالنسبة إلى نظام التشغيل، وباتت الشركات التي ترغب بتصنيع آلات "آي. بي. إم" ونسخها، "مجبرة" على شراء نظام تشغيل ميكروسوفت بحكم الضرورة التقنية، وبات المستهلك الذي يشتري كومبيوتراً شخصياً "مضطراً" لشراء برامج شركة ميكروسوفت. وهذا ما دفع "كتّاب البرامج" المخصصة لبرامج وألعاب الكومبيوتر إلى الاكتفاء بالعمل لنظام.... ميكروسوفت فقط... وساهمت هذه الحلقة المفرغة التي تصب كلها في مصلحة شركة ميكروسوفت في إلغاء المنافسة كلياً وحدها شركة ابل استطاعت مقاومة هذا المدّ وباتت الآلة وصناعتها والبرامج وكاتبوها مرتبطين كلياً بنظام تشغيل ميكروسوفت، وكذلك حال المستهلكين. ومن هنا القوة الكبرى التي جعلت من غيت أغنى أغنياء العالم في أقل من 15 سنة. وفي ظل هذا الصعود الخارق له ولشركته، اختفت شركات كثيرة من السوق، إما افلاساً وإما لأن أصحابها أصبحوا موظفين لدى شركة ميكروسوفت. أسلوب منظم للسيطرة ومع الوقت وزيادة القوة المالية للشركة، أصبح ما كان وليد ظروف خاصة، سياسة منظمة للسيطرة على عالم الكومبيوتر الشخصي. ومع انطلاق شبكة الانترنت حاول غيت استعمال الاسلوب نفسه للسيطرة على الشبكة واقتصادها الصاعد، فاشترى حقوق أول نظام بحث على الشبكة من شركة "موزاييك" واطلق عليه اسم "انترنت إكسبلورير" وجعله جزءاً لا يتجزأ من نظام تشغيل "ويندوز" الذي يجهز الكومبيوترات. وهكذا حين يشتري المستهلك كومبيوتراً شخصياً، يجد أنه مجهز بنظام انترنت خصوصاً ميكروسوفت مجاناً. ويقول غيت في سياق الدفاع عن نفسه: "ولكن هذا أسهل للمستهلك...". ويجيب القضاء ومعه المتضررون من هيمنة ميكروسوفت ان تثبيت نظام العمل على الشبكة مع نظام تشغيل الحاسوب يحسم قضية اختيار المستهلك الذي يحصل مجاناً على ما يربطه بانترنت، فلا يكلف نفسه عناء شراء نظام آخر وبرمجته. لكن الخطر ان ميكروسوفت قامت ببرمجة نظام البحث الذي تجهز به "ويندوز" بشكل يجعل كل مستعمل يريد التنقل على شبكة انترنت مضطراً للمرور بموقع ميكروسوفت. سياسة الكرة الثلجية وقد كانت شكوى "نيت سكيب" وشركة "ماكنتوش" وراء اهتمام وزارة العدل الأميركية ومكاتب مكافحة الاحتكار في العمل على وضع حد لهذه السياسة الاحتكارية المنظمة، خصوصاً أن غيت بدأ قبل سنتين بتطبيق ما يسمى ب"سياسة الكرة الثلجية"، مستفيداً من ثروته الهائلة لشراء شركات تقديم الخدمات على شبكة انترنت ودمجها، وحصر استعمال برامج البحث من قبل مشتركيها ببرامج ميكروسوفت. ولا ينحصر النقد الموجه لسياسة ميكروسوفت في الناحية الاقتصادية التجارية، بل يتعداها إلى الناحية التقنية. ذلك ان احتكار السوق يحد من التنافس التقني بين الشركات، ويلجم المواهب ويساهم في تراجع نسبة الاكتشافات الجديدة ومحاولات تحديث الشبكة ونظمها. ومن هنا جاء قرار القاضي الفيديرالي الأميركي الذي نص على تجزئة الشركة العملاقة إلى شركتين: الأولى تضم كل الفروع المتعلقة بأنظمة التشغيل "ويندوز"، والثانية تضم الفروع التي تعالج البرامج مثل "اوفيس" و"اكسبلورير" و"هوت ميل"، كي تصبح عاملة على كافة أنظمة التشغيل وليس "ويندوز" حصراً. كذلك أمر القاضي بأن تتم عملية التجزئة ضمن مهلة قصيرة جداً، يبدأ التطبيق خلال 3 أشهر عبر فترة مراقبة "حسن سلوك الشركة وتصرفها"، على أن يقدم مسؤولوها خطة عمل لتجزئتها خلال أربعة أشهر. كذلك منع القاضي إمكانية إعادة دمج الشركتان قبل عشر سنوات على الأقل، ومنع كذلك إمكانية حمل اسهم الشركتين معاً لكبار المستثمرين. وعلى رغم قرار غيت استئناف الحكم، فإن كل المؤشرات تشير إلى أن المحاكم العليا ستثبت الحكم... وقد تذهب إلى أبعد من ذلك بفرض غرامات جزائية، خصوصاً أن المحاكم وإدارة محاربة الاحتكار تستعد لبداية حملة جديدة على شركات توزيع خدمات بطاقات الاعتماد المصرفية كونها تحتكر السوق عبر ثلاث بطاقات فقط... تطبق أسعاراً واحدة... من دون منافسة